عيد القيامة

الأب سيمون عساف

 

يُطلُّ علينا العيدُ الكبير في المسيحية كل عام. نعم إنه عيدها الأكبر، لأنه تحويل الموت بالقيامة إلى حياة من الزوال إلى الخلود. إنه المحورُ الذي حوله تدور العوالم والأزمنة، فهو العيد الفاصل في مجرى الحضارات الذي منه تنطلق الحقائق وإليه تعود. كان وما زال نقطة ارتكاز تاريخ الإنسان. كان سليل آدم قبل التجسُّد والمجيء يطوي على غصص مُمضّ ولوعة عراك مدمِّر مع مصيره المشؤوم ورحيله اليائس وأجله المحتَّم. جُبِل ‏الإنسان من جسد وروح، بعد (انقطاع آخر نفسه) تذهب روحه إلى العالم ‏الآخر، وقدرة الروح على سرعة الحركة، هي عقيدة سومرية أصيلة، أخذها عرب ما قبل الإسلام وشبهوا روح المقتول بطائر سموها "الهامة"، حيث يصيح قبل الأخذ بثأره: اسقوني! اسقوني..! وهنا أصل الثأر القبلي. وعند الفراعنة كانت تفتح طاقة إلى رجعة الروح وعند الفينيقيين كان طائر الفينيق يحترق وبعد ثلاثة أيام ينفض رماده ويقوم وهناك ديانات متوسعة بهذا الصدد لكن حديثنا عن قيامة الرب يسوع المسيح المُظفَّر.

 

كان الكون انتظار مُخلِّصٍ  يُنهض الساقطين ويقيم المائتين وينقذ العقل المخبوط بالحيرة والإبهام. وفي ملء الزمن شاءت المشيئة" فنزل من السماء(...) وصار إنساناً وصُلِبَ عنا  (...) تألَّم ومات وقُبِر وقام"،  آخذاً ما لنا واهبا ما له، موحِّّدا لاهوته بناسوتنا وناسوتنا بلاهوته".(من القداس الماروني). به تمَّت النبوآت وتبدلت حركة التاريخ وابتدا العهد الجديد.

 

هل يفهم العقلُ كيف تأنَّس الله ثم تألَّم ومات وقبر وقام؟

هذه أسئلة رافقت التفكير وأقلقت وجدانه وخضَّت الضمير!

 

فكما خلقنا الله على صورته قادرين وعلى مثاله خالدين، كذلك يقول أشعيا أخذ صورتنا فحمل عاهاتنا وأخذ أوجاعنا"(متى :8 ) انكسر بسبب خطايانا وعليه وقع إثم كلنا وبضربه شفينا. هو البار المتألم الذي عنه تنبَّأ الأنبياء في العهد القديم بأنه سيأتي ويُصلَب ليَصلُبَ عارنا ويموت وفي اليوم الثالث يقوم منتصراً ناهضا جبارا. أما هكذا بشير الأمم قال: أين شوكتك يا موت وأين غلبتك يا جحيم؟ لو لم يقم المسيح لكان تبشيرنا باطل لكنا أشقى جميع الناس؟ ونحن على مدار الهنيهة نقف ومسرحية الخلاص بوجهيها نصب عيوننا، وإله الفداء الذي عُلِّق لأجلنا على خشبة يحدَّق فينا افقا رائفا، ماذا فعلنا إلى الآن لنحصل على ملكوته؟ دُعينا لنكون قياميين أي أن نقوم بالمسيح من مغاطس ذلنا والمهاترات اليومية ومن مغامس وحول المشاهي والميول حاملين الموت السائر بنا إلى ظفر القيامة. لكي نكون مسيحيين صالحين ومؤمنين صادقين يجب أن نصارح نفوسنا، ‏هل بمستطاعنا شراب الكأس التي شربها المسيح؟ هل فعلا نقبل الصليب وما واكبه من طعن ولعن وشوك ومسامير وإسفنج وخل وتفل وحراب  وجلد وتعذيب وامتهان وهوان؟ بأمانة نجيب إن ما صنع يسوع المسيح سيدنا هو ذروة في البطولة والقداسة والتضحية والكمال. لسنا نتكلم عن  سيرة حياته بل عن صلبه المأساوي على العود حتى قيل في الكتاب : ملعون من عُلِّق على خشبة! ونعترف بأننا أعجز من الضعفاء ينهشنا الهزال والوهن وحتى الآن لم نخترق جوهر العقيدة ونبلغ إلى العمق. إن المسيحي الذي عرف أن يحمل صليبه ويتدرَّج في معراج القداسة المسيحية هو مسيح آخر يجترح المعجزات ويعمل الأعمال التي عملها المعلم. أما قال يسوع إذا آمنتم بي وعشتم مثلي تنقلون الجبال باسمي؟

 

يوم نصبح شرفاء أوفياء نعمل تماما مثلما عمل الرب أمامنا وعلَّم، يوم نصوم ونصلي و نعرف أن نضحِّي ونعتصم بالفضيلة السُميا ونصنع الخير مع أخوتنا في البشرية المتأوهة، يوم نتمرس على المحبة والغفران ونتعالى عن الحقد والبغض والنميمة ومخالفة الوصايا والترفّع عن توافه الأرض والتعلُّق بما هو للخير والحياة، حينئذ نكون قد قمنا من كهوف نفوسنا المنتنة وأكواخها الحقيرة المُعدَمة. نحن خمير العجنة البشرية وملحها، هل يلمس ويستنشق الناس فينا رائحة المسيح الطيبة؟ هل نحن نور العالم وسلوكنا أعوج مشبوه ومشكك، فالويل لمن تقع على يده الشكوك ، كان خير أن يعلَّق في عنقه حجر الرحى ويزج في البحر. أساليبنا في التعاطي مع أخوتنا تكون أغلب الأحيان مميتة قاتلة. إن هذا العيد هو سانحة للتأمل في آلام السيد المسيح إذ لا نستحق أن نقول المسيح قام وهو ما زال ميتا فينا. ولكي يقوم علينا بالتوبة وتغيير مسرى حياتنا فنقوم من سقطاتنا ونتمرد على معاصينا ونحيا معه وحينئذ يقوم المسيح ونقول حقا قام .وبذلك تغتبط السماوات لأنه فرح عظيم في السماء بخاطيءٍ واحد يتوب.

 

عيد الكبير إذاً هو قيامة الإنسان نفسَه من ظلامه وضلاله والشرود. إن المسيح سيدنا قام منذ 2000 سنة، ليس بحاجة إلى أن يقوم. إذا موضوعنا هو نحن، نحن مشكلة ذاتنا والعيب فينا والذنب فينا وكل الآفات تأكلنا. لنغتسل من خطايانا ونتألَّق ونتلألأ في عيد الفصح ونعود إلى المصالحة مع ‏الذات والدخول في دهاليزها رغم الإرباك لإنارتها بالنعمة القيامية الغالبة، فنمسح البغض بالمحبة والحقد بالغفران والضغينة بالتسامح والشر بالخير والفتور بالصلاة . إن الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم. فليضىء نوركم هكذا ليعرف الناس أنكم تلاميذي. هذا ما أوصانا به ربنا يسوع ‏المسيح. يطيب لي أن أتمنى لجميع المسيحيين رجعة صافية إلى الجذور إلى الإيمان الحق إلى الحياة المسيحية النقية الساعية إلى تحقيق القيامة المجيدة والخلاص الشامل. المسيح قام حقا قام.

 

27 أذار 2005