مآسي التاريخ وعبقرية المستقبل

بقلم سجعان القزي – النهار 22/8/2005

مأساة لبنان الحقيقية انه لا يتوحد اكثر مما هو موحد، ولا يتقسم أكثر مما هو منقسم. كذا حاله منذ فجر العصور أكان أهله وثنيين أم مؤمنين، أكانت أرضه محتلة أم محررة، أكانت دولته مملكة ام خلافة، امارة ام قائمقامية، متصرفية أم جمهورية. فتنوع شعب لبنان يصعّب الوحدة  الناجزة، وحجم أرضه يمنع التقسيم الكامل، وأنانية سياسييه تزيد الوضع تعقيدا.

لم يذهب اللبنانيون في مشروع الوحدة حتى الانجاز الكامل، ولا في تزوة التقسيم حتى النهاية. الذين نادوا بالوحدة لم تحركهم دائما ارادة الوفاق، بل نزعة الهيمنة – بدليل الصراع على حكم لبنان. والذين امتحنهم التقسيم احيانا لم تخالجهم روح تقسيمية او انفصالية، بل قلق على أمن وحرية – بدليل انهم كانوا يدافعون عن كل لبنان (الـ10452 كلم مربع)، في عز اتهامهم بالتقسيم. ان للوحدة وللتقسيم في لبنان مفهوما افتراضيا، فكل لبناني ساوره التقسيم في مراحل، وشغلته الوحدة في مراحل اخرى.

هذا الواقع يفرز منطقين احدهما سلبي وهو: لماذا لا نقسِّم لبنان طالما لن يتوحد أكثر؟ والآخر ايجابي وهو: لماذا لا نوحد لبنان طالما لن ينقسم أكثر؟ كلما همّ اللبنانيون بتعزيز وحدتهم تقع أحداث تزعزع ثقة بعضهم ببعض، وكلما راودهم التقسيم يهبط وحي يعيد احياء ايمانهم بالوحدة. نزعتا الوحدة والتقسيم تتعايشان في لبنان وتتنازعان المواطنين كل لحظة، كالخير والشر، الفضيلة والخطيئة، الاخلاص والخيانة. ليس من ألم يصيب النفس البشرية، والمواطنية استطرادا، كالذي يشعر به المرء حين يحتار ان يختار بين شر (التقسيم) يتوهم منه خيرا، وخير (الوحدة) يتوجس منه شرا.

لذا يعيش اللبنانيون على خط التماس بين الوحدة والتقسيم ويخافون الانتقال من ضفة الى اخرى خشية خطأ في التقدير يدفعون ثمنه لاحقا (وكأنهم لم يدفعوا الثمن بعد). ولشدة ما عانى اللبنانيون من هذا التمزق التاريخي، بات موقفهم من الوحدة والتقسيم تعبيرا نفسيا أكثر مما هو شعور وطني، وباتت خياراتهم ردة انفعالية أكثر مما هي قرار استراتيجي. ونوعية الاصطفاف الطائفي في اثناء الانتخابات النيابية الاخيرة (من 2 الى 19 حزيران 2005) نموذج صارخ للردة الطائفية، بينما روعة التلاقي في تظاهرة 14 آذار نموذج بهي للردة الوطنية.

مأساة اللبنانيين الحقيقية ان الاحداث التي عادة توحد الشعوب (الحروب والثورات والاحتلال والاعتداءات الخارجية) تزيد الفرقة في ما بينهم – بدليل تكرار الاحداث الدموية بين عقد وآخر. وعوض ان يجلس اللبنانيون، ولو لمرة واحدة، بعيدا عن منطق الغالب والمغلوب ليؤسسوا دولة للجميع، "المنتصرون" منهم يستريحون قليلا لاكمال الجهاد لاحقا والحصول على مغانم اضافية، و"الخاسرون" منهم يتحينون اول فرصة علهم يستعيدون ما فقدوه. ومراجعة تطور موازين القوى بين اللبنانيين منذ سنة 1920 حتى اليوم تكفي للتثبت من هذا المسار.

