9 شباط تذكار أبينا المعظّم القديس مارون

الأب سيمون عساف

 

يوم كانت البدع تعبث فساداً في ذلك القطيع وتلكَ الديار، اشرقت أنوار أبينا مارون القديس العظيم على جبال قورش من سوريا في الشمال، فهدَت إلى الحق النفوس وروَّت القلوب. أبو الطائفة المارونية هو ورافع لواء إيمانها وبيارق أمجادها مدى الأجيال.

 

علاّمة ومؤرخ شهير أتى على ذكر مآثر ومآتي المتنسّكين العظام، أسقف قورش الجليل هو، تيودوريطوس كاتب: "تاريخ الرهبان والنساك"  وفي طليعتهم "مارون الإلهي" كماخلع عليه التسمية

 

" يقول المؤرّخ: زيّنَ مارون وجمل، أسراب القديسين المُشرقين المتوشّحين بالله ومارس فنون التقشّفات والفضائل والاماتات والتضحيات تحت قبة السماء، دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها إلاّ ما ندر.

 

"وكان هناك هيكل وثنيّ قديم على جبل، كرّسه مارون، حسب قول تيودوريطس وحوَّله معبدا مخصّصا للصلاة واللقاء بالإله الواحد، يصرف الساعات بذكر الله واطالة الركوع والسجود والتأملات في الكمالات الإلهية، ثم ينصرف إلى الوعظ وارشاد الزائرين وتعزية المصابين وسكب نِعَمٍ وبركات للطالبين.

 

"و يضيف المؤرّخ، لم يكتَفِ مارون بكل هذا ، بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكُملى، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال فيكون جزاء المحارب على قياس العمل. وبما أنّ الله جواد غني كثير الاحسان إلى قديسيه والأصفياء، منحه موهبة الشفاء فذاع صيته في الآفاق فتقاطر الناس إليه من كل حدب وصوب. وكان جميعهم علموا أن ما اشتهر عنه من الخوارق والعجائب والمعجزات هو واقعيٌّ وصحيح، وبالحقيقة كانت الحمى قد خمدت من ندى بركته والابالسة أخذوا في الهرب والمرضى بَرئوا بدواء واحد هو صلاة القديس. جعل الأطبّاء لكلّ داء دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواء شاف من جميع الأمراض".

 

ولم يقتصر القديس مارون على شفاء أمراض الجسد بل تخطاها فصار يبرئ أمراض النفس أيضاً. ويختم الأسقف الكبير بقوله: "والحاصل أن ألقديس مارون أنمى بالتهذيب والمثل جملة نباتات للحكمة السماوية وغرس لله في هذا البستان فازدهر في كل نواحي القورشية".

 

اعتزل مارون الناسك الشهرة وعلى قمة ذياك الجبل اختلى، فشهرته أعمال التقى وعرفُ قداسته عبق وانتشر. ذكرَه البطريرك القديس يوحنا فم الذهب في منفاه الذي سببته عظاته ضد فساد القصور في بيزنظيه، وكتب إليه تلك الرسالة النفيسة تحت عدد 36، العابقة بما كان بين الرجلين من محبة روحية وأخوّة في المسيح واحترام قال:"إلى مارون الكاهن والناسك. إنَّ رباطات المودة والصداقة التي تشدّنا إليك، تمتلك نصب عينينا كأنك لدينا، لأنّ عيون المحبّة تخرق من طبعها الابعاد ولا يضعفها طولَ الزمان. وكنّا نودُّ أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقَّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنّا نهدي إليك أطيب التحيّات ونحب أن تكون على يقين من أنّنا لا نفتر من ذكرك أينما كنّا، لما لكَ في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنَّ أنت أيضاً علينا بأنباء سلامتك،  فان اخبار صحّتكَ تولينا، على البعد أجل سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسنا كثيراً، اذ نعلم انّك في عافية. وجلَّ ما نسألكَ أن تصلّي إلى الله من أجلنا". (في مجموعة مين للآباء اليونان مجلد 72 عمود 63(.

 

وما أن طارت سمعة الكاهن مارون الناسك حتى تكاثر عدد الرهبان وتنامى حوله فأقامهم اولا في مناسك وصوامع على الطريقة الانفرادية، بحسب عادة تلك الايام، ثم انشأ أدياراً وسنَّ لهم قانوناً وقام يرشدهم في طريق الكمال. وتعدّدَت تلك الأديار المارونية ولا سيما في شمال سورية، حتى أنّ تيودوريطس اغتبط بوجودها في أبرشيته المزدهرة.

 

وكانت اللغة السريانية آنذاك لغة المنطقة بأسرها، فمن الطبيعي كان أن يتسع امتداد أتباع القديس مارون الجغرافي إلى أن شملَ لبنان الأشم.

فارق الدنيا مار مارون الى عالم الآب سنة 410.

 

عاش أبونا القديس مارون ومات متنسكاً عفيفاً، ولكنه لم يمت وأبناؤه الروحيون المشرَّفون باسمه، ينتشرون الوفا تحت كل كوكب. غير انّ المارونية ترعرع كيانها في لبنان وفيه بسقت دوحتها واورف ظِلُّ أغصانها على أنحاء الدنيا. وما زال أبناؤها، مغتربين ومقيمين، يستشفعون كل حين، أباهم القديس مارون، صارخين إليه:

باسمكَ دُعينا يا أبـانـا         وعليكَ وطّدنا رجانـا

كُنْ في الضيقات ملجانا         واختم بالخيـر مسعانا.

 

من سخاء المصلوب تكرَّم على رفات النائمين في وقار صمت تلك الأمكنة هي عظام الجدود القدامى في أحشاء أرض القورشية الخاشعة. ثم دفِّقِ الرحمات على تراب بنيك في لبنانك المشتاق الى أنداء رأفتك، واغدق على كنيستك المنتشرة في كل مطرح من روحك مع أبنائك يوحنا مارون وشربل ورفقا ونعمةالله القوة والإيمان والرجاء والمحبة. باركنا من سماك ولُمَّ الشمل تحت أجنحتك الى يوم العرض.

 

*****بتصرُّف عن السنكسار بحسب طقس الكنيسة الانطاكية المارونية.

مونتريال 9-2-2005