لبنان إلى أين ؟  

سلسلة حلقات تتناول الصراع الأقليات في اشرق الأوسط

والسياسة السورية الإرهابية لتدمير الإسلام 

صراع الأقليات في الشرق الأوسط

الحلقة الأولى : الجزء الثاني (2)

-------------------------

دولة العلويين في زمن الانتداب !

من يعرف تأريخه يصنع مستقبله .

... . ...

نقتبس ، فيا يلي ، بعض ما جاء في كتاب تاريخ العلويين الصادر في بيروت عام 1980 وبعض ما احتوى من حقائق تاريخية موثَّقَة تناولها عدد من الكتاب والمؤرخين بالإضافة إلى الصحف التي إليها نشير . هذا ليس بتجنّي بل ابتغاء كشف أسرار الأسباب التي ، في نظرنا أدت إلى خراب لبنان ولا زالت تدفع بأهل النظام السوري إلى التمسك بتلابيبه واستعماله محرقة لبقائه في حكم سوريا . ولسنا نشك قط بأن القارئ العربي أو اللبناني المسلم سوف يعفينا من تهم الشك والعمالة التي برع أهل النظام السوري بتوزيعها عل كل من خالفهم الرأي أو كشف أسرارهم

... . ...

إذا ما راجعنا تاريخ حكام سوريا الحاليين ، الذين هم في معظمهم ينتمون إلى طائفة العلويين ، لوجدنا أن هؤلاء، ومنذ أيام الانتداب الفرنسي ، جهدوا إلى الانفصال وطالبوا بالاستقلال عن الحكم المركزي في دمشق الذي كان تحت سيطرة الطائفة السنـيّة ، تركية كانت أم عربية .

لا شك أن الظلم الذي عاناه العلويون طوال فترة الحكم التركي وما قبله هو الذي دفع بهؤلاء إلى إعلان العصيان على فرنسا والثورة عليها بقيادة زعيمهم الشيخ صالح العلي . كان ذلك في 28 آب 1919 ، وبمساعدة الملك فيصل ملك دمشق الذي بعد أن أخلفت بريطانيا وعودها له ، خُدِعَ بوطنيتهم !

أخمدت فرنسا حركة العصيان تلك بصورة مؤقتة . ولكنها ما لبثت أن عمت الجبل المعروف اليوم باسمهم وطالت قرى ومدن الطائفة الإسماعيلية المتعاطفة مع الفرنسيين . 

 

وثائق وزارة الخارجية الفرنسية تذكر : أن المفوّض السامي الفرنسي نصح وزير خارجيته  ميللران بخلق دولة للعلويين، فتقررت في 29 آب 1920 وعيّن الكولونيل نيجر حاكماً عليها . لكن تعديات العلويين على الطائفة الإسماعيلية لم تتوقف الأمر الذي دفع بالجنرال غورو إلى تجريد حملة عسكرية عليهم والقبض على عدد من زعمائهم وإعدامهم .

 

في 21 تموز 1922 أُعلنت دولة العلويين ضمن الدولة الفدرالية السورية وعين الجنرال بيوت حاكما لها . إلاّ أن العلويين رفضوها فكان أن أعلن الجنرال ويغان قرار استقلالها في 1 كانون الثاني 1925.

منذ ذاك الحين وطوال سنوات قليلة ، جَهِدَ العلويون في ممالئة الانتداب الفرنسي طلباً لحماية وإبقاء دولتهم المستقلة . إلاّ أن الانتداب عاد ليضم هذه الدولة القزمة إلى سوريا . كان ذلك بمرسوم صدر في عام 1936 .

فَ قبيل صدور المرسوم وجَّه زعماء الدولة العلوية رسالة استجداء إلى رئيس وزراء فرنسا أيام الانتداب ، يرجونه فيها الحكومة الفرنسية إبقاء وحماية دولتهم من المسلمين وخوفهم من مصير أسود ينتظرهم على أيديهم ويعطون مثالاً على ذلك ما يتعرض له اليهود في فلسطين . رسالة تاريخية محفوظة ، تحت الرقم 3547 بتاريخ 15/ 6/ 1936 في سجلات وزارة الخارجية الفرنسية وفي سجلات الحزب الاشتراكي الحاكم آنذاك ، نستأذن مؤلف الكتاب المذكور أعلاه في نقل نصها حرفياً : 

 

دولة ليون بلوم ، رئيس الحكومة الفرنسية

بمناسبة المفاوضات الجارية بين فرنسا وسوريا ، نتشرف نحن زعماء ووجهاء الطائفة العلوية في سورية أن نلفت نظركم ونظر حزبكم إلى النقاط التالية :

إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة ، بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس ، هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السني . ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة مدن الداخل .

