زيارة لبنان

الأب سيمون عساف

 

شهر آب مليكُ الجمال، تاجه قمر الصيف، أرجوانه الشمس وعرشه الجبل الناهد إلى مدار النجوم.

قمت إلى مملكته اللبنانية بزيارة من كندا بعد غياب جاوز الخمس عشرة سنة. حنيني يلعج مشتاقا يفطَّره لظى الهجران، يحن إلى أهلٍ وخلاَّن وأرض وشعب وطبيعة ومناخ. ليلة عيد انتقال سيدتنا العذراء إلى السماء حطت الطائرة في المطار. أما شعوري المتلاطم كالموج على الشطآن فلا حرج في وصف خفقانه والخلجات، كان فعلاً أبعد من شرود الفكر وأوسع من مساحة الألفاظ. أطللت متزمّلاً بالعباءة الرهبانية على المنتظرين وصول القادم، ففاجأني الوفد الحاشد بحزمات الزهور العابقة محبة وإيمان ورجاء. واللحظات كأنها مُفلتة من عقال الزمن لِما للمسرَّة من انفعالات بين الحنايا تجيش وفي مطاوي الضلوع.

 

وصل "الأبونا" المعروف "بشاعر القصر" أو "راهب بعبدا"، يسحب خلفه الوقار الرهباني وخيلاء انتصار العائد إثر اغتراب كاد يكون من دون رجوع. ثم علت عواصف التصفيق الحاد يرافق ضجيجها اللاهب نبضات الأفئدة المرتعشة وهيصات الزلاغيط  ودقَّات قلوبٍ لا تصدِّق إياب راهب إنسان عانى الوجع وكابد الأمرَّين في منافي قصيّة لا ترحم ولا تلين. كان موكب سيارات يصحب المسيرة إلى غباله –فتوح كسروان حيث أبصرت عيناي النور، وإذا باليافطات المعلقة تواجهني طول الطريق من جونيه إلى غباله عليها تعابير تترجم شوق الانتظار: لفتني  بيت شعر في العامية من كتابي "راهب بعبدا":

إلنا خمستعشر سنه تشق الضباب    يا نسر قاطع ناطرينك تا تجي وما أن بلغ موكب السيارات بلدة غباله حتى اشتعلت سماءها بنار الابتهاج والحبور وعلت أصداء  الألعاب الاصطناعية ترج الأرض والفضاء رجَّاً.

 

وكان البيت الوالدي الحزين يستعيد ليالي ماضيه والعز الذي فقد، مستقبِلاً ابنه الذي غدر به الزمن فغادر إلى البعيد منذ عقد ونيف.

وماذا عن أم بلتها التجاريب برحيل زوج وصبية على المطل وسفر ابن كاهن إلى وراء المحيط، تصعِّد على درج الثمانين تنتظر أن يعود ولد غاب، وإذا الحُلم ينقلب حقيقة وحنانها يشهق ويزفر مرحباً بالضَمِّ والقُبََل ودموع الفرح تتلألأ على الوجنات والمحيا يتألَّق من لقاء وعناق، والجماهير تتوالى والرقص يتمادى والطرب يأخذ مداه في بيت حرمته الأحداث 15 سنة من السعادة واليُمن والهناء.

 

أجل كانت أجنحة الغبطة تترنح وأطياف الأمس تُرجع للبيت مجده الفقيد والحركة المستمرة تشرَّع الأبواب بعد إغلاقها سحابة من الدهر عمرها طال. ثم كانت احتفالات روحية حاشدة أنَّى منها أبَّهة المهرجانات الفخيمة نظراً لكثافة الحضور الوافد وللخطباء والشعراء والأدباء والزاجلين.

 

كل فعاليات المنطقة من نواب ووزراء وضباط جيش وأطباء ومحامين وسلك دبلوماسي ومعارف وأصحاب من كل الوطن قصدوا تهنئتي بالرجوع فكان شهر طويته في لبنان بين العزائم والولائم والزيارات والاستقبالات من أروع وأبدع مرحلة في الحياة وكأنها صورة عن جنتي الأُخروية رأيتها في هنيهات.

عساي أعود إلى الوطن بعد انكشاح الضباب وانقشاع الغيوم لقضاء أيام النهاية تحت وقار سمائه والاستسلام للنوم في خشوع ثراه.

 

هناك أجداث الأجداد التي هي عندي أعز وأغلى ما في الكون على قلب إنسان، لأنها تحضن أرفتة الرجال الوجهاء النزهاء الأشراف النبلاء أهل أصالة والعراقة الطيبون غمرهم الله بحنو الرحمات. هناك المستوى يرقى إلى الأرقى ويعرِّج على الآداب والأخلاق والقيم والشيم والتقاليد والعادات.

وعلى الفور اتصل بي الجنرال ميشال عون لتقديم التمنيات بالإقامة الميمونة والوصول السعيد على أمل اللقاء به لاحقا.

وكان لنا لقاءات وجولات وصولات حول المستجدات المستتبة على مسرح الآونة في بلادي. وكانت ذاكرة تستذكر ما سلف وذهن يستقرىء ما يحدث وذكاء يسترئي ما يحصل غداً.

على وعد جديد ورجاء مجيد وخلاص وطيد وقيامة  عتيدة أختم سطوري هذا المساء.

 

10/10/2005