الطرد والوعد

بقلم/الأب سيمون عسَّاف

لوى الضعف جدنا آدم فارتكب المعصية لتحبل الخطيئة والخطيئة تلد الطرد والموت. ران سكون في الجنَّه وبكى الفردوس آدم وحوَّاء فلفَّت أشباح الشقاء أرض العذاب. وتمُطُّ مسافة الزمن إلى إبراهيم، ليكون أب المؤمنين نابذا الآلهة الغريبة بوحيٍ سماويٍّ ذاهباً إلى أرض كنعان. فأطلّ وحيده إسحق الذي رُزق يعقوب (هؤلاء بطاركة)، وهذا أنجب اثني عشر ولداً عُرِفوا بأسباط إسرائيل الإثني عشر. خَصَّ يعقوب يهوذا بالبركة لأن من صلبه يأتي شيلو(أي المسيح) وتطيعه الشعوب. (تكوين 49). يتنَّقل شعبٌ على محطَّات القرون ليُصبح مختاراً،

ويدخل اليهود أرض بلاد النيل مع يوسف الحُسن وزير فرعون.

أما مع موسى وعصاه السحرية شاخصاً أمام الفرعون، فتتضح تلك العصا العجراء بالآيات البيِّنات والعجائب المرعبات (خروج2-5)، يُخرج اليهود من عبودية مصر، يحرر يشرع  ويأتي بلوحَيْ الوصايا من لدُن الرب، ثُمَّ يموت الكليمُ مُلتاعاً في البرية محروما من أرض الميعاد قائلا:" دعني أجوز فأرى الأرض الصالحة التي عبر الأردن، هذا الجبل الحسن، ولبنان!"(تثنية3:25). وذلك قصاصاً له لأنه لم يقدس اسم الرب عند ضربه الصخرة التي تفجرت بالماء لارواء بني إسرائيل في العبور.

 قُبيل مماته تنبَّأ بما سيحدث فقال: "ويقيم لكم الرب إلهكم نبياً من بينكم، من إخوانكم مثلي، فله تسمعون"( تثنية18:15). من هنا انبثقت الفكرة عند اليهود على أن المسيح سيكون قائداً رائداً كموسى وفاتحاً جباراً كيشوع.

تولى يشوع بن نون القيادة وكان النصرُ له حليفا. دحر واحداً وثلاثين ملكاً ودحرج التيجان وثلَّ العروش، وبعد أن دانت له الأرض وخضعت الشمس رقد رقاد الأبرار تاركاً وصيته لشعبه: الطاعة والعبادة والإخلاص لله ولأوامره المقدسة.

وحين رحل يشوع بقيت إسرائيل بدون قيادة. فتولَّى الزعامة قضاة أشهرهم جدعون وشمشون وصموئيل. ثم طلبوا قيامة ملك عليهم أُسوة ببقية الشعوب. فمسح صموئيل النبي شاوول بنَ قيس ملكاً عليهم بأمر الرب. عصى هذا أوامر الله فرذله ومسح داوودَ بْنَ يسَّى مكانه ملكاُ على إسرائيل. كان داوود صديقاً باراً حتى قال الله عنه: "إني مَسَسْتُ قلب داوود بن يسى فرأيته مثل قلبي". غير أن خطيئته المزدوجة جعلته يندم عليها ندامة صادقة، دوَّى صداها في بطون الأجيال. أسس المملكة الداودية ناهضاً من أوطى دركات الذل والعبودية إلى أعلى درجات التوبة والحرية. لأن "من يعمل الخطيئة يصبح عبدا للخطيئة، ومتى حرركم الابن صرتم أحراراً حقا". جدد الله مواعيده معه على أن المخلِّص يأتي من صلبه، إثباتاً لِنبؤة يعقوب لابنه يهوذا. ورث المُلكَ ابنَه سليمان ولكن إثرَ موت سليمان انقسمت مملكتُه إلى قسمين، إسرائيل – ويهوذا، وذلك بسبب انحراف سليمان عن عبادة الله إلى عبادة الوثن. فكانت حروبٌ بين المملكتين، كما عبد بعض ملوكِهما الأصنام. رغم الشذوذ والكفر والفساد بقي الله تعالى محافظاً على ولائه والعهود لأمَّةٍ نكرت إحساناً وإنعاماً وخيرات. شاء إعداد تاريخ الخلاص بواسطتها، فكان يرسل إليها رجالا صالحين، يُبلغونها إرادته القدوسة ويُنبئونها بالمستقبلات وبمجيء المخلِّص الموعود منذ البدء.