مع ذلك يتمسك اللبنانيون بصيغة التعايش مخافة الاعظم، اذ في حال انقسام البلد، يخشى المسلمون فتنا مذهبية سنية شيعية (الحالة العراقية)، والمسيحيون اقتتالا في ما بينهم (الحالة الميليشيوية).  هذا يعني ان الصيغة اللبنانية باتت مجرد رادع أمني لحروب أهلية (شر لا بد منه) عوض ان تكون خيارا حضاريا لتعايش الاديان (خير لا بد منه). وهذا الواقع يكشف ان ارادة العيش المشترك نظرية تحد منها الوقائع اليومية (خلافات في الثقافة ونمط الحياة) وتدحضها الاحداث التاريخية (صراعات دموية وتباينات قومية). ان شعبا مؤمنا فعلا بالعيش المشترك ومصمما على انجاحه، لا يحول أزماته السياسية مواجهات عسكرية تهدم بلاده، ولا يحتكم الى الخارج مفضلا اياه على شريكه في الوطن.

حين تصمم جماعة متعددة الاصول الاتنية والدينية على ان تحيا معا في وطن حر، تتعلم من تجاربها ومحنها التاريخية وتوظفها في ترسيخ وحدتها، أما حين تتذرع بأي حادث لتتباعد فلا تكون حقا تريد الحياة المشتركة. في هذا السياق، يمثل شعب الولايات المتحدة الاميركية نموذج جماعة من أصول مختلفة أسست دولة مستقلة عن أوطانها الأم. فالشعوب الاوروبية التي استوطنت اميركا الشمالية في بداية القرن السابع عشر قطعت بعد أقل من قرن كل صلة لها قومية او سياسية ببلدانها الاوروبية واعتنقت هويتها الاميركية. وأكثر من ذلك: لم يتوان الشعب الاميركي عن محاربة "الدول الأم" في سبيل سيادته (معركة الاستقلال ضد بريطانيا سنة 1776)، وجعلِ "حرب الانفصال" بين الشمال والجنوب (1860 / 1865) قاعدة لبناء أعظم دولة اتحادية. أـما الجماعات اللبنانية، مع انها موجودة معا، هنا، منذ عشرات العصور، فلا تزال كل واحدة منها تبحث في دمها عن نقطة تجمعها ببلد ما فتؤيده ضد لبنان. ان تاثير "الدول الأم" ويا للأسف، لا يزال يلاحق الجماعات اللبنانية ويقض مضجعها وينغص وحدتها.

الخلفيات التاريخية تفسر (من دون أن تبرر) هذه المسلكية، فالجماعات اللبنانية تقاتلت كالوحوش الضارية قبل ان تأتي لبنان وبعدما أتته. علاوة على حوادث القرن العشرين، يبدو التاريخ المشترك لهذه الجماعات عدائيا، دمويا والغائيا. فما عدا تلك التي لاذت جبال لبنان آمنة ومؤمنة، غالبية الجماعات الاخرى أرسلت الى لبنان تباعا لا لتحيا معا، بل لتطارد احداها الاخرى ويتجسس  بعضها على بعض (حراسة الجبال والثغور والشواطىء والقوافل والحجاج ومراقبة أهل البلاد). وبين القرن الخامس وأواخر القرن التاسع عشر، تميزت علاقة تلك الجماعات بالعنف لا بالوئام. تقاتلت في انطاكية والقدس، في بلاد ما بين النهرين ووادي العاصي، في الشام والبقاع، في الشمال ووادي التيم، في عنجر والمنيطرة، في قب الياس وعين داره، في الشوف واقليم الغرب، في نهر الكلب وجسر الفيدار، في كسروان وجبيل، في طرابلس وجبة بشري، الخ. بين هذه الجماعات فتن البيزنطيون والخلفاء الراشدون والامويون والعباسيون والفاطميون والصليبيون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون والاوروبيون، فإذ  شعب لبنان في حقبات طويلة من التاريخ مجموعة اضداد تعمدت بالدم والفداء والتضحية والشهادة. انه لمؤسف ان تكون محصلة تاريخنا الجماعي سلبية فيما محلصته الفردية ايجابية.

