أفقر غداء مع أشرف إنسان

الأب/سيمون عسَّاف

 

منذ 15 عام كانت حرب تحرير شعبنا من ضغط كابوس واستعادة سيادة وطننا من استعباد جيشٍ سوري محتل غاصب،  شنها أنظف رجل عرفه تاريخ سياسة لبنان بقديمه والجديد، هو بذاته قائد الجيش اللبناني آنذاك ورئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون الباسل. أقولها لا انحيازا ولا تزلفا ولكن بموضوعية منزَّهة عن غرضية الغايات. أطلق العماد يومذاك الصرخة العالية كلمةً ومدْفعا مُدَافِعاً عن قضية شعب ومصير وطن، فخض وخاض غمار المغامرة حتى لفت انتباه العالم شرقا وغربا. وكان بقوة حضوره الجذَّاب ينادي الناس للتعبير عن مطالبهم فلفَّت القصر الرئاسي حشود الجماهير والوفود بشكل زنانير بشرية يفوق وصفها ابتكارات الخيال. تعلق به أحرار لبنان من كل لون ودين شاعرين  فيه القائد الشريف واجدين الرائد النظيف المنقذ الذي لاغبار عليه ولا حتى على حذاء ينتعل.

 

ولكن موآمرات الدول حاولت طمس نبوآت الرجل وقرآته المستقبلية بصورة نقية لا تخضع للغلط والتهور والانتقاد. وكلامنا الآن، الواقع المؤلم شهود له وعليه. كان الرجل صاحب رؤيا واضحة وخطاباته حينذاك تدل الهنيهة هذه على صحة مصداقيته الصائبة. كانت ثوابت عليها ارتكز لا تزال من المستهل الى الختام هي عينها ألا وهي انسحاب الجيش السوري من كل لبنان واسترجاع السيادة للبلد والحرية للشعب والكرامة للفرد والاستقلال للكيان.

 

دفع ثمن المواقف هذه قهراً ومنفى ومحاربة وافتراء وأحيانا خيانة واعتداء، ناهيكم عن سطو على الحقوق والأملاك والسمعة التي لا يوصمها عيب ولا يلطِّخها عار. ونحن على ساحة الحاضر نسمع أغلبية اللبنانيين الذين كانوا بالأمس القريب مع السوريين ضده يلصقون على صيته الاتهامات جذافاً ومن دون حياء، ويشتمون بعبارات نابية وينحون باللوم والجنون وإلى ما هنالك من بذاءات ويدعون بأنهم خشبة خلاص الوطن، هم ذاتهم يعودون للمناداة بالثوابت نفسها التي رفع راياتها العماد ميشال عون ولوَّح بيارقها مذ كان في قصر الرئاسة الأولى. ليتهم يتلون اليوم فعل الندامة أمامه قائلين خطيئتنا عظيمة جدا أيها الجنرال الرائي ببصيرة أبعد من التي لنا والقاريء بلاحظة أثقب من نظرنا.

 

عاد جميع الذين حاربوه بالحديد والنارونعتوه بأوصاف وألفاظ تترجم مستوياتهم الى حيث ابتدأ منذ خمسة عشر سنة لا بل علُّوا السقف أكثر منه وزايدوا على ثوابته. هنيئا لنا فيهم وفي رجعة الابن الضال الذي شطر وعربد وزنى، ها هو يركع في محراب التوبة مُردداً : "أغفر لي يا أبتاه لأني خطئت الى السماء وأمامك".

 

لماذا تأخروا في بلادي عن قافلة الأحرار والمحررين حتى دفع لبنان الثمن باهظا قهراً وعذاباً وموتاً وإذلالا وفقراً وتهجيراً وهجراناً ووو؟ ما ذنب الأبرياء الذين منذ البدء حملوا المشعل وثاروا في موكب الحرية فسقط لهم شهداء وبُوِّرت لهم أرزاق وقطعت لهم أعناق وكُمَّت لهم أفواه وسُجن لهم مساجين ومُزِّقت لهم عائلات ووو؟

لتغمر أجنحة رحمات الله الذين سبقونا ورحلوا الى ديار الحق لربما دماؤهم وآلامهم واستشهادهم وقهرهم كان سبب الهداية والخلاص لأولئك وهؤلاء. أتت الساعة التي يتمجَّد فيها لبنان وينهض منتصرا بعد طريق ومراحل عذاب طويلة. وأخاف من الجزارين الذين جلدوا بلادي وذبحوها 30 عاما أن يستكملوا سلسلة الإجرام قبل الفراق عاملين بالمثل الدارج :" يا رايح كتِّر القبايح".

 

على كل حال، صدقت نبوآت دولة رئيس الحكومة السابق معالي العماد ميشال عون وأنصف الله أصفياءه وخائفيه. سينسحب السوريون طوعاً أم قسراً ولي أن أكرر قولا للأخضر الإبراهيمي يوم كان يفاوض العماد عون بالذات منذ 15 سنة إثر انتهاء حرب التحرير متناولا معه الغداء فسُئل :" ما رأيك في غداء العماد المتواضع"، فأجاب: "أفقر غداء مع أشرف إنسان". فلا يتشاوفن أحد ولا يزايد على الشخص الشجاع البطل الذي كان رائد التحرير وكنا معه نعاني ونتلقَّى غضب رجم  ونقمة قصف مدافع الأشقاء الأشقياء السوريين المدمرين الحاقدين.

 

لم تبرد ذاكرتنا ولم تمحَ رسوم الحقبة المأساوية الدامية من مفكِّراتنا. ليتذكر كل ناسٍ ويلاتنا وضحايانا وأهلا وسهلا بالعائدين بعد شرود وتعنُّت وضلال الى حضانة الأخوة الدافئة وإلى الأبد لن تعود تلك البشاعة المزركشة بالخيبات والجهل والغباء، والبربرية والتخلف والعمى. يا مرحبا بكل راجع ينضم إلى سربنا فخورا معتزا فالبيت لكل الأبناء المقيمين والمغتربين وليغفر إله المحبة  لنا أجمعين ويجمع شملنا تحت أفياء الأرز الخالد.

 

21/2/2005