تعاقب الأنبياء مدة أربعماية سنة، يتغنُّون بقرب مجيء المسيح المخلص، شارحين أوصافه والصفات، باكين أوجاعه والآلام، معتزين بموته والانبعاث منتصراً على آخر عدو هو الموت. حدَّدوا الزمان والمكان لمولده، حتى إنهم لم يتركوا شيئا من محاسنه وقد تم ما قيل عنه بحذافيره.

1-اشعيا بن أموس، تنبَّا عن يسوع مُعيِّنا ولادته من عذراء ونسبه وصفاته والمعجزات والآلام،(7:14) و(11:1-11) و (35:5) و(3:53)

2-- دانيال، حدد زمن مجيئه (9: 24)

3-ملاخيا، تنبَّأ عن ظهور يوحنا المعمدان ليمهد الطريق(3: 21)

4- زكريا، ذكر بيعه بثلاثين من الفضه(12:11).

5-داوود، تكلم عن شهود زور (مزمور12:26) واشعيا أيضا عن جَلده (6:50) وإرميا يذكر صلبه (19:11) وداود أيضاً يذكر الاقتراع على ثيابه (مزمور18:21)، ونبوآت أخرى كثيرة من بقية الأنبياء لم نأتِ على ذكرها اختصاراً نختتمها عن القيامة (مزمور10:15).

أمَّا نبوآت الوثنيين عن مجيء المسيح فهي عديدة:

في الصين، يقول المطران كاس في كتابه عن حياة يسوع، كان يُنتظر أن ينزل الإلَهَ كنيسته من السماء ويسكن بين البشر.

والهنود كانوا يتوَّقعون تجسُّد برهماً ليقتل الحيَّة كاليكا.

واليابانيون كانوا يترجُّون حضور إله ليعلم الناس ويعوِّض عن خطاياهم.

والمجوس كانوا يعلمون أن الإله مترا سينتصر على أهريمان، الروح الشرير ويجمع الناس بمكان واحد ولغة واحدة. وشعب مصر وإفريقيا كانوا يتوقعون مجيء البطل هورش ليقتل الحية الضخمة عدوة البشر. وفي أميركا كانوا يترجون أن بورو سيرسل ابنه ليقتل التنين.

أما كنفوشيوس، اشهر فلاسفة وحكماء الصين، الذي ظهر سنة 551 قبل المسيح. قال:

"سيظهر شخص عظيم في العالم، تكون أعماله موافقة لشرائع السماء والأرض. ومما لا ريب فيه أن ذاك المنتظر القدوس، سيستعيد إلى الفضيلة عند مجيئه، الشرف الذي كان لها قبلا".

وأفلاطون الفيلسوف، كان يردد ذات الكلام: "يجب عليكم الانقطاع عن تقديم الذبائح، وتنتظروا الله الذي سوف يأتي برحمته لخلاصكم، أو أن يأتيكم رسول من السماء يعلم البشر واجباتهم نجو الله والناس". وسقراط كان يترجى حضور حكيم يصلح الإنسانية. وبلاطون يقول: "لا إصلاح للإنسانية بغير مرسل من الله". وبالتالي كان الأوروبيون القدماء يكرمون إيزيس البتول، التي سوف ترسل ابنها لخلاصهم. وقد أبصر الرومان لمَّا.

كهنة الدرويد يقدمون العبادة والإكرام  GAULE على استولوا للبتول التي ستلد.

أما أنبياء الوثنية الذين بشروا بالخلاص فهم:

1- سيبيل، من الأريتره في ايطاليا، تنبَّأت قائلة: "انه سيضيء في المشرق نجم عجيب يهتدي به مجوس إلى طفل مضجع في مذود. 

2- سيبيلله، من كوما في إيطاليا أيضا، تنبَّأت قائلة: إن العالم سيتجدَّد بشرائع سامية جدَّا. أنظروا العذراء التي هي عنوان السعادة الحقيقية! إن نسلاً جديداً سينزل من أعلى السماوات. 

فيرجيل شاعر روماني شهير، ذكر قبل الرحيل في قصيدته الرعائية الرابعة، هذه النبؤة بقوله:

" هوذا الزمان الذي بشرت به سيبيلله كوما! ها إن سلسلة الأجيال الجديدة تبتدىء! ها إن ذريَّةً جديدة تنحدر من السماء العليا! بميلادك أيها الطفل قد توارت شمس العصر الحديدي وأشرقت أشعة العصر الذهبي في العالم بأسره. بك ستُمحى أثار أثامنا وتنجو الأرض من الارتياع الذي ما برح منذ أزمان مديدة مستولياً عليها.

من ألطف النبؤات وأطرف لأحد علماء الرومان القدماء، دفع لذويه قبل وفاته صفيحة نحاس نُقِشَ عليها عبارة: "المسيح سيولد من بتول، وأنا مؤمن به، يا شمس انك سترينني مرة أخرى في عهد إيرينيه وقسطنطين!".

حتى الأصنام تنبىء عظماء القياصرة بمولد المسيح.

اغوسطوس قيصر في السنة الثانية والأربعين لِمُلْكِه، الموافقة لسنة 751 لبناء روما، استنبأ الإله أبولونعن سبب سكوت الأصنام. أجابه أبولون الصنم: إن الذي أبكمها طفلٌ ولد بين اليهود". ولما أراد الملك معرفة ما إذا كان يوجد أعظم منه على وجه الأرض، أجابته النبية سيبيلله الرومانية، وقد رأت عندئذِ دائرة ذهبية حول الشمس في وسطها عذراء ذات جمال فائق، على صدرها طفل باهر البهاء، فأومأت إلى أغوسطوس وأرته هذا الطفل قائلة: "أُنظُرْ، ها قد وُلِدَ ملِكٌ أعظم". ثم ظهرت العذراء عينها في الكابيتول، تضمّث بين ذراعيها طفلاً، فبُنِيَ مكان ظهورها هيكلٌ على مدخله مكتوب:" هيكل المولود الأول من الله".

أخيرا ًتصديقاً لِما جاء في أنبياء الله وأنبياء الوثنيين وعلمائهم، في يوم ميلاد المُخَلِّص، تفجَّر ينبوعُ زيتٍ صافٍ، في أحد لأماكن روما استمرَّ يتدفَّق النهار كله.

ذلك كان رمزاً لِدماثة أخلاقه ووداعته. وقد شُيِّد هناك كنيسة كبيرة تُعْرَفُ إلى يومنا هذا بكنيسة "مريم وراء التبر".

ويتلظَّى في أورشليم (مدينة السلام وأي سلام)،  من بعد بناء الهيكل حنين اليهود إلى مجيء المسيح. ويولد الطفل-الإله "الممسوح بدهن الفرح" والأقنوم الثاني، ويلبس الضعف والاحتقار لخلاصٍ من هلاك، من أسر الشيطان والخطيئة. ولكيلا نُجهدَ قوانا في البحث عن أعمال الله التي لا تُدرك، أراد أشعيا أن يختصر الطريق، فقال بلسان الرب: "إن أفكاري ليست كأفكارِكم، ولا طُرُقي كَطُرُقِكم"(55\8)

وجُلَّ ما يدركه العقل هي محبة الله نحونا، جعَلَتْه يترك عرش مجده في السماء ليتردَّد ما بيننا ويؤنسنا ويبقى معنا إلى آخر الأيام. "إنَّ تََنََعُّمي مع بني البشر" (أمثال 8\31).

وما الخطيئة سوى عذرٍ بسيط، جعلت الابن أن ينسلخ عن روح الآب ويهبط إلينا متصاغراً ليتشبَّه بنا، وجعلت القدِّيسين يرحِّبوا بها قائلين بفمِ أغوسطينوس:"سقياً

لك أيتها الخطيئة! 

إذ لولاك لما رأينا وجهَ يسوع مع أبناء التراب على الأرض". O felix Culpa!  

أما أسباب اتلاده مُمْتَهَناً في مغارة بيت لحم فنوجزها بما توصَّل إليه فهمنا البشري.

أولاً- أراد يسوع أن يسحق بالاتضاع  كبرياء الشيطان ويُملي كراسي السماء التي فرغت من الملائكة المتمرِّدين الهالكين.

ثانياً- ليحارب خطيئة أبوينا الأولَّين الحاوية جميع شهوات العالم والملَّذات. وقد اختصرها يوحنا الحبيب في رسالته1 (2\16) بكلمات ثلاث: كلُّ ما في العالم، إنما هو شهوة العين، وشهوة الجسد، وفخر الحياة". "فسببت شهوة العين اضطرام الشوق في قلب حوَّاء لأكل الثمرة المحرمة البهية المنظر. ولأجل ذلك المنظر أثارت فيها شهوة الجسد وقطفت من شجرة المعرفة ثمرة الهلاك". والهدف لتصبح شبيهة بالإله، وهذا هو فخر الحياة. لذلك حارب السيد المسيح بميلاده هذه الخطيئة بالجوع والفقر والاتضاع.

