الترصُّن

بقلم الأب/ سيمون عسَّاف

لم تزل ذاكرتنا ساخنة ولم يزل طيف حافظ الأسد السفَّاح الذي قصف بلادنا ودمَّرها ونسف وخطف خيرة شبابنا وقتل واعتقل وهجم ورجم وقمع وأرهب ونهب حاضرا في البال. لا عن تشفِّي وانتقام أستذكر ولكن عن احترام لدماء ضحايانا وعويل أبريائنا وقهر أهلنا وإفقار شعبنا والقضاء على مقوِّمات وجودنا ومقادس مجتمعنا. عبث جيشه بأرضنا وعرضنا وأهان أولادنا وذبَّح وقبَّح وجنَّس ودنَّس وعاث خرابا وارتكب الفواحش والمنكرات.

سجون سوريا ما كانت لِتَقِلَّ ظُلماً وإجراما عن سجون العراق وليبيا ومصر والسودان ووو. كان "صدَّام حُسين" في ساعات رُشده أشرف خلقِ الله، كانت الطيبة تجمِّله والرجولة والشهامة والكرم، بينما "حافظ الأسد" كان في كل مظاهره يبدو متثعلِباً خبيثا شريرا باطنيا بمعنى الكلمة الملآن.

هل حُسني مبارك في مصر يفوق هؤلاء آدميَّة والأقباط يعانون الويل والاضطهاد والاستشهاد؟ أو معمر القذَّافي الذي شجَّع على قتل المسيحيين في أول الأحداث ودفع ثمن رؤوسهم مبلغا أو غيرهم أشمُّ وأشهم؟

أعلنها بمرارة الخائب، إن المواطنين المسيحيين في البلاد العربية يشعرون ذواتهم ذمِّيين وأقل بدرجات، خائفين من الوحش متى صحا للنهش والافتراس.

إنهم على مرمى الشرق طرائد الخوف والتعصُّب والدين والدولة.

أخر صورة للبشاعة والشناعة ترتسم في الاعتداء على الكنائس وأهلها في العراق.

أستحلفكم بالله يا أغلب المسلمين، إن المسيحُّيين عالمون تماماُ بالنيَّات ويقدِّرون أفراداً بينكم تزيِّنها الأصالة والنبالة والكِبَر. لكن لا تُفرض العروبة فرضا على جميع الناس، ولا تُنْكَر الإتنيات الأُخرى كالسريان والآشور والأرمن والكلدان والأقباط واليهود واللاتين وغيرهم. هل تريدون القضاء عليهم وتذويب الهوية المسيحية هناك واللبنانية عندنا على حساب التخلُّف وتفتيت الكيان إلى غير رجعة؟ هل هذه هي عروبتكم  ولبنانيتكم والتعائش المشترك؟ أين المرؤة والإباء العربيتان؟

بأي شرق وأي لبنان تؤمنون إذن؟ كيف نتقاسم تاريخ وتراث وانتماء وتقاليد وعادات وقيم وشمائل وانتم تفضِّلون الدخلاء الغاصبين على أبناء شعبكم؟

فضَّلتم الوقوف مع الجيش السوري المحتل الغريب الطاغي الباغي الغازي جبالنا والتلال على المقاومة والصمود.  وحتى الآن ما زال شدُّ الحبال قائما بين الفئتين. كل شبر تراب تلوَّث بدعسات غريبة في أرضنا كان بمثابة مسمار في نعش شهيد غفا من أجل الوطن. لا نريد لبنان مسيحيا كما لا نريده مُسلماً، إنه وطن المساواة. سعادتنا حين يكون التنافس على الإعمار لا على الدمار.

إلى الساعة شباب مُغيَّبون في سجون الشقيقة، لا علمَ لنا عنهم ولا خبر.

ما هذه الذهنية الساحقة من المحيط إلى الخليج: أينما رأيتموهم قاتلوهم إلى أن تقتلوهم...لا أثيرها طائفية، ولكن لماذا يجوز لكم التهجّم وعلينا غير مسموح الكلام؟ نحن نتقن فنَّ المحبة ونجيده ونودُّ أن تبادلوننا نفس المشاعر والاعتبار.

كيف عاش الأبطال أجدادنا معكم وبينكم طيلة هذه القرون؟ هلاَّ فكَّرتم بذلك؟

كيف قابلوا المجازر والتشريد والموت كالخراف بين الذئاب؟

عذراً لم أنسَ "الشروط العمرية" وملحقاتها!

وتستكمل المآسي كأنها لديكم ملاهي تَعِدَكم بالحوريَّات والرحيق في ظلال سُدرة المنتهى.

بهذا الأسلوب تلتذُّ الآلهة وبهذا السلوك تبلغ شعائر الدين الأوج بالتعدِّيات على كرامات الآخرين؟ لا، لا يُفرَض الدين فرضاً وإلاَّ لا يكون ديناً. أيَّة سماء وأيُّ عدل يرضى بالشعوذات التي تُقترف بحق أتباع عيسى ابن مريم ولماذا هذا الشطط؟.

أُعلي ندائي للعرب والمسلمين أينما كانوا وحيثما حلُّوا كي يحافظوا على المسيحيين بين ظهرانيهم وعلى لبنان لأنهم وجه تثقيف للشرق بما فيه العرب والإسلام، وهم الرابحون

يعي المسيحيون رسالتهم فيحبّون ويشاطرون الإسلام العيش والمصير الواحد، في بغداد، في سوريا، في مصر، في فلسطين، في الجزائر، في السودان وأينما كان.

أدعو الجميع لإظهار حسن نية وتعالي واستضافة وحفاوة وإكبار وافتخار.

إحسبوا حساب للأخوَّة وترصَّنوا كي يأخذ النضج والانفتاح من كل شخص وكل  مجتمع مأخذا. والسلام عليكم.

مونتريال كندا 21/1/2005