سيناريو احتواء السلاح الشيعي بتفاصيل سقوطه

4 فبراير, 2006 - البلد

أهم ما في كلام سمير جعجع التلفزيوني أمس الأول، انه يشرع كل النوافذ أمام الحوار في كل الملفات. فعلى مدى ساعات عدة، كما على مدى الأسابيع الماضية، رسم رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية صورة شاملة عن قراءته للوضع اللبناني الراهن، بأبعاده الداخلية والخارجية كافة. صورة، على تفصيلها وعمقها، يمكن اختصارها بالرسم البياني الآتي: "حزب الله" مشكلة. والثنائي جنبلاط ــ الحريري حل ممكن. والعقبة الأساسية التي لا تزال تحول دون تذليل تلك المشكلة وترسيخ هذا الحل، هي موقف ميشال عون. فهل من الممكن مناقشة هذه المعطيات؟

في المعطى الأول يلتقي الكثير من المسيحيين، وحتى من اللبنانيين، مع سمير جعجع على اعتبار "حزب الله" في شقه المسلح المرتبط بحيثيات سياسية معقدة، مشكلة. لكن ما لا يمكن انكاره هو أن هذه "المشكلة" لم تخلق اليوم، ولم تولد عند اعتكاف الوزراء الشيعة. ذلك أن مشكلة هذا "الحزب" كانت موجودة بكل مكوناتها قبل سبعة أشهر بالتأكيد، أي عشية حصول الانتخابات النيابية وأثناءها وبعدها.

سارع جعجع في حديثه التلفزيوني، كما يسارع العديد من المعنيين بهذه الاشكالية، الى اعلان التنصل المبسط: نحن لم نتحالف سياسياً مع "حزب الله" في الانتخابات الأخيرة، وان كان بعض الآخرين قد فعل. غير أن التدقيق بهذه المقولة يكشف العديد من هناتها. فمع القفز فوق "مؤامرة" قانون الانتخابات، الذي يصر جعجع على تبرئة حلفائه منها، ومع القفز فوق موقف بكركي وانفضاض القوى المسيحية عن دعمه وتأييد سيد الصرح في 12 أيار، ومع القفز عن واقع كون جعجع أسيراً في ذلك الوقت، لا يقدر الا على متابعة "قطع كل خيط قطن"، بارادته وعلمه ولو من الأسر، كما صرح في حديث سابق... مع القفز فوق ذلك كله، وبالانطلاق من انتخابات بعبدا ــ عاليه في 12 حزيران الماضي بالذات، يتبين للمدقق الموضوعي، ان ثمة تحالفاً سياسياً كان قائماً بين الفريق الذي يضم سمير جعجع، وبين الفريق الذي يرأسه "حزب الله".

ففي 2 حزيران الماضي أكد المرشح عن المقعد الماروني في الشوف يومها، المحامي جورج عدوان ان "تحالفاتنا من الضروري اعطاءها المنحى السياسي وليس الانتخابي". مشيراً مذذاك الى ان اللائحة التي تضم "القوات" في عاليه ــ بعبدا، تضم أيضاً مرشح "حزب الله" واللافت في هذا الحدث انه في اليوم نفسه كان السيد حسن نصرالله يؤكد تحالفه مع جنبلاط في الدائرة نفسها، انطلاقاً من "حرص الحزب من بداية الاستعداد للانتخابات النيابية على التحالفات السياسية التي تتمحور حول حماية المقاومة واستقلال لبنان عن أي تدخل أجنبي ورفض القرار 1559"، داعياً "المحازبين والأنصار الى الالتزام بكامل اللائحة لتثبيت وتأكيد ما انطلق منه الحزب في تحالفه السياسي". وفي اليوم نفسه كان رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، يؤكد أيضاً وأيضاً على ان التحالف الذي قام انتخابياً "يأتي في سياق القرار 1559 والتزام اتفاق الطائف وحفظ المقاومة وسلاحها"، داعياً الى الاقتراع بكثافة عالية "لنؤكد للعالم بأسره ان الشعب هو السلاح وأصواتكم في صناديق الاقتراع للمقاومة هي الرصاص".

وهذا "الرصاص" نفسه شاركت "القوات اللبنانية" في تأمينه عبر دعوتها هي أيضاً الى الاقتراع للائحة الكاملة في عاليه ــ بعبدا. و"السلاح" نفسه هو ما أشار اليه بيان لائحة "وحدة الجبل" الذي أذاعه مرشح القوات نفسه الدكتور ادمون نعيم في 7 حزيران، مؤكداً "اننا نرشح أنفسنا لمهمة اعادة الاعتبار لدولة القانون ولتحرير أرضنا في الجنوب وحماية المقاومة". ليأتي بعد هذا التعهد مباشرة الكلام عن "متابعة قضية كل السجناء السياسيين وقضية الدكتور سمير جعجع وموقوفي الضنية ومجدل عنجر".