وما يزيد الوضع اللبناني دقة هو الموقع الجغرافي. فمشكلة لبنان ليست فقط بوجود كل هذه العناصر الانسانية والمادية والروحية فيه، بل بوجوده أيضا، كما هو، في هذه المنطقة المشرقية بالذات وعلى اتصال يومي ووجداني وديني وقومي بأرض جاء  منها العديد من بنيه. لو كان لبنان في اوروبا أو اميركا أو افريقيا لهانت مشاكله، لكنه هنا:

هنا في جوار مراكز اقامة الآلهة والأنبياء والمرسلين، وبمحاذاة أرض السلام التي لم تنبت سوى الحروب. هنا على طريق الفتوحات والغزوات، ومحط رحال السلاطين والأباطرة والملوك. هنا على مسافة قصيرة واحدة من مسرحي التخلف والتقدم، الاعتدال والتطرف والعدد والتعددية. هنا في قطب العالم الملتهب والأديان المتفجرة او المتحجرة، وعلى قاب قوسين من الثورات وصراع الانظمة. هنا على تماس مع خط الاستواء بين كتاب الثقافة وبرميل النفط.

ما لم يجمعه المصحف بين علي ومعاوية جمعه لبنان، وما لم تجمعه خلقيدونيا وانطاكية والاسكندرية بين الكاثوليك والارثوذكس جمعه لبنان. ارادوا لبنان مرصد السماء والارض، ومختبر الهزّات الطائفية والمذهبية، وكلفوه بمهمة الحفاظ على مجد الفتوحات وارث الخلافات واجناس الملائكة، فاذ به يعيش قلقا فوق طبقات مكلّسة، على فوهة براكين، على منعطف قارات ووسط تضاريس الطبائع البشرية كافة. فئات ترفضنا لاننا قبلها واخرى لاننا بعدها والجميع يرفضنا لاننا نقيضه. القوة قضت على عددنا والعدد يقضي على ميزتنا. من ثقوب صيغتنا تسلل الغرباء، ومن تصدع وحدتنا نشبت الأزمات. فينا تعصف كل رياح الشعوب. نسكن في حالة الانتظار الدائم: منا من ينتظر القيامة مع المسيح، ومنا من ينتظر عودة الخلافة. منا من ينتظر عودة المهدي ومنا من ينتظر رجوع حمزة. لكن المأساة ان جميع هؤلاء قاموا او عادوا فيما كنا نتقاتل على ما لا نملك، وعلى شكل ما لاشكل له، وعلى لون ما لا لون له، متوهمين اننا، بقدر ما يسيطر بعضنا على بعضنا الآخر، نقصر مدة الانتظار.

ازاء هذه النظرة الحذرة (بسبب الماضي والحاضر) توجد اخرى مطمئنة الى المستقبل تعتقد ان الصراع الذي كان بين اللبنانيين على الكيان والدولة بات على الدولة فقط، بعدما اعترف المسلمون بنهائية الوطن اللبناني واسقطوا من حساباتهم مشاريع الوحدة العربية، حتى ان الصراع على الدولة هو ايضا في طريقه الى الحل بعدما تنازل المسيحيون في اتفاق الطائف عن جزء اساسي من مواقعهم وصلاحياتهم. لكن الواقع ان المسلمين اعترفوا بالوطن حين عددهم فاق عدد المسيحيين، وبالدولة حين حصتهم فيها تخطت حصة المسيحيين. وبعدما كان المسيحيون يسألون بكل تيه: "مَن للبنان؟"، يسأل المسلمون بكل زهْو اليوم: "لمن لبنان؟".

هذا التطور يتم، اذن، على حساب الوجود المسيحي ودوره وخصوصية لبنان وهويته المميزة، كما يتم على حساب الهدف، بل الحاجة التي من اجلها نشأت دولة لبنان الحديث مستقلة عن سوريا والامة العربية. ما كان هذا "اللبنان" ان يتثبت بحدوده الحالية لولا نضال مسيحييه، والموارنة تحديدا، ولولا قناعة الغرب (وحكماء العرب والمسلمين ايضا) بضرورة الاعتراف للمسيحيين بملاذ آمن في هذا المشرق يضطلعون فيه بخصوصيات سياسية قيادية اسوة بباقي الاديان المتربعة على دول الشرق الاوسط (هذا تاريخ لا سياسة). وما دامت العلمنة لم تنتشر كنظام سياسي متكامل في المنطقة، فالمعادلة الطائفية ستستمر في لبنان والمسيحيون لن يقبلوا الانخراط في تكتلات اقليمية اوسع.