1- إن الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسوريا المسلمة ، لأن الدين الإسلامي يعتبر دين الدولة الرسمي ، والشعب العلوي، بالنسبة إلى الدين الإسلامي ، يُعتبر كافراً . لذا نلفت نظركم إلى ما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا عندما تتخلص من مراقبة الانتداب ويصبح بإمكانها أن تطبق القوانين والأنظمة المستمدة من دينها .

2- إن منح سوريا استقلالها وإلغاء الانتداب يؤلفان مثلاً طيباً للمبادئ الاشتراكيةفي سوريا، إلاّ أن الاستقلال المطلق يعني سيطرة بعض العائلات المسلمة على الشعب العلوي في كيليكيا واسكندرون وجبال النصيرية . أما وجود برلمان وحكومة دستورية فلا يظهر الحرية الفردية. إن هذا الحكم البرلماني عبارة عن مظاهر كاذبة ليس لها أية قيمة ، بل يخفي في الحقيقة نظاماً يسوده التعصب الديني على الأقليات . فهل يريد القادة الفرنسيين أن يسلطوا المسلمين على الشعب العلوي ليلقوه في أحضان البؤس ؟

3- إن روح الحقد والتعصب التي غرزت جذورها في صدر المسلمين العرب نحو كل ما هو غير مسلم هي روح يغذيها الدين الإسلامي على الدوام . فليس هناك أمل في أن تتبدل الوضعية. لذلك فان الأقليات في سوريا تصبح في حالة إلغاء الانتداب معرضة لخطر الموت والفناء ، بغض النظر عن كون هذا الإلغاء يقضي على حرية الفكر والمعتقد، وها إننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق المسلمين يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على توقيع وثيقة يتعهدون بها بعدم إرسال المواد الغذائية إلى إخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين . وحالة اليهود في فلسطين هي أقوى الأدلة الواضحة الملموسة على عنف القضية الدينية التي عند العرب المسلمين لكل من لا ينتمي إلى الإسلام . فإن أولئك اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام، ونشروا فوق أرض فلسطين الذهب والرفاه ولم يوقعوا الأذى بأحد ولم يأخذوا شيئاً بالقوة ، ومع ذلك أعلن المسلمون ضدهم الحرب المقدسة ، ولم يترددوا في أن يذبحوا أطفالهم ونساءهم بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا . لذلك فان مصيراً اسود ينتظر اليهود والاقليات الأخرى في حال إلغاء الانتداب وتوحيد سوريا المسلمة مع فلسطين المسلمة. هذا التوحيد هو الهدف الأعلى للعربي المسلم .

4- إننا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري وعلى الرغبة في تحقيق الاستقلال ،    لكن سوريا لا تزال في الوقت الحاضر بعيدة عن الهدف الشريف  الذي تسعون إليه لأنها لا تزال خاضعة لروح الاقطاعيةالدينية. ولا نظن أن الحكومة الفرنسية والحزب الاشتراكي الفرنسي يقبلون أن يمنح السوريون استقلالاً يكون معناه ، عند تطبيقه ، استعباد الشعب العلوي وتعريض الأقليات لخطر الموت والفناء. أما طلب السوريين بضم الشعب العلوي إلى سوريا فمن المستحيل أن تقبلوا به أو توافقوا إليه ، لان مبادئكم النبيلة ، إذ كانت تؤيد فكرة الحرية ،  فلا يمكنها أن تقبل أن يسعى شعب إلى خنق حرية شعب آخر لإرغامه على الانضمام إليه .

5- قد ترون أن من الممكن تأمين حقوق العلويين والأقليات بنصوص المعاهدة ، أما نحن فنؤكد لكم أن ليس للمعاهدات أية قيمة إزاء العقلية الإسلامية في  سوريا . وهكذا استطعنا أن نلمس قبلاً في المعاهدة التي عقدتها إنكلترا مع العراق التي تمنع من ذبح الأشوريين واليزيديين . فالشعب العلوي ، الذي نمثله، نحن المجتمعين والموقعين على هذه المذكرة ، يستصرخ الحكومة الفرنسية والحزب الاشتراكي الفرنسي ويسألهما ، ضماناً لحريته واستقلاله ضمن نطاق محيطه الصغير ، ويضع بين أيدي الزعماء الفرنسيين الاشتراكيين ، وهو واثق من أنه واجد لديهم سنداً قوياً أميناً لشعب مخلص صديق ، قدم لفرنسا خدمات عظيمة مهدد بالموت والفناء .

الموقعون

عـزيز آغـا الهوّاش     محمد بك جنيـد        سـليمان  المرشـد

                   محمود آغـا جديـد           سـليمان أسـد                   محمد سليمان الأحمد

 

هذه الوثيقة لم تلقى صدىً إيجابياً من الحكومة الفرنسية العازمة على الرحيل ، وفي 5/12/1936 ضُمَّت دولة العلويين إلى حكومة دمشق وصارت جزءاً من الدولة السورية بالقرار رقم 274 الموقع من المفوض السامي دي مارتل…………

 

بعد مطالعة ما جاء في هذه الوثيقة التاريخية من بيان وملاحظة أسماء الأشخاص ، موقعي الوثيقة ، نتبيّن بوضوح عمق الاختلاف العقيدي ، وأكاد أقول القومي ( إن الشعب العلوي ) القائم بين معتقد هذه الأقلية ومعتقدات الأقليات الأخرى، مسلمة كانت أم مسيحية . كما نتبيّن العطف الخاص الذي تشعر به هذه الأقلية تجاه الأقلية اليهودية والحقد الدفين المشفوع بالخوف المرعب والمشبع بالمرارة تجاه الأقلية المسلمة . ومن المعروف أن الخلاف مع الأقلية المسلمة متأتٍ أصلاً من انشقاق هذه الأقلية مذهبياً عنها ، في حين ليس هناك من مسوِّغ لتبادل الخوف الديني مع الأقلية اليهودية. وكان لهذا الحقد و الخوف والمرارة أن تُلهِمَ هذه الأقلية ، فيما بعد ، فتخطط لذاتها استراتيجية بعيدة المدى تؤمن لها تحقيق حلمها العتيد . استراتيجية سوف تلتقي حتماً مع استراتيجية الحركة الصهيونية الآيلة إلى النجاح في تأسيس دولة لأقليتها اليهودية .

 

ولم يكن من الصعب ، والحال هذه ، على أجهزة المخابرات الإسرائيلية والحليفة اختراق أحلام أهل النظام السوري التي تجّذرت في نفوسهم طوال قرون معاناتهم وتقوقعهم في جبالـهم. وحاولوا تحقيقها أيام الانتداب الفرنسي في خلق دولة خاصة بهم [ يروي مايكل كوبلاند في كتابه : لعبة الأمم ، كيفية وصول  اجهزة المخابرات  الأمريكية وتسلمها إدارة السياسة في سوريا والشرق الأوسط]

 

تؤكد مسَجَلات الأحداث والحروب في الشرق العربي أن نجاح "المؤامرة الجهنمية" التي نسج خيوطها أهل النظام السوري من أجل الوصول إلى حكم سوريا قد تم على حساب الدول العربية كلها وبخاصة تلك المحيطة بأرض فلسطين، بأجزائها الفلسطينية والمحتلة. وأن ثقل الدماء العربية التي سُفكت في حرب 67 تقع على رؤوس أهل النظام السوري الحاكم في سوريا ، كما تقع على رؤوس حكام إسرائيل وحلفائهم … وهؤلاء استغلوا ، إلى أقصى الحدود ، شبق وأحلام أهل النظام السوري لتدمير مقدرات الدول العربية واحتلال أراضيها واحتلال كامل الأرض الفلسطينية . كما أن أوزار الحرب اللبنانية بمجملها . أي بكل ما حملت إلى العالم من أمثلة إرهابية خلت منها مخيلات اللبنانيين ، بجميع فئاتهم وطوائفهم ، لولا التحريض المستمر والفاعل والعملي لأهل النظام السوري وقواته وأجهزته . وهذه مجتمعة أرهقت ، إلى الآن ، ضمائر اللبنانيين ويتمنون التكفير عنها باسترجاع وطنهم إليهم .              

