وحدة الجبل هي خشبة الخلاص

الأب سيمون عساف

 

كان الجبل اللبناني ولم يزل حلم الرجال ومعقل الأحرار الحصين.

اقتحمته الجباه السُمر مشمِّرة عن سواعد مفتولة، وعرٌ عصى على الغزاة والطامعين والطغاة والفاتحين. ربما بسبب شموخه وتطلعه إلى فوق شدّ أليه الأشدّاء.

توافد الموارنة قبل أن يعرف التاريخ دعوة وفتوحات. سكنوا الأعلى من القمم نشْداً لحرية عقيدة وعقيدة حرية رافضين أن يتزلَّموا لداخل أو يستزلموا لدخيل.

لم يُخِفْهُم اضطهاد شاهدين للحق في سبيله مستشهدين. وتوالت القرون زاخرة بالأحداث الداميات، فصمدوا أحراراً وقاوموا صيانة لكرامة وحصانة لاستقلال. واستمر العنفوان عنيداً من دون أن يستقر لهم حال. هل كانت لهم رؤىً في صنع وطن مستقل من قبل أن تعرف أمم الشرق أوطاناً؟ تجيب البداهة بمنطقٍ المدرك العاقل:

نعم كانت خيام البادية ضاربة أطنابها في الرمل تسكنها القبائل الطيبة بحضارة عربية تُحترم وإنما بدائية يشغلها الغزو.

 

أجل كانت هناك الأخلاق الشافية والقيم الوافية والآداب الكافية والتقاليد الصافية. بينما كان في الجبل شعب ينحت الصخر الخشن بأصابعه اللينة، يخصب التراب ويقتلع الهشيم من أرض ترحِّب بالقادمين إلى مقادسها. وكانت زغردة المقالع بأحجارها تصفق طرباً مرصوفة مداميك مجد في دُور عزٍّ للنازلين جُدُدا ديارها.

هجم الرومان وتقهقروا والفرس ورحلوا والعُرب وانكفئوا مرات ومرات.

 

وبعد ردح من زمن لحق الدروز بالموارنة منضمِّين إليهم هرباً من إبادة عشائر أخرى لهم حاطين الرحال في وادي التيم منسجمين لبناء عمارة مجتمع سيكون فيما بعد لبنان.

 

ثم أتى الأشياع إثر مجازر كربلاء فقصد قسم منهم جنوب البلاد لاحقاً حتى حوى وطن الأرز ثلاث طوائف مضطهدة منكوبة على أمرها مغلوبة.

ولكم كلّفت هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة من سفك دماء وتناتش وتناحر ومذابح ونعرات إلى أن أخذت حجماً دولياً واستقلالية ذاتية كان الموارنة لها الروَّاد والقواد وفي البطولة الطلائع.

 

وخلفت جيوشٌ جيوشاً لم يبقَ منها إلا آثر بعد عين وشنائع تخجل الأجيال منها وتعرق. ونختصر المراحل إلى الأمس القريب بمخلَّفاتها البشعة وذكرياتها السوداء، خلاصتها الشواهد والعبر.

 

كان انسحاب للجيش السوري الذي أُفلِت له الحبلُ على غاربه فارتكب الجرائم واقترف الأغلاط ومارس البشائع التي تقشعر لها الأبدان. عظام الجدود الراقدين في مقابرهم عندنا وتراب الآباء تتحرك في سكينتها رافضةًً فظائع القتل والكمائن والمتفجرات وكل أشكال الهمجية والبربرية العائدة إلى عصور الحجر.

لعب الموت بنا سحابة ثلاثين سنة لحياة لبنان، فودعنا نخب شباب منهم من مات ومنهم من هاجر عدا عن خراب الأرزاق والممتلكات وحرائق الأعناق ودمار الأسواق.

 

والآن نحن ننتفض من تحت الرماد كطائر الفينيق الرامز للقيامة والخلاص في أسطورتنا الفينيقية الخالدة. وكأننا نعود إلى وصايات جديدة فنسمع تارة نداءً من هنا وأحياناً تمنيات من هناك تجترع حلول على مقاسات مصالحها وتوزع حصص وتحدد هويات على مزاجها.

 

هل ترانا قاصرين عن تفصيل أثواب على قياسنا في بلدنا حتى يخيطون لنا أثواباً من الخارج دخيلة علينا فيلبسونا إياها غصباً، ولا فرق لديهم قصيرة كانت أم طويلة، على القدِّ أم واسعة طاهرة أم مدنسة. وحيد همهم حفظ مصالحهم واستعمالنا أدوات وآلات تخضع للمستفيدين منهم والمستبدِّين. لنا أزياءنا التي من نسيج عشتار فلا نريدها جاهلية مزركشة.

 

هذا الفصل التمثيلي الذي يُحاك لينفذ على مسارحنا وعاه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بقوة وبصوت عال صارخ، وإن بعد طول تريث وانتظار!!

 لقد "بيضها" البيك وليد أمس في كل ما قاله مع المذيعة شذا عمر، من على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال ضمن برنامج "الحدث". سمى الأشياء بأسمائها بجرأة، بين مكامن الخطر واقترح الحلول في أطار الدولة القوية واتفاقية الطائف. فضح المؤامرات والمتآمرين وشهد للحقيقة لعلمه الأكيد أنها وحدها تحرر وتبقي الجباه عالية. هذا وكان "البيك" أعاد التواصل بالجنرال ميشال عون الذي بدوره هو ركيزة استقلالية وسيادة "بطرسية" ومدرك بوعي وعقلانية لهذه المهزلة الفارطة.

حصل تلاقي في وجهات النظر وحول المصير المشترك والسعي حثيث للالتقاء بالرؤيا وتوحيد الرأي والإمساك بالثوابت والمسلمات.

 

لقد قام لبنان منذ البدء على أهل الجبل، فلا يجوز رغم ما زرع الأعداء من أحقاد وحقنوا من فتن أن ينزلق القرار إلى الطارئين والمارقين. إن مقولة العيش المشترك تتخَّطى أشكال الدين لا سيما في لبنان لأنه مأوى أديان كريمة شريفة لا تحصى ولا تُعد.

 

ولو لم يكن الجبل لما كان لبنان، لأن أهل الجبل في الأصل هم الأصائل، ولبنان من دونهم لما كان لأنه بغيرهم يرجع إلى مفهوم الأمة. لِذا احتراماً للإثنيات الأخرى وُجد هذا البلد لا لتذويبه أو لتعذيبه بل لإعماره وازدهاره وتمدنه.

 

في هذا المنعطف الخطير بات من الحتميات أن يلتئمن الشمل ويتناسى الجميع الحزازيات  ويسلكون بصراط مستقيم هادف إلى الائتلاف والتعالي بغية الحفاظ على الإرث الثمين من الأجداد وتسليمه وديعة سليمة إلى الأحفاد.

 

أبناءُ لبنان يقررون وحدهم نواميسهم والطقوس نابذين كل مستورد ومفروض إذ لا ينقصهم فكر ولا ثقافة ولا مستوى ولا أساليب في التعاطي المرتقي.

وإن كان الخطر مُحيقاً إلا انه يتبدد كالدخان حين يتفق أهل الجبل ويعقدون الخناصر بكل العناصر مصممين على البقاء.

 

أهلا بوليد جنبلاط ومرحى بالجنرال عون مستنهضاً الهمم قائلا:

 شبابٌ خُنَّعٌ لا خيرَ فيهم     وبوركَ بالشبابِ الطامحينا.

على رجاء النصر           إنَّا انتظار والله نِعْمَ الوكيل

 

مونتريال في 13 شباط