أين صباح لبنان؟

الأب سيمون عساف

ثلاثون سنة ولبنان في ظلمات السراديب لا يلمح بصيص نور للخلاص. شعبه يعاني غوائل  الأهوال، مما يجعلني أردد ما قال الخوري يوسف الحداد معلم جبران:" ويلٌ لشرقٍ بِلا قاف وبلادٍ بِلا دال". ويكرُّ شريط المأساة من دون أن يعرف نهاية.

ماذا ترانا نكتب عن نكباتنا وماذا لا نكتب ونحن على كل صعيد مضروبون بالإفلاس؟

حتى على مستوى الطوائف عظامنا نخرة ممروضة تفشى التعصب في أعصابها والعروق.

لا نريد أن نتناغم لنبني معاً الوطن الذي يحضن بنيه، فكيف نسمح وإلى متى بهذه الفوضى المخزية وهذا الانفلات الأليم؟ بأية لغة نتخاطب لتحاشي الكوارث النازلة بنا جميعاً والتي ستدمر البيت على رؤوسنا من دون أن يكون هناك كاسب شوط أو رابح معركة؟

يتذاكى البعض على البعض الآخر وكل يبطن في نيته غير ما يظهر، والإجرام في كل ذلك هو هذا التخفِّي المفضوح المكابر المتنكر. نلخص الصراع الطويل العريض والمُزمن بين المسيحي والمسلم. إننا كمسيحيين نريد الحوار ونريد التفاوض ووضع الأمور العالقة في نصابها والقضايا المطروحة والمشاكل القائمة على بساط البحث حول طاولة مستديرة يكون لسائر الفئات تمثيل فعلي فيها وجدي لها من دون انتقاص من حق أو قيمة أحد.

هذا ما ندعو إليه غير مترددين لإيجاد الحلول الناجعة لأزماتنا ومآزقنا الدقيقة في المفاصل التاريخية الحاسمة.

نرفض الاقتراحات الواردة من الخارج من أين ما أتت لأننا لسنا قاصرين لنلبس أثوابا مُخيََّطة عند الغرباء. إنه بمقدورنا كما أعتقد حياكة الألبسة التي نتذوق حينما نتفق وننسجم لإعلاء عمارة الكيان لأجيالنا.

لا، لسنا بحاجة إلى أيادٍ غريبة تدس الشوك بين خيوط الأقمشة التي تصدِّرها منسوجة لنا خالصة، ولا فرق عندها كانت على القياس أم لم تكن. نرفضها مبهبطة متهدلة لا تليق بأحجامنا وقياساتنا؟

منذ الاستقلال كنا نقتنع بالتعايش ومررنا بمحطات وخبطات معيبة، واستنتجنا أن لا مفر من القبول بالآخر مهما اختلفنا. نبتعد ونقترب بمقتضى عوارض العدَّان الطقسي وغيار المناخ.

طاقم البرلمان اللبناني عندنا من طراز السياسة المَُسَوَّسَة. وأغلب المسئولين نهشهم النتن والعفن. وحده العمود الصامد الذي لا يلوي هو الموقف المعتدل الذي ننهج والرامي إلى إرجاع العجلة على سكتها للمسير بشكل طبيعي بتعددية المجتمع ورأفة بالناس المساكين  الأبرياء.وهذا نابع من تجارب فاشلة ومفيدة في آن، صارت لنا أمثولات لتقويم الاعوجاج.

علمتنا الأحداث أن لا منفذ إلا بالتعايش المشترك شئنا ذلك أم لم نشأ.  إن كل محاولة غير هذه هي عبثية مهما تناطح المتطرفون وتباطح الأصوليون. ليس بإمكان أحد حذف أحد من الشرائح المتواجدة على ساحة البلاد، وليس بمستطاع أحد الانتصار على أحد، ومن العار بمكان أن نتجاور وكأننا نقيم في جزيرة أفاعي نعضض بعد فحيح مرعب عاقصين بعضنا بأنيابنا الفاتكة التي لا ترحم.