وعلى ضوء هذا البيان وقف السيد حسن نصرالله بعد أيام ثلاثة في ساحته، وأمامه جميع مرشحي "لائحته"، وأمامه أكثر من مسؤول قواتي، ليعلن ان "أميركا تريد مجلساً نيابياً تملي عليه شروطها"، وليؤكد انه وحزبه قررا مواجهة هذا المخطط الأميركي الاسرائيلي، انطلاقاً من الانتخابات النيابية بالذات.

وأشار نصرالله الى ضرورة الاتيان بمجلس نيابي لمواجهة "أجواء المشروع التقسيمي التفتيتي الذي تقوده أميركا واسرائيل في عالمنا العربي والاسلامي". ما يؤكد أن البعد الأوسع من الاطار اللبناني لحزب الله وسياسته، والذي تحدث عنه جعجع أمس الأول، هو بعد صحيح وثابت ويقر به "سيد الحزب" نفسه، لكنه كان موجوداً ومعروفاً قبل انتخابات عاليه بعبدا وبعدها، وطبعاً خلالها. حتى ان نصرالله تحدث بشفافية أكبر ذلك اليوم، مؤكداً "اننا في حزب الله ومن خلال لائحة وحدة الجبل" نحقق ما سماه "الترجمة الفعلية لهذه السياسة"، مشيراً الى أنه "على هذه القاعدة السياسية يأتي تشكيل لائحة وحدة الجبل"، وان الحزب "اختار هذه اللائحة انطلاقاً من المصالح السياسية الكبرى في الدرجة الأولى".

وقد يكون من غير المجدي استعراض كل ما أعقب ذاك التحالف، في الحكومة وبيانها الوزاري وحمايتها سلاح "حزب الله"، "على هذه القاعدة السياسية" بالذات. ذلك أن الخلية المؤسسة لكل ما أعقب 12 حزيران، تجسدت ذاك النهار في بعبدا عاليه بالذات، أقله هذا ما رأته بكركي بعد ذلك التاريخ، وما أكدته الأحداث من صوابية رأي الصرح، حيال هذا اليوم وكل يوم. فما الذي كان متفقاً عليه في تلك الدائرة ذاك النهار؟ أهي القصة كلها مسألة مقعد نيابي؟ تكون كارثة. أو هي قصة تحالف سياسي؟ انها كارثة أكبر.

لكن... لم يكن لدينا خيار آخر، يقولها بعض المعنيين. غير أن التدقيق في هذه المقولة الثانية يظهر خطأها أيضاً. بعض الذين واكبوا المرحلة وخبروها يسألون: لنتخيل السيناريو الآتي، وهو ليس تقييماً استرجاعياً، بل كان مطروحاً على أهل القرار في حينه: لماذا لم يبادر فريق 14 آذار الى خوض المعركة الانتخابية ضد "حزب الله"؟

لماذا لم يتحالف مع القوى الشيعية الليبرالية ويدعمها للفوز بمقعدين في بيروت ومثلهما في بعبدا وآخر في جبيل وسادس في زحلة وسابع في البقاع الغربي؟

ولماذا لم ينطلق من هذه المقاعد الشيعية السبعة ليستنهض شيعة الخيار الديمقراطي في الجنوب والبقاع الشمالي نفسيهما؟ فلصالح من اتخذ القرار بالاجهاز على حلفاء ثورة الاستقلال في "المنبر الديمقراطي" و"اللقاء الشيعي اللبناني" و"اللقاء اللبناني للحوار"، كما في العديد من النواتات الشيعية التي دعمت حركة 14 آذار، وبينهم من هدد ولوحق وهجر لدفاعه عن سمير جعجع بالذات طيلة الأعوام الماضية؟

لماذا قرر حلفاء "الحكيم" وأد تلك الحركة الديمقراطية وتطويب طائفة أساسية بكاملها باسم "حزب الله" واعطاءه بالتالي حق النقض وفق الدستور نفسه، ومن ثم الشكوى مما "ارتكبوه"؟

وهل كان سمير جعجع على بينة من كل ما سبق، ومن كل ما سبقه منذ 14 آذار بالذات، يوم قرر عقد "حلفه الاستراتيجي" مع حلفاء الحزب الأيديولوجي الأول والأبرز في لبنان؟

 ومن أسقط ذلك السيناريو وحلقاته المفترضة الأخرى من اسقاط نبيه بري في رئاسة المجلس واحتواء السلاح الشيعي؟

أهم ما في كلام سمير جعجع أمس الأول، انه يفتح أبواب الحوار. حوار يكتسب جوهر الضرورة حيال شخص يحمل في عقله وحدقتيه ولون البشرة والعينين، أغنى تجربة فردية في تاريخنا المعاصر. هذا النموذج الأول في الشرق، لمعتقل سياسي يخرج من زنزانته الى الحياة، والى حياتها منتصراً، بعدما اعتاد شرقنا الأسود على ارسال معتقليه من الأقبية الى القبور المجهولة، هذا الذي راهن على أن يتعب السجان ليخرج هو من دون تعب، يستحق أن يحاور وأن تقال له بعض الحقائق، لمساعدته على اكتشافها كلها.