الفتوى والدّعوى

بقلم أدونيس – النهار 25/1/2006

-1-

أميّز بين الدين والمتديّن، وبين "الطائفة" والفرد الذي وُلد فيها. وتبعا لذلك، أميّز بين الإيمان الديني، أياً كان، والموقف السياسي، الاجتماعي، الثقافي الذي يتبناه صاحب هذا الايمان. لا أناقش هذا المؤمن في دينه. أحترمه، وأدافع عن حقّ الإنسان في أن يؤمن بالدين الذي يطمئنّ اليه.

لكن، عندما يتكلم المؤمن باسم دينه على قضايا تتجاوز الحدود الروحانية الخاصة بالتجربة الدينية، الى "ارض" أخرى – ارض السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفن، والشعر، والعلم، فانه ينتقل من الخاص به، وحده، الى العام المشترك بين الجميع. وعندما يقوده هذا الانتقال الى ان يفرض على الآخرين أحكامه وأفكاره وآراءه في هذا العامّ المشترك، فإنه يمارس في ذلك نوعا من العدوان عليهم: يَسْتَتْبعهم، ملغياً هوياتهم الفكرية المستقلة. وفي هذا ما يسوّغ لهم الدفاع عن حقوقهم بمختلف الوسائل، القانونية والفكرية.

-2-

انطلاقا من ذلك، أعدّ "الدعوى" التي أقامها عدد من المثقفين اللبنانيين على الشيخ عفيف النابلسي، بسبب "الفتوى" التي اصدرها (21 كانون الاول، 2005)، ظاهرة تاريخية مزدوجة ثقافية وانسانية:

 

أ – ثقافية، لانها تطرح امام المثقف اللبناني تحديَ المسؤولية، تحديَ الملموس، المعيش، ناقلة إياه من ميدان "البيان" الى ميدان الممارسة، ومن طوباوية النظر الى محكّ العمل.

فمنذ اكثر من نصف قرن تمتلئ الاندية والمجالس، المجلات والجرائد، المنابر والساحات بالكلام على ضرورة الخلاص من الطائفية. لكن التجربة اثبتت انه لم يتجاوز حدود "البيان". وطبيعي ان يتحول هذا "البيان"، بفعل التجريد والانفصال عن الممارسة، الى مجرّد ثرثرة تتحول بدورها الى "حجاب". وهو "حجاب" يكاد يُسهم في الاغراء بـ"فضائل" الطائفية، و"ضرورتها"، فضلا عن "ديموقراطيتها" و"حرياتها"، و"إشعاعها". بل يُخيّل لمن يُشدّد على الممارسة ان "العلمانيين" يكادون هم انفسهم يتحولون "اعمدة" اخرى في "قِلاع" الطائفية.

ب – انسانية، لأنها تعيد المواطن اللبناني الى هويته، بصفته إنسانا، قبل ان يكون فردا في طائفة. فهذا المواطن يُحدَّد اليوم، في السلطة والسياسة والادارة، بانتمائه الى طائفته. ويقوَّم، ضمن طائفته، بمدى ولائه او عدائه لمن "ينطق" باسم الطائفة او "يمثّلها"، او يتولّى قيادتها. الجانب الانساني، الذاتي فيه، مُهمّش ومحجوب. كينونته ذاتها مهمّشة ومحجوبة. كأنما ليس هناك، في "المنطق الطائفي"، انسان لبناني، وإنما هناك "اسم" ينتمي الى هذه الطائفة او تلك، يُسمى لبنانيا.

"التبعية الرقمية" ابتكار لبناني، يحلّ محلّ الكينونة المتفردة.

-3-

التحية لمن أقاموا هذه "الدعوى". وتكراراً لا أجد فيها ما يمسّ الدين في ذاته، او ما يفض من شأن المقاومة التي تتبوأ في حياتنا جميعاً مكاناً فريداً ومكانة عالية، او ما يسيء الى كرامة الانسان. وهي، حتّى في ما يتعلق بالشيخ النابلسي، تنبّهنا جميعاً فيما تنبهه هو، على نحو خاص، الى ان علينا ان نقرن ما نقوله بمسؤوليتنا عن النتائج التي تترتّب عليه. الكلام، أخلاقياً، عمل. واللغة، أخلاقيا، خطر عظيم: ففيها هي كذلك، سجون وسلاسل، وفيها عنف وطغيان. ولذلك علينا ان "نَعْمل" كلامنا قبل ان نلفظه. دون ذلك لا يكون، ضمن ثقافتنا "البيانية" السائدة، الا لغواً. ولا يكون، بصفته لغواً، إلا عدواناً على الانسان وعلى اللغة، وهي هنا العربية التي أنزل بها الله وحيه الى العالم.

التحية لهم، لأنهم بادروا الى العمل للخروج من هذا التجريد الذي يُسمّى "الطائفة"، الى الفرد الكائن المشخّص. فهذه "الدعوى" انتصار للانسان، بصفته إنساناً، وهو الانتصار الألصق بذاته وهويته، والذي يجدر باللبناني ان يعمل له اولا، لكي يكون قادرا على ان يعمل للانتصارات الاخرى.

ولا شك ان في الطوائف الاخرى "شيوخاً" آخرين. ولعل "أبناءها"، وبخاصة مثقفيها، أن يجدوا في هذه "الدعوى"، حافزاً ومثالاً.

أدونيس