وبالرغم من كل ذلك نتجمَّل بالحكمة عملا بقول السيد المسيح: "كونوا حكماء كالحيات". إن زعماء الطوائف مسترسلون في الفسق والفساد، وينطقون باسم جماعاتهم دون حياء أو خجل. ها نحن نستفسرهم بدءً بسعد الحريري سائلين، ما شأن السعودية في قراراتنا القانونية ودستورنا، موجهين نفس السؤال إلى حزب الله ما شأن إيران عبر سوريا بمسائلنا الداخلية الصرفة؟

ولماذا يُطلب من المسيحيين أن لا يتطلعوا إلى الغرب للانهماك بشجونهم أسوة بالبقية  الباقية؟ أو تجمعنا إرادات طيبة ونيات صالحة لمعالجة أوجاعنا للاستشفاء أو ننذر البلد للدول الأجنبية كي تضع يدها فتأخذ عنا القرارات لأننا عجَّزٌ ضعفاء لا نستطيع مداواة عللنا لوحدنا ولا يمكن أن نصل إلى نقاط جامعة تؤمن لنا التعايش باطمئنان وأمان وسلام.

إن كتابنا لا يتعاطى بأمور الدنيا لأنه يحيلنا إلى دنياه الحقة. هل لكتاب غيرنا ذات التطلع والهدف؟ إذا كان الجواب إيجابيا فلا إشكال بينا ونحن على طرق التوافق والرضا. أمَّا إذا كان الجواب سلبياً فحضورنا مزعج لغيرنا والقضية عويصة جداً حلها يتم بالتقاتل الذي لا تحمد عقباه. لنتصارحن بموضوعية كلية ولو لمرة من دون مواربة دافعين بالكذب عنا إلى الهوة.

لماذا لا يتفق أهل الوطن الواحد وهم يزايدون على بعضهم بالوطنية والانتماء إلى لبنان؟ لا المسيحيون يقدرون على تحويل لبنان مسيحياً ولا المسلمون يقدرون على تحويله مسلماً. يبقى عليهم إذا الرضوخ إلى الواقع والتسليم للمنطق.

من هذا العرض القصير وهذه النبذة المختصرة وهذا المنظور الواضح نؤكد بأن التعايش المشترك وحده الكفيل بجعلنا شعباً راقياً أمة متقدمة ومجتمعاً راقياً من عداد الأوطان المتمدنة المتطورة. فلا إيران ولا سوريا ولا السعودية ولا أميركا ولا فرنسا ولا قوة بين الملائكة الأبرار والأسرار ترد اعتبار لبنان للبنانيين ما لم تنحن الكبرياء عند جميع الأفرقاء ليستمر مجد لبنان فوق وأعلى من كل المصالح والأنانيات الرخيصة المغرضة.

أرفع ندائي للمسلم والدرزي والمسيحي منذرا إياهم بالزوال ما لم يجمعوا على التفاهم والسير بسفينة الوطن إلى المرسى الأمين. كفى يرسف وطننا في غياهب الدياجير والهوية واحدة والتراث واحد والتقاليد واحدة والعادات واحدة والانتماء واحد والتاريخ واحد والقيم والأخلاق والآداب والشيم واحدة. أو نحترم بعضنا وما لنا من مخزون طارفٍ وتليد أو أولى بنا الحريق وتعليق حجر الرحى في أعناقنا ويُزج بنا في أعماق البحر طعاما للتنانين والحيتان. والسلام للشرفاء الأمناء الذين تغريهم أرزة خضراء رمز الدوام والخلود والى لبنان وشعبنا ألف تحية ومحبة واعدة بالأمل والنجاة.

عسى الأفق الجديد يحمل لنا بشرى القيامة والى اللقاء تحت ظلال سنديانة عتيقة شامخة على جبالنا في أرض الآباء والأجداد الراقدين تحت ترابنا الخاشع المخصاب بالبطولات والقديسين والأوفياء.

وأخيراً نترك علامة استفهام: أين صباح يا لبنان ومتى تشرق شمس سيادته الحُرَّة واستقراره الموقَّر واستقلاله المُبين؟

23 كانون الثاني 2006