تعليقاً على مقالة الشيخ النابلسي

يتجاهل التوتر التاريخي بين الديني والسياسي

جورج نصري صفير –النهار 26/1/2006

اطلعت على مقالة الشيخ عفيف النابلسي "كلام في الفتاوى السياسية: وحدة الكيان السياسي والديني" ["النهار" 20 كانون الثاني 2006]ـ، بطريق الصدفة، في الوقت الذي كنت اراجع فيه كتاب "الايمان والنظام: التوفيق بين القانون والدين" (Faith & Order: The Reconciliation Between law & Religion) لهارولد بيرمان استاذ القانون المقارن بجامعة هارفارد سابقاً، وصاحب الكتاب الشهير الذي سرد فيه العوامل الدينية والسياسية في نشوء التراث القانوني الغربي كما نعرفه اليوم(). والذي لفت انتباهي لتوّه مدى التقارب والتضارب في الوقت نفسه بين وجهة النظر الاسلامية التي يعبّر عنها الشيخ النابلسي والمفهوم الغربي حسب البروفيسور بيرمان حول علاقة الدين بالقانون، الأمر الذي قد يثير الدهشة لدى بعض القرّاء غير المتخصصين في القانون المقارن.

فالعلاقة بين الدين والقانون لا تقتصر، كما يظن البعض، على المسألة المعنوية/ الأدبية [Morality] التي يسعى اليها كل من الدين والقانون، انما تكمن، كما يقول بيرمان، بالفاعلية الدينية للقانون والفاعلية القانونية للدين. فكلاهما يعتمدان على العوامل ذاتها في تصريف قيمهما وتوجيهها: الطقوس الاجرائية، التراث التاريخي، السلطة المرجعية، الدعوة العالمية الشاملة. الا ان هذه العوامل المشتركة عينها هي السبب في وجود حالة التوتر المستمرة بين هاتين القوتين في المجتمع، ان لم يتم حسم هذا التوتر دستورياً، كما حدث مثلاً في الدستور الاميركي الذي أباح حرية المعتقد ومنع السلطات من "تأسيس" او دعم دين ما.

اما الخلاف بين وجهتي النظر، بين الفقه والقانون، بين القدم والحداثة فمرده الى كيفية مواجهة حالة التوتر القائمة بين الدين والقانون على مر الزمن. فبينما يعمد الشيخ النابلسي الى التغاضي عن وجود مثل هذا التوتر بين الاثنين، وحتى عدم التفريق بين العبادات والمعاملات بقوله على لسان المجتهد آغا "مدرس"، "سياستنا عين ديانتنا وديانتنا عين سياستنا" يرى البروفيسور بيرمان في هذا التوتر ما يحمي القانون من قيام انواع جديدة من التيوقراطية التي تسعى الى تشريع عقائد دينية [dogma]، كما انه يحفظ من انواع جديدة من التسيس تسعى الى توجيه الدين نحو اغراض غير دينية [secular].

رأيان مختلفان لمفهومين متغايرين لعلاقة الدين بالقانون، الواحد لا يعترف بأي توتر بين القوتين، كأن الفقه اليوم تنظيراً وممارسة، ما زال كما كان عليه منذ 1400 عام، بوحدة الكيانين السياسي والديني، والآخر يعني حاجة المجتمع الحديث لحرية التعبير والمعتقد، متخطياً مرحلة العصور الوسطى عندما كانت المسيحية الغربية كالاسلام ذات سيفين: سيف مملكة السماء وسيف مملكة الدنيا، وطاعة "اولي الأمر" في الاسلام مثلها في المسيحية "مكلفون من عند الله" [Ordained by God] حسب قول القديس بولس في الانجيل [13:11].

من الطبيعي ان يُثار التساؤل عن دور الفقه والفقهاء وفتاواهم في الدولة الحديثة بمؤسساتها القضائية والتشريعية والتنفيذية. هل لا يزال الوضع في مثل هذه الدولة، كما يقول الشيخ النابلسي، بحاجة الى ترشيد من الفقهاء والعلماء العارفين بأحكام الشريعة، خاصة منهم من لا يفرّقون حتى اليوم بين فقه العبادات وفقه المعاملات التي تشمل كل المجالات التي ينظمها في الدولة الحديثة القانون بمعناه العام؟ فالفقهان ليسا من طبيعة واحدة، والعبادات احكامها تعبدية، عكس فقه المعاملات التي تقوم على مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد. فتوحيدالمنهج بين النوعين أضرّ بهما معاً.

() Harold J. Beyrman. Law & Revolution: The Formation of the western legal Tradition, Cambridge, 1983.