إلى أبينا القديس مار مارون

الأب سيمون عسَّاف

يوم كانت سوريا تضج بلغتها السريانية وتعجّ بالمتكلِّمين والمُصلِّين بين خشوع الأروقة وتحت صمت القبب، كانت الهضاب والسفوح والبطاح في جبال لبنان تترنَّح على وقْع الميامر ورجْع الأناشيد. وكانت المنطقة بأسرها في الأوْجِ من سوريا إلى العراق إلى الأردن إلى فلسطين إلى لبنان سريانية اللهجة والمهجة والنهج والمنطق. والمناسك في مستهل الجيل الخامس كانت تأخذ أيضاً نصيباً. توفي ناسك يُدعى مارون حوالي سنة 410 بعدما عاش سيرةً عزلة عجائبية خارقة.

تألَّق نجمه في سماء الواحِدِين فتقاطر إليه الناس من كل حدب وصوب عُرف بالقديس مارون.

على جبل" نابو" في قورش من أعمال أفاميا طوى أيامه زاهداً مُتقشِّفاً مُجترحاً معجزات وأعاجيب باسم مَن له العمرَ نذر.

في العراء كانت حياته على الأرض مقتفياً آثار المُعلِّم القائل: " للطيور أوكار وللثعالب أوجرة أمَّا ابن الإنسان فليس له موضع يُسند إليه رأسه"(لوقا9\57).

من الطبيعي كان أن يُكرِّم المؤمنون أصفياءهم لا سيما من هم بعظمة مار مارون،  شادوا تيمُّناً باسمه ديراً فخماً أمَّه زائراًً كلُّ عطشان إلى البر وكل جائع إلى التقوى، وتجمهر الناس حوله للتبرُّك والتضرُّع والاستشفاع والانتفاع.

هكذا كُتِبت رحلة شاقة على أهل ذلك المكان قوامها انطلاقين: أولا تكوين كيان روحيٍّ رهباني يشمل الجماعة كلها، ثانياً رحيلٌ قاسٍ ونزوح إلى الأرض (لبنان) التي سيريها الله لهم تماماً كما خليل الله ابراهيم أبِ المؤمنين : "إنطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي سأريك"(تكوين12\1). فحملوا أمتعتهم وعقيدتهم وحريتهم وساروا على ضوء الإيمان بالله وبالشفيع إلى العالي من الشُمّ للاتصال بالأعلى.

من ليس مفلَّس بعلم التاريخ يعرف بأن الكنيسة انشقَّت آنذاك بين شرق وغرب إثر انتهاء مجمع خلقيدونيه 451.

سبب الخلاف كان على طبيعة المسيح إنسان كامل أو إله كامل الذي يُعتبر اليوم خلاف لفظي. كانت جماعة سوريا الثانية السريانية تُحبِّذ مجمع خلقيدونيه الذي تزعَّمته روما والقسطنطينية والذي يقول إن في المسيح طبيعتين كاملتين عكس أنطاكيه والإسكندريه اللتين تقولان إن في المسيح طبيعة إلهية تمتصّ الطبيعة الإنسانية.

فانشقت أنطاكيه بدورها إلى شطرين:  قسم ضد خلقيدونيه وهم السريان الذين لُقِّبوا أورتوذكس، وقسم مع خلقيدونيه وهم السريان الذين لقَّبهم أخوتهم الأورتوذكس موارنة نسبة إلى اسم ديرهم دير مار مارون.

وبدأ الخصام والاضطهاد والاستشهاد بين مناصر لمجمع خلقيدونيه ومناهض له. كان سريان سوريا الثانية أي الموارنة الوحيدين الخلقيدونيين في الشرق. يمَّموا وجهتهم إلى سريان لبنان الذين سبق وبشَّرهم تلاميذ مار مارون كإبراهيم الناسك وسمعان. وهكذا التحقوا بأخوة لهم وصعَّدوا في الوعر حتى يحوِّلوه ملجأ للمظلوم والشريد والطريد والملهوف.

سكنوا تلك الجبال العاصية لأسباب ثلاثة: لتأمين حرِّيتهم، لِصَوْنِ عقيدتهم وللاعتصام هرباً من الأعداء والمهاجمين. كانت في سوريا معارك وصولات بين أبناء البيت الواحد مِمَّا اضطر الموارنة أن يُفضِّلوا جبال لبنان الشامخة الجرداء مع السيادة والحرية والحُكم الذاتي على سهول سوريا الخصبة التي هجروها إلى غير رجوع. وهكذا كَثُرَ عددهم وتنامى إيمانهم وحافظوا على تعلّقهم بكرسي بطرس في روما حتى كوَّنوا كنيسة وأقاموا بطريركاً وردّوا مسيحيين إلى الكثلكة وبنوا وطناً وخرَّجوا علماء وقديسين وأبطالا وفرسانا فكانوا رياديين على كل الصُعُد.

واليوم كما الأمس لا الخط ينقطع ولا الرسالة تتوقَّف ولا الوطن يزول طالما هناك شعبٌ منفتح قائد رائد يُهدي العالم جُدُداً وقدماء هو شعب القديس مارون العظيم.

كندا – مونتريال في 9/2/2005