لذا جاءت رايس

جان عزيز -البلد

الأثنين, 27 فبراير, 2006

 بعد أربعة أيام على زيارتها، بات مؤكداً ان وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، لم تحمل الى بيروت "كلمة سر" دولية حول اسم الرئيس اللبناني المقبل، وبات من المؤكد أيضاً ان رايس حطت في بيروت لساعاتها الأربع تلك، في سياق متابعة خطة داخلية ــ اقليمية ــ دولية تهدف الى إخراج الوضع اللبناني من جموده الراهن. لكن الأهم ان هذه الخطة ــ في مجملها ــ باتت معروفة لدى المعنيين والمراقبين. فأين تبدأ وأين تنتهي؟

تكشف معلومات متطابقة ان زيارة النائب سعد الحريري الأخيرة الى واشنطن شكلت محور عملية تعويم لبنانية ــ سعودية ــ فرنسية ــ أميركية، حول "ركود العملية الاستقلالية في بيروت". وسبق تلك الزيارة، كما رافقها، بحث في الأسباب والمعالجات. وخلص المقيّمون الى ان خطأ ارتكبته الأكثرية النيابية منذ أيلول الماضي، أدى الى تأزيم الخطأ السابق الناجم عن قيام "التحالف الرباعي" بين آذار وتموز 2005. أما خطأ أيلول وما تلاه فيتمثل في مبادرة هذه الأكثرية الى فتح ثلاث جبهات في شكل متزامن: ضد الرئيس اميل لحود، وضد "حزب الله" بعد 25 أيلول 2005 وخصوصاً بعد 12 كانون الأول الماضي، وأخيراً ضد النظام السوري، بعد صدور تقرير ميليس في 21 تشرين الأول الفائت. هذه المعركة المثلثة أدخلت الأكثرية في صراع عنيف وسط موازين غير متكافئة، ووسط تطورات داخلية واقليمية ودولية، لم تكن لصالحها، كما وسط ارتقاب تطورات مماثلة، قد تزيد في تراجع عوامل القوة لديها.

كما بدا للمقيّمين أنفسهم ان هذه الجبهات المتزامنة ناتجة في شكل أساسي عن اختزال الوضع اللبناني برمته ومسار "ثورة الأرز" ومصيرها، بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فمسألة المحكمة الدولية فجّرت الوضع على جبهة "حزب الله"، تماماً كما أدى خطاب النائب سعد الحريري من السعودية عقب صدور تقرير ميليس، الى تسعير جبهة النظام السوري في شكل خطر جداً.

وانتهت عملية التقييم الرباعية بين بيروت والرياض وباريس وواشنطن، الى ضرورة تغيير تكتيك المعركة، والقبول بسياسة "استفراد الأخصام"، والبدء بالضغط على الحلقة الأضعف في سلسلة سورية ــ لحود ــ "حزب الله".

وتؤكد المعلومات المتقاطعة نفسها ان الرأي الذي استقر على مهاجمة لحود أولاً، لم يلبث ان تحول قراءة استراتيجية متكاملة، تتضمن الآتي:

ــ ممارسة سياسة مزدوجة حيال كل من سورية و"حزب الله"، بمعنى ان يتم الضغط على كل منهما من جهة، في مقابل ان تترك قناة صالحة للمساعي الحميدة مع كل منهما أيضاً، من جهة أخرى.

ــ تخصيص القوى المسيحية بمهمة رأس حربة الهجوم ضد لحود، تجنباً لأي حساسيات معاكسة، وتعلّماً من دروس الانتخابات النيابية الماضية.

تطمين بكركي الى سلامة العملية برمتها، ولثلاث نواح معاً: ضمانات للرئيس الخارج من قصر بعبدا، ضمانات حول سهولة التنفيذ وسلميته، وضمانات حول احترام المقتضيات الميثاقية في اختيار الرئيس الجديد.

ــ توزيع الأدوار لتنفيذ ما سبق، بين العناصر اللبنانية والاقليمية والدولية المنخرطة في استراتيجية الهجوم هذه.

وتكشف المعلومات نفسها ان زيارة رايس الأخيرة الى المنطقة كما الى بيروت، حملت في بعض مضمونها إنجاز مهمة جزئية محددة في الخطة المشار اليها، ومعهود بها الى واشنطن. وهذه المهمة تتمثل في الطلب الى كل من مصر والسعودية التحرك في اتجاه النظام السوري، بطلب واضح محدد: تسهيل دمشق لتغيير رئاسي في بيروت. علماً ان هذه المهمة تراهن على ان تدرك سورية مغازي الخطوة، خصوصاً لجهة ان واشنطن تقف خلفها، كما لجهة فصل هذه المسألة عن قضايا سلاح "حزب الله" والتحقيق الدولي واستهداف النظام. فيبادر المسؤولون السوريون الى تلقف المبادرة السعودية ــ المصرية، علّها تشكل وصلاً لما انقطع قبل أشهر طويلة بينهم وبين الأميركيين، كما علّها تسمح بهوامش جديدة للحركة في الملفات الحارقة الأخرى. وتتابع المعلومات المتقاطعة ان رايس أبلغت حلفاءها البيروتيين بإنجاز المهمة، وبات الجميع في حال جهوزية لمتابعة تطورات الخطة الشاملة.

بعض المراقبين أبدى تشاؤمه حيال حظوظ نجاح هذا التكتيك. ذلك انه في الواقع، وفي اللغة الدبلوماسية الأميركية، يأتي في شكل معاكس لدبلوماسية "الغموض الخلاق" التي اشتهر بها كيسنجر في المنطقة. لا بل يبدو أقرب الى سياسة "الانكشاف العقيم". فالفريق اللبناني المنخرط في العملية يأمل تحييد "حزب الله" ودمشق، وبالتالي اقتناص قصر بعبدا، تمهيداً للهجوم في مرحلة لاحقة وفي فرصة مناسبة تالية على الفريقين المحيّدين. فيما سورية تأمل في قيام نواة "حكي" بينها وبين واشنطن، يعيد اليها هامش المبادرة أو المناورة للدفاع عن الاثنين المستهدفين نفسيهما. أي عن نظامها كما عن سلاح حليفها اللبناني. وكل من طرفي اللعبة يدرك نيات الآخر وحساباته. وحدها بكركي تبدو محيطة بكل جوانب العملية الخطرة الجارية. ففي أوساط الصرح حديث عن احتمال الخسارة، أو... الخسارة، أمام المتورطين في ما يحصل، فماذا عن هذا الاحتمال المأزقي وكيف العمل لمواجهته؟