أيّها المسيحيّون: هذه حالكم

بقلم/أيمن جزيني

 

لم تشتّت الحروب الأهلية المتطاولة، ثمّ الجمهورية الثانية، أيّاً من الطوائف الكبرى على ما فعلت في المسيحيين واجتماعهم الأهلي والسياسي، تذريراً وانقساماً. فيما أنشأت لبعضها قيادات يسعها الزعم زعماً مسلحاً في الوقت الحاضر، أنّها قيادات كلية الطوبى للبنانيين جميعاً من دون استثناء، وأنّه لا يستغنى عنها في سلم البلد ولا في حربه، ولا يصحّ عليها مبدأ الخلف أو المثيل، كما هو حال "حزب الله" وأمينه العام السيّد حسن نصرالله.

 

فحادثتا صور نصرالله اللتان توسّلتا قدّيسين وكنيسة امتحنت رابطة المنظمة الخمينية بغيرها من الطوائف عموماً والمسيحيين خصوصاً، وموقعها من المجتمع اللبناني، ودورها في السياسة اللبنانية. وفي الحالين امتنع الحزب الأهلي والعسكري والأمني عن الردّ على أسئلة مسيحيين عن موقفه، عازياً الأمر إلى حرّية التعبير وشأن الآخرين في تقديس زعيمه، مغفلاً القيود الأمنية التي يفرضها في معازله وغيتواته، ولا يستثني منها شيئاً.

 

فظهور صورة نصرالله إلى جانب صورة السيدة العذراء والقديس شربل والقديسة رفقا، وشريط الفيديو الذي يظهر جوقة ترنيم للأمين العام في كنيسة مار يوسف ـ حارة حريك في وسط الحيز الذي يفرض عليه سيطرة مطلقة، لم تدفعه إلى شجب العمل، معتبراً انّه لا يستطيع أن يفرض على الناس ألاّ يعتبروا نصرالله قديساً. ذلك أنّ المنظمة الخمينية المتراصة تتنصل من الدولة والمجتمع اللبنانيّين ومن الأحوال التي آلت إليها جراء صنائعه السياسية بدعوى انّ "ديننا يأمرنا.." و"ولاية الفقيه تقول لنا..". ولا يشك أنصار هذه المنظمة في أنهم وحدهم "الناجون" من خليط الأمّة الفاسد.

 

ولا يني الحزب يصدر على الاجتماع اللبناني بوصفه الطاهر المطهّر، عازياً نقاءه إلى "المقاومة" ونسبها الإيراني، وهي من أعطى لبنان "العزّة والحرّية والكرامة والوجود". وحقّه (الحزب) على لبنان جراء النعم التي أسبغها على البلد وأهله، أن يسكتوا عن المطالبة بالرجوع عن الأمر والتنديد به. وذهب مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب حسين رحال إلى استغراب "الضجّة"، فيما "المادة التاسعة من الدستور اللبناني تحفظ حرّية الاعتقاد وحرّية التعبير"، وهو ما لم يكن للمنظمة الخمينية أن تقرّ به يوم تناول برنامج نقدي ساخر شخصية نصرالله، وعمّت التظاهرات الشوارع، وأحرقت مستوعبات النفايات، وقُطعت الطرقات بالمكعّبات الاسمنتية والاطارات المشتعلة، ولم يتوقف الأمر حتى اعتذر معدّ البرنامج وعلى الهواء مباشرة.

 

ويحصل هذا بينما لا ينفك دور الطائفة المسيحية يتردّى ويزداد ضعفاً وترهلاً قد يفضي الى موت المسيحيين سياسياً وتذرير حضورهم الأهلي. فالقيادات المسيحية السياسية التي بنت الجمهورية الاولى ذوت معاييرها وآلياتها. وكل ما كان ينبغي الى الحط من منزلة المسيحيين وإلى إضعاف تماسكهم السيادي بإزاء التعريب السياسي البعثي للبلد لجهة تعطيل المؤسسات السياسية والدستورية، قد ارتكبته المنظمة الخمينية.

 

وفي الاثناء يسكت مسيحيون كثر يمثلهم النائب ميشال عون عن قيام دولة "حزب الله" ومسالكها. ولا تستثيرهم إناطة هذه المنظمة بكