مورو نويي لو طقسو"

جان عزيز – البلد

25 فبراير, 2006

 لم يكن سيد بكركي ليتوقع ما حصل أمس، في أكثر ترقباته تشاؤماً. فبعد 5 أعوام ونصف على ندائه الاستقلالي الأول، وبعد 10 أشهر على تحقق هدفه الأول المتمثل في الانسحاب السوري، تزور وزيرة خارجية الدولة العظمى بيروت، لتبحث في مصير الموقع الماروني الأول في النظام، فتلتقي سياسياً درزياً واحداً وآخرين من الشيعة ومثلهما من السنة، ولا تلتقي من المسيحيين الا البطريرك.

الذين لا يعرفون صاحب الغبطة ولا يفقهون لاهوت "نعمة الحالة" في الكنيسة، يهمسون سراً أن سيد الصرح في أعماقه راض عن استمرار زعامته الزمنية والحصرية على المسيحيين. لكن الذين لا يجهلون الاثنين، يدركون ان ثمة مرارة عميقة وأسى احشائياً يعتملان في قلب الصرح.

ففي السبعين من عمره كان البطريرك يوم سقط كل الوطن مطلع التسعينات فأطلق بريادته وقيادته "تدبير الخلاص". بدأ الدرب بعظات آحادية وبيانات شهرية، وراح يحفر بالكلمة والعمل والصلاة: أول سينودوس فاتيكاني مخصص لبلد واحد، أول مجمع ماروني منذ 270 عاماً، أول مرة تصير كل السياسة في بكركي، أول مرة يقفل الصرح أبوابه في الميلاد، أول "مكتب سياسي" لمسيحيي البطريركية في مقر أبرشي وفي حضور راعيه، وأول الكثير... حتى كان آخر الوصاية. وطيلة 16 عاماً كان خليفة يوحنا مارون يستقرئ سير نظرائه في الأصقاع المظلومة: ها هو فيشنسكي قاوم في وارسو حتى سقطت موسكو ليرتاح بعدها. وها هو توتو في سويتو حتى اندحر التمييز، وخيمينيز في تيمور الشرقية حتى ولد الاستقلال... ومثلهم كان صاحب "مجد لبنان" ينتظر انبعاثه ليقعد ويستريح.

أمس أدرك صاحب الغبطة مجدداً أن جلجلته لما تنته بعد. خرجت سورية من لبنان من دون تسوية ميثاقية حقيقية بين جميع اللبنانيين حول ما بعد الخروج، ومن دون تسوية تاريخية بين لبنان وسورية حول اعادة قراءة ما قبل واستشراف الما بعد. خرجت سورية لترتسم اشكالية مأزقية من نوع جديد: أكثرية مسيحية شعبية لا تريد غير ميشال عون رئيساً للجمهورية، في مقابل أكثرية سياسية مختلطة لا يمكن أن تقبل بهذا الشخص لهذا الموقع. وبين الاثنين حال استنزاف وتآكل على كل المستويات، تبلغ حد النزف الفعلي وتعريض منجزات الأشهر الماضية للتضحية أو التفريط. وبين الاثنين "أضرار جانبية" تصيب كل الأطراف في كل مقلب.

هكذا يؤكد العارفون بالصرح وسيده أن الذي يبلغ الـ86 من عمره في أيار المقبل، يعرف مجموع ما يعرفه كلّ من الآخرين.

والأهم انه يعرف ما يحسبه الآخرون خافياً عن بعضهم أو عن الكل فهو يعرف مثلاً أن الأشهر القليلة الماضية أصابت ميشال عون بأكثر من نكسة. لكنه يعرف أيضاً أن المستفيد الوحيد من ذلك هو مجمع الاستقالة والخيبة والاحباط القديم، لا أي سياسي مسيحي آخر وهو يعرف مثلاً أن حال "المعسكر الآخر" ليست بأفضل، رغم كل عمليات التجميل الاعلامية. وما يحرص السياسيون على تغطيته تعرف بكركي أنه مكشوف لدى ناسها ورعيتها. فتشابك أيدي ثلاثة فقط في 14 شباط لم يمر من دون حساسيات لدى الآخرين. وحركة مسؤول كبير سابق من قلب 14 شباط، في الأيام القليلة الماضية، وفي شكل متمايز عن لغتها الانقلابية، ليست غريبة عن هذا الاطار. ومحاولة نبش "لقاء قرنة شهوان" لاضافة مقعد الى طاولة الحوار لم تمر من دون مكبوتات جديدة تراكمت على أخرى قديمة، خصوصاً بعدما انتهت المحاولة الى اسم دون الآخرين، فيما بكركي تدرك عمق العلاقة في ما بين المعنيين.

وتكرّ لائحة النوائب، على جمع النائبة، ويعتصم الصرح بالرجاء والبسمة. قبل أيام لاحظ صاحب الغبطة ان الشيب ضرب شعر أحد زواره، قبل أن يردف "مليح اللي بعدنا هيك مش أكثر". يلقون عليه أحمالهم الثقيلة، فيتنكّبها راضياً. يخرجون من عنده مفعمين بايجابياته. وحده يحمل كل سلبياتهم. كلهم يحملون انطباع "اللقاء ممتاز". وحده لا يزال يبحث عن واحد "مقبول". علماً أن صراحته وفق اعتبارات الموقع لم تستثن أحداً ومن أمثلتها ان كل لقاءاته مع أحد "الأركان" سلبية، رغم محاولات التسويق المعاكس، وان ثلاثة أسماء طرحت عليه للرئاسة فرفضها مباشرة، وأنه في لحظة أسى عميق لم يتردد في رثاء نكد حظه مع السياسة وأهلها.

أحد كبار اللاهوتيين الراحلين كان يكرر انه لا يمكن لسيد بكركي أن يقنط أبداً. فهذا الذي يحيل كل صباح الخبز جسداً، يؤمن تماماً بقدرته على كل شيء. غير أن أمراً واحداً يبدو حتى اللحظة خارج تلك القدرة، بدليل انه عاش قروناً طويلة مع هذه الجماعة وهذا الصرح، وان عمره من عمر لغتهما الأولى. ففي السريانية ثمة قول شائع يعرفه الأحبار عن ظهر قلب: "مورو نويي لو طقسو" يقولون، وتعريبه ان "الموارنة لا ينتظمون".

فهل يقدر ابن السادسة والثمانين على تصحيح هذه العطوبة التاريخية قبل فوات الأوان، أم تتأكد انها "خطيئة أصلية" لجماعة السياسيين "الذين ينسون شيئاً ولم يتعلموا شيئاً"؟