بموازاة هذا التفسير التاريخي (الواقعي على وقاحته) يوجد منطق تقدمي (لا مفر منه على صعوبته) يقول: مهما كان الهدف من انشاء دولة لبنان الحديث، لا يجوز ان يبقى في بلد، يدّعي انه منارة الشرق، طبقية بين مواطنيه وتفرقة بين مسلميه ومسيحييه. لا يستطيع المسيحيون ان ينادوا بالصيغة ويستأثروا بمواقع السلطة في لبنان (كان يا ما كان)، ان يقدسوا التعددية ويتجاهلوا العدد، ان يؤمنوا بالمساواة وحقوق الانسان ويميزوا انفسهم عن الآخرين. لا يستطيع المسيحيون ولا يجوز لهم (خصوصا حين لا يقدمون الى مراكز الخدمة الوطنية اجود ما اعطت امهاتهم) ان يمنعوا الى الابد المسلم اللبناني من ان يصبح رئيس جمهورية وقائد جيش ورئيس مجلس قضاء الخ... ان مسيحيتي تنهيني عن ذلك علما ان بريطانيا العظمى – وهي ام الديموقراطيات في العالم – تمنع بنص دستوري منذ سنة 1689 وصول كاثوليكي الى عرشها مع ان عدد الكاثوليك الانكليز يتعدى الخمسة ملايين نسمة.

لا يأتي هذا الطرح من منطلق اختلال الميزان الديموغرافي بين المسيحيين والمسلمين (أين الاحصاءات الدقيقة وأين المهاجرون؟) بل من منطلق حضاري انساني. تحقيق هذا التطور التقدمي يستدعي توافر الاجواء الآتية:

1 – الفصل السياسي بين كل الجماعات اللبنانية ودول المنطقة وغيرها (كان السويسريون المانا وفرنسيين وايطاليين فصاروا سويسريين فقط لا غير).

2 – الانتقال من المرحلة المناطقية الى الحالة الوطنية الاتحادية (كان الفرنسيون لورين وبورغون وباريسيين ونورمان فأصبحوا فرنسيين فقط لا غير).

3 – التحول من الانتماء الطائفي الى الانتساب المدني (الاخذ بالـ"كمالية" التركية والعمل بعلمنة مرتكزة على قيم سماوية لا باستغلال مبدأ فصل الدين عن الدولة لالغاء الدين).

4 – الاعتراف بحق المغتربين اللبنانيين في الهوية اللبنانية وتوفير فرص ممارستهم حقوقهم وواجباتهم الوطنية.

5 – اعادة النظر في مرسوم التجنيس الصادر سنة 1994 واعطاء الجنسية لمن تتوافر فيه الشروط المرعية الاجراء فقط.

6 – وقف تنفيذ مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وطرح مشروع اعادة انتشارهم في سائر الدول العربية او اي دولة اجنبية ريثما يبت مصير حق العودة، على ان يتمتع الباقون منهم هنا بحقوق انسانية واجتماعية.

7 – ارساء مبدأ حياد لبنان (بعد توقيع السلام العربي – الاسرائيلي) فلا يبقى ارضا تتفجر فيها صراعات الاخرين وثوراتهم من آسيا الى الشرق الاوسط واوروبا وافريقيا.

هكذا يكون تبادل الصلاحيات والمواقع والامتيازات بين مواطن وآخر لا بين طائفة واخرى، ويخرج اللبنانيون من جدلية التنازلات الى منطق المسؤوليات. كذا ننقذ وجود لبنان الحر والموحد، نسدل الستار عن تاريخ مأسوي، ونفتح نافذة نحو المستقبل. وعبقرية اللبنانيين ان يجدوا اطارا دستوريا للحالة الفيديرالية القائمة منذ عهود بصورة غير شرعية.