ثالثاً، لينزع عن عقولنا الغشاء الذي أرخته الخطيئة علينا بالمراغب والغرائز والميول، حاجبة عنا فرح السماء وسعادتها، وعلَّقتنا بحُطام الدنيا الفانية بعدما كبَّلتنا بالقيود، مانعة إيانا من الطيران بأجنحة الأفكار والأشواق إلى ما فوق الانزلاق في مغامس الطين، وصفرت الحيَّة-الشيطان وفغر الجحيم فاهه للابتلاع.

رابعاً- ويكون يسوع طبيب النفوس والأجساد، جاء ليداوي أمراضنا والكبرياء، إذ رآنا مشرفين على العدم، واصفا لكل داء دواء. داوى الكبرياء بالاتضاع، ومحبة الغنى بالفقر، وعبادة الذات بالتضحية. ولما كان هو رأس أطباء وحكماء هذا العالم، سار أمامنا ونهج لنا طريق الشفاء لأنه هو "الطريق والحق والحياة."

خامساً- لماذا أخَّر الله عمل الخلاص إلى ذلك الزمن؟ إن الله لم يشأ أن يخلِّص آدم حالاً على إثر خطيئته، لئلا تبطره النعمة فيرجع أشرّ مِِمَّا عليه كان. بل أراد أن يشقى أجيالاً ويتمرَّغ  بحمأة الخطايا أحقاباً من السنينن ليُقَدِّر مع أولاده نعمة الخلاص، فيعلمون أن لا بشر يشفيهم ما لم تمدد السماء يدها لإنقاذهم كما قال أفلاطون الوثني لليونانيين: يجب عليكم أن تنقطعوا عن تقديم الذبائح تنتظروا أن الله نفسه يأتي برحمته. أو أن يأتيكم رسول من السماء يعلِّم البشر واجباتهم نحو الله والناس.

أجل هو قبلة الأجيال والشعوب والأُمم يرقص الكون له غبطة قائلا: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر.أطلَّ المسيح المنتظر وجاء المخَلِّص ليخزي جور الحُكَّام المستبدين والطغاة الظالمين والرؤساء الغاشمين.

ظهر الملاك يطمئنهم: "لا تخافوا، فها أنا ذا أُبشِّرُكم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب، إنه قد ولِدَ اليوم المُخَلِّص، وهو المسيح الرب في مدينة داود. وهذه علامة لكم مني، إنكم تجدون طفلا مضرجاً بقماطات، مضَّجعاً في مذود" (لوقا 2\10). هو المُخَلِّص الموعود به حقاً لخلاص البشر.الانصياع إلى العنجهية العمياء جهالة والاعتصام بالإيمان الوطيد أفخر الفضائل.

وذكرى تجيء وأُخرى تروح ونحن نُدْعى للتجديد كلًَ عام بل كل يوم بميلاد يأخذ من قلوبنا معارة إلى الأبد.

أيها الإله-الإنسان، يا فاصلاً مجرى الحضارات وماسك العهدين، بك ابتدأ عهد في تاريخ الإنسانية و عهد بَطُل ، يا غاسل الآثام وناشل الصنيع من وحل المعاصي، ذكرى ميلادك لنا هزَّة تُصحينا من غفلةٍ وشرود إلى يقظة وانتباه، يا علَّة وجودنا وراحم جنسنا، يا ضميراً يحرِّك فينا صُوَرَ الحقائق الخالدة فنرى ذواتنا فيك ونراك في ذواتنا بعد غياب طال.

هبنا نِعَمَ الفهم والإدراك علَّنا ندرك ونفهم، امنحنا حُبَّ التعبُّد والخشوع عسانا نجيد فنَّ الصلاة والرؤى، علِّمنا أن نركع أمام جبروت ألوهيَّتك ونرحل عبر الثواني إليك بالتوق حتى اللقاء بضياء وجهك المسرمد. هو العالم اليوم يهفو إلى مذودك يستجدي سلامك ورضاك، أغدق عليه بركاتك، ولبنان المعتقل بين اللصوص يغتال شرفه الذُل والهوان، مُدَّ اليمين القادرة وخلِّصه مع الراجين حنانك الأمجد.

اشملنا بالخير والإحسان يا مآل المؤمنين بلاهوتك وناسوتك، وكُن لنا الملاذ والملجا حتى حضور الانقضاء.

كندا مونتريال 28 كانون الأول