 

إذن ،،،

فشل العلويين في الانفصال بدولتهم عن مجمل سوريا في عهد الانتداب ، دعاهم إلى الاستكانة ، في تقية اشتُهروا بها، تحيّناً لفرصةٍ ما لبثت أن سنحت لهم بل وشجعتهم على التخطيط للسيطرة على سوريا بكاملها ومن بعدها ربما استلام زعامة الدول العربية . فَبعد خروج الجيوش الأجنبية من سوريا ونيلها الاستقلال بسنوات قليلة، بدأت فيها سلسلة من الانقلابات العسكرية والعصيانات والحركات السرية أسفرت نتائجها عن سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم وذهب ضحيتها مئات بل آلاف الأشخاص .

 

تزامنت سلسلة الانقلابات في سوريا مع بزوغ نجم عبد الناصر الساطع ، عام 1952، وإمساكه بزعامة العالم العربي وتألقه في دعم حركات التحرر في إفريقيا، بخاصة شمالها. وأيضاً من خلال حركة عدم الانحياز التي باشرها مع نهرو الهند وتيتو يوغوسلافيـا .

ففي خضم الصراع الذي قاده عبد الناصر في تأميم قناة السويس وإخراج الإنكليز من مصر ومحاولات أمريكا استلام مكانهم سياسياً الأقل بفرض ضغوطٍ وشروطٍ مرفوضة لتوفير مساعدته في مشروع التنمية الاقتصادية من خلال بناء سد أسوان . وهذا  ما دفع بعبد الناصر للاستعانة بالاشتراكية الدولية ، الأمر الذي أفسح المجال أمام السوفيات الشيوعيين ليس لوضع قدمهم في مصر وحسب بل للانتشار ، تحت ستار الاشتراكية ، في معظم البلدان العربية المنبهرة بخطوات ناصر الحاسمة والسريعة .

أسهم في ذلك كله الخطأ الأكبر الذي ارتكبته فرنسا وإنكلترا وإسرائيل في تجربة حربية انتقامية عام 1956 كللت بالفشل ولم تقنع مصر بمصداقية أمريكا وحسن نواياها تجاه مصر والعرب .

 

ويبدو أن الغرب ، في تلك الحقبة ، كان لا زال غير قادر على إدراك عمق الروابط القومية والعنصرية ، حتى لا نقول الدينية، التي تُوّحِدُ مواقف العرب ضد اعتداء أيٍّ كان على أية دولةٍ من دولهم حتى وإن كان على حق في اعتدائه ، فكيف باعتداءٍ سافر على ناصر الذي توّجَـهُ الشعبُ العربي آنذاك زعيماً مطلقاً عليه .

بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا لسبب أولي بسيط هو عدم النضج القومي وتقديمه على المنفعة السياسية أو الاقتصادية الخاصة والذي برز في الغوغائية والانتهازية التي رافقها سوء التصرّف المصري في سوريا حيث بات كل فردٍ من أفراد الشعب المصري أو منتدبي عبد الناصر في سوريا يتصرف تصرّفَ الحاكم على الشعب السوري الذي لم ينسى بعد معاناته في مجابهة الانتداب ولسببٍ ثانٍ هو تنامي قوة الضباط العلويين في الجيش العربي السوري .

 

استغل العلويون الظرف المواتي فتغلغلوا في حزب البعث العربي الاشتراكي وتابعوا سيطرتهم السياسية عليه بواسطة ضباطهم في الجيش العربي السوري . وهؤلاء ساهموا لاحقاً في عملية التخلي عن هضبة الجولان ومقايضة الأراضي العربية بحكم سوريا . ومع استيلاء حافظ أسد على حكم سوريا ( وزير دفاعها في حرب الأيام الستة ) في نيسان 69 ، اكتملت عناصر القوة في يد العلويين ، سياسياً وعسكرياً . ( يراجَع في هذا الموضوع كتاب:سقوط الجولان لضابط مخابرات الجولان ، خليل مصطفى وكتاب: كسرة الخبز لسفير سوريا في فرنسا سامي الجندي - أنظر الملحق في نهاية هذا الجزء).

 

حرب الأيام الستة كما سمُيَّت عالمياً وحرب النكسة كما سماها العرب كانت ، كما يؤكد العالمون ومما نشر من أسرارها، نتيجة تحالف غير معلن بين الأقلية العلوية والأقلية اليهودية وقامت من أجل تدمير أقوى قوة عربية أوجدها عبد الناصر .

إن وعد بريطانيا لليهود بإقامة دولة لهم لا يقارن برغبة إسرائيل بمنح العلويين حكم سوريا بأكملها وبالطبع احتلال مركز عبد الناصر في قلوب العرب . لكن احتلال القلوب الآملة بالحرية والاستقلال لا يضاهي احتلال القلوب الفاقدة للحرية وكرامة الاستقلال .

حكم سوريا بأكملها ، حلمٌ لم يراود قط مخيلات أهل النظام السوري ولا حلمت به مشايخهم . فكيف يمكن لهؤلاء أن يرفضوا تحقيق مثل هذا الحلم ، سيما وإن ثمنه سحقُ ساحقيهم بل واستلام قيادتهم ، عوض عبد الناصر ؟

 

مخطط ، الأجهزة الأمريكية … الإسرائيلية ، قام في الأساس على بناء خط مجابهة أمام المد الشيوعي يتمثّل في السيطرة الكلية على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ابتداءً من تركيا ومروراً بسوريا ولبنان واتصالاً بضفاف النهر الخالد في مصر .

لكن ، تبدل الظروف الدولية والتقلبات التي حصلت في منطقة الشرق الأوسط ، غيّر الكثير من المخططات الإستراتيجية وبدل الكثير من المواقف الدولية ، إلاّ أنـه لم يلغي أبداً أو يقلل من حقد أهل النظام السوري ، الذين وصلوا إلى حكم سوريا ، على كلِّ من لا يدين بالولاء لهم . 

... . ...

 

تحالف استراتيجي بين سوريا العلوية وإسرائيل العبرية !

 

بناء على ما تقدّم ، نستطيع بكل بساطة استنتاج نظرية فريدة وضعتها سوريا العلوية في استراتيجيتها البعيدة المدى . استراتيجية ذات هدفين يفترقان ويتلازمان حسبما تدعو الحاجة أو حيثما يمكن التنفيذ .

هذان الهدفان هما : تحجيم قدرات العرب وتشتيت جميع محاولات توحيدهم !.. 

             وَ ... إظهار عنف أصولية الإسلام لضربها والقضاء عليها !..

 

هذان الهدفان يخدمان مصالح دولة الأقلية العلوية ومعها مصالح دولة الأقلية اليهودية وبالتالي ستفرض حتما المشاركة في استراتيجية موَّحدة لكلا الأقليتين يكفي ألاّ تكون ذات ارتباط عضوي مباشر بل عملي أو آني مرحلي أو مستقبلي نهائي . 

 

بالإضافة إلى هذين الهدفين ، برز إلى الوجود هدف ثالث بقي خفيّ ومستتر يقضي بوضع اليد على لبنان الذي استأثرنظامه إلى حينه باللون المسيحي ذي الوجه العربي . فجرى استغلال هذا النظام ، على أوسع نطاق ، في إحلال التوازن بين استراتيجية إسرائيل القائلة بتحالف الأقليات واستراتيجية سوريا القائلة بالانتهازية التامة والاستفادة من مواقع لبنان العالمية لدرء خطر محاورتها في الداخل السوري إيذاناً بلعب دورها المقبل في مواجهة العرب وإسرائيل معاً .

... . ...

 

الاستراتيجية البطينة تتابع نهجها !..

لا شك أن تبدل الموقف في الشرقين الأوسط والأدنى قد غيّر معطيات أساسية كثيرة في نهج المؤامرة الجهنمية لأهل النظام السوري التي جرى استيعابها ضمن المخطط الغربي- الإسرائيلي لمناهضة المد الشيوعي في المنطقة .

* صحيح أن أهل النظام السوري وصلوا إلى حكم سوريا وبات لهم وزنهم في ميزان السياسة الإقليمية ، لاسيما بعد الخدمات الجليلة التي قدموها لإسرائيل في ضرب المقاومة الفلسطينية وضرب أو تطويع اليسار العلني والظاهر المناصر للفلسطينيين ، كما أنهم تمكنوا من شطر المقاومة الفلسطينية إلى قسم يقاوم في الداخل وآخر يناظر في سوريا وفي لبنان .

* صحيح أيضاً أن الدروس السياسية التي تعلمها أهل النظام السوري في لبنان أكسبتهم حنكة ودهاء مكّنتهم إلى الآن من إبقاء عهرهم السياسي القومي مسيطراً على الفكر العربي والعروبي .

* ومن حنكتهم ودهائهم المكتسب أنهم استطاعوا ، في غوغائية مُقَززة ، نسيان قوميتهم العربية بل وجر أكثرية الدول العربية إلى نسيانها والهروع إلى مساعدة الغرب كله في ضرب العراق والقضاء على قوته العسكرية التي تمكنت من دحر الفرس وهددت إسرائيل في وقت من الأوقات .

* مع انهيار الشيوعية واحتلال الأصولية مكانها تجدد دور سوريا "القومي" في المنطقة وتجددت مفاعيل مؤامرتها الجهنمية فيها. فكما كانت لسوريا اليد الطولى في تحجيم اليسار والمقاومة الفلسطينية وإبقائهما تحت مظلتها القومية ، هي الآن تمنح حمايتها للأصولية المتمددة منذ زمن ليس بقريب وسيأتي اليوم الذي يتم تحجيم هذه الأصولية بعد انتفاء الحاجة إليها أو لدى انكشاف أمر تورطها في تنظيمها وتدريبها وتأهيلها ومن ثم لاستعمالها حيث ترغب ومتى شاءت . لنتذكر عبد الله أوجلان الذي كان تمتع ، مع عناصر حزبه ، بحمايتها فجرى تسليمه إلى الأتراك لدى أول تهديد ...

* إن التعاون الوثيق الذي يجمع بين سوريا العربية وإيران الفارسية تم بناؤه على مرتكز فكري أصولي حملته الثورة الخمينية وتبنـّاه أهل النظام السوري . ليس خدمة لإيران تشفياً من العراق " أخوة العقيدة البعثية الواحـدة "، كما قد يتبادر للبعض أن يظن، بل هي في نظرنا استيعاباً لهذه الأصولية المنادى بها واحتواءً لها قبل استفحال أمرها . فأهل النظام السوري تربطهم بإيران أواصر المصلحة الدينية ذات الجذور المعارضة للتوجه الإسلامي السني والنهج الذي اتبعه منذ بدايات عهد الخلافة في الإسلام . فالإسلام الفارسي صارع الإسلام العربي منذ عهد الفتوحات الإسلامية وحاول ، على الدوام ، أن يأخذ لنفسه مركز القيادة الدينية لكنه لم يفلح في ذلك قط . فكان أن اخترق ، بواسطة أئمته، السراط الديني وتمكن من احتضان كل أشكال المعارضة التي قامت لمجابهة طغيان التسلّط العنصري العربي في الإسلام، خالقاً شيعة كبرى فتحت الأبواب واسعة لبروز شيع أخرى متعددة عمت بلاد الإسلام ، شرقاً وغرباً .

* من الطبيعي أن الصراع بين تلك الشيع ، منفردة أو مجتمعة ، عربية وأعجمية، وإن لم تشق وحدة الأيمان الأساسي إلا أنها خلخلت ، في بعض المناحي ، بعض أسس العقيدة ، لاسيما بالانحرافات التي ابتدعتها تلك الشيع مثل تفضيل الولاء للإمام علي بن أبي طالب وتكريمه حتى ذهب بعضهم إلى حد تأليهه (العلويون) . وبسبب مثل هذه الانحرافات برزت الخلافات وذرّ قرنها في حروب داخلية . وهذه أنتجت عداوات سياسية دينية وعنصرية وقومية كانت تتوحد في وجه أعداء الإسلام وتتشرذم في غيابهم . والسلطة والتسلّط كانا العصب الحقيقي في كلتا الحالتين . حتى أن هذه السلطة أو التسلط كانت تتخطى العنصرية والقومية وتتجاهل الدين إلا فيما يسهم في تقويتها أو استمراريتها . وإذا ما استعدنا بعض حوليات المنطقة خلال القرن الماضي، لا بد أن نسجل أن نهوض حركة الخميني في بلاد فارس وما رافقها من ظهور ساطع للأصولية الإسلامية كان ردة فعل بديهية لطغيان السلطة المبتعدة تدريجياً عن ذكر الدين والمنطلقة نحو المادية والشخصانية ، كما عزز عزيمتها انتشار الشيوعية المبتعدة عن الدين، إن لم نقل الملحدة، والتي استقطبت الفقراء والمعوزين وساقتهم إلى أحضانها  

وحركة الخميني تلك التي استفزت الحمية الدينية ونجحت في القضاء على طغيان السلطة واقتناصها في إيران، وجدت لها أرضاً خصبة في كل بلد يعاني جزءٌ من شعبه هيمنة السلطة وجورها أو تجاهلها ولن نقول غباءها وغياب عدالتها. وكانت أرض لبنان الأكثر استعداداً لاستيعاب هذه الحركة وتقبّلها ، كونها الأكثر إنفلاتاً والأضعف سلطةً . وأبرز ظواهر هذا التقبّل كانت ظاهرة حركة المحرومين التي مهّد الإمام موسى الصدر لإنشائها 

 

وكما تحدثنا عن مؤامرة أهل النظام السوري ونجاحهم أو بالأحرى نجاح شيعتهم (العلوية) في تسلّم الحكم كذلك لا بد من الحديث ولو باختصار عن حركة المحرومين التي قامت في لبنان على أيدي شيعةٍ فيه ومحاولتها استلام السلطة ، إلا أن تعدد الأديان وشيع طوائفها وبعض الأعراق التي تحمل الجنسية اللبنانية كما والظروف السياسية المعقدة والمتشعبة جداً حالت بين الحلم والحقيقة

لسنا ندري ما إذا كان الصدر على علم مسبَق بنوايا آية الله الخميني المستقبلية فبادر ، من باب الحيطة ، إلى تأسيس حركته كنواةٍ سياسية للدولة الإسلامية المقبلة التي شرع الخميني بالتمهيد لإقامتها فيما بعد بواسطة حزب الله وباقي الجماعات الإسلامية السابق تأسيسها في لبنان أو التي سيتم إنشاؤها لاحقاً . لكننا نستطيع الاستنتاج أن سعي الإمام الصدر إلى تجييش الأقلية الشيعية في حركة المحرومين في لبنان بدا وكأنه عمل وطني سليم من أجل فرض الديمقراطية العددية لتغيير النظام وليس لأسلمته تماماً . وهذا تعارضَ مبدئياً مع الفكر الديني السياسي لحزب الله ومرشده الخميني لبناء المجتمع السياسي المتجدد والمستقل في هويته وشخصيته الحضارية من خلال الثورة الإسلامية ، وتعيد إلى الإسلام رسالته وهذا ما يفرض حالة صراع مع كل التجمعات البشرية التي ترفض أن تتعامل مع الإسلام.(كما جاء على لسان العلامة إبراهيم الأمين - أحد أركان حزب الله).

من البديهي القول هنا ، أن حركة الصدر هذه التي بدت انطلاقتها وطنية إلى حدٍ كبير مثلت حجر عثرة ، ليس في وجه المخطط الثوري الإيراني الإسلامي للإمام الخميني وأتباعه في لبنان وحسب بل أضحت عائقاً قوياً أمام تنفيذ مخطط أهل النظام السوري الذي بدأ يدرك خطورة تضخيم وتضخّم هذه الحركة وبروز قائدها الروحي في الساحة السياسية اللبنانية وتأثيره فيـها، ليس فقط على أقليته بل على كافة الأقليات التي تعاني شبه ما تعانيه .

فالإمام موسى الصدر أصبح في سنواتٍ معدودة ملهماً لجميع المحرومين ، من كافة الطوائف وفي كافة المناطق اللبنانية. كما أن مواقفه الرافضة للحرب الداخلية التي فجرها الفلسطينيون في لبنان ومبادراته للتهدئة ، التي بعد فشلها ، اعتصم متعبداً وصائماً في مسجد الصفا . وكذلك دعوته إلى عقد مؤتمر رؤساء الطوائف اللبنانية الذي أكّد وجوب استمرار التعايش وتحقيق العدالة والتمسك بالسيادة اللبنانية ورفض التقسيم ودعم القضية الفلسطينية  ( ثوابت ومسلمات كافة الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية ).

 

ثابر الصدر ، منذ بدء تحركه السياسي إلى التأكيد أن الحرمان لا يعرف طائفة . نادى وحاضر بمبادئه هذه في الكنائس والمساجد والمنتديات السياسية والاجتماعية . ل هذا النشاط السياسي للإمام كان له ردود فعل يمكن إيجازها بثلاث فئات:   

الأولى : قبوله في أوساط المحرومين وإن رفضته قياداتهم المحلية في المبدأ ،،،

الثانية  : قبوله في أوساط الزعماء السياسيين والروحيين في طائفته الشيعية وإن اختلفت أهدافهم . بعض السياسيين رأوا في نتائج تحركه خيراً ومنفعة لهم ولمستقبلهم السياسي. وبعض الروحيين رأوا فيها خدمة لنشر فكرهم الديني وتثبيته في فئة المحرومين ومنها إلى غيرهم ،،، 

الثالثة :  وهي الأهم ، نشاط الإمام أوغَر صدور كل من كان يهدف إلى إيقاد نار الفتنة الطائفية في البلاد لغاية في نفسه وكل من كان يهدف إلى أسلمة  لبنان، وبكل تأكيد ، كل من سعى إلى الحرب خدمة لمصلحة مخططاته السرية الخاصة منهم سوريا إيران الفلسطينيون .

النتيجة : نجحت الفئة الثالثة في التخطيط وتنفيذ عملية إبعاده وإبعاد خطره معه .

 

فَ ... بإبعاد الصدر أو قتله ، ولسهولة السيطرة على حركته ، حديثة النشأة والمحتاجة إلى الدعم ، تمكن ، كل من سوريا وإيران والفلسطينيون من استقطاب بعض كوادرها وبقيت هي في قيادة لم تستطع السيطرة عليها لبنانياً ( كما أرادها الصدر ,,, حسين الحسيني ) فتخلت عنها إلى محامٍ شاب من صنائع سوريا وتلامذة إيران المبهور فلسطينياً ، فتسلّمها . بهذا سيطرت سوريا على حركة أفواج المقاومة اللبنانية ( أمل ) ليصار إلى استعمالها فيما بعد ضد معارضيها في لبنان وفي مقدمهم الفلسطينيين ، وورقة ضغط على القادة الروحيين الحاليين أو اللاحقين في ساحة التجارب على الأرض اللبنانية المباحة أمام كل من هبّ ودبّ من أصوليي الأمم . كما نجحوا في استعمال عدد غير محدد من كوادرها المنشقة، بوعيٍ منها أو بدون وعي ، في عمليات إرهابية نفسية وجسدية محلياً ودولياً . 

* كافة التعقيدات التي تشكلت على أرض لبنان ونجاح الأصولية ، المدعومة من النظام السوري بل والمنفذة لرغباته ، في اختراق النظام اللبناني وتحويله إلى نظام يمارس نوعاً من النظم الدكتاتورية الدينية المبطنة بديمقراطية تناظرية ، أدت ، في غياب الأعداء "المزعومين " إلى تناقض سري بين قوى الأصولية الفاعلة والسلطة المهيمنة على أرض الواقع اللبـناني .

لذا نجد لبنان اليوم مسرحاً لحربٍ سرية وغير معلنة بين هاتين القوتين وأن صداماً وشيكاً واقعٌ لا محالة بينهما بسبب الاختلاف الجذري بين استراتيجيتيهما ؛ فالسلطة المهيمنة (سوريا) لا ولن تقبل لقوى الأصولية بغزو مواقعها والسيطرة عليها أو إزاحتها عنها ، وهي في الأساس من سمحت لهذه الأصولية بالوصول وهذه ، تناقض تماماً الاستراتيجية الإسلامية الأصولية بعيدة المدى. لهذا السبب وحده ترفض سوريا وحزب الله ، المستخرج من باطن حركة المحرومين، معاً الاعتراف بانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني وتعارضان قرارات الأمم المتحدة بل وتفرضان على الدولة اللبنانية مجاراتهما (نتذكر هنا عدم تصديق النظام السوري وصنيعته النظام اللبناني إعلان عزم إسرائيل على الانسحاب من لبنان واعتباره مكيدة ضد سوريا وحزب الله معا وبالتالي رفض انسحابه وكان ان انسحبت إسرائيل ، كخطوة أولى من منطقة جزين وأتبعتها ، بعد حين بانسحابها من كامل الجنوب اللبنانيً). وسوف تحين الساعة فتتخلى سوريا عن حزب الله ، حفاظاً على نفسها! ولن يبقى لأبناء هذا الحزب ، من اللبنانيين ، سوى أبناء وطنه يذودون عنه الحيف الذي سيطاله جرّاء اعتماده على الأغراب ، واعديه بتحقيق الحلم الذي يفشله فقط اسم لبنان .

فهل تراهم يرفعون العصابة السوداء عن أعينهم فيَرون أرض وطنهم الفردوس الأرضي

ويتخلّون عن التطلع بأعين الأغراب إلى جنةٍ لم يؤكد وجودها سوى الأديان .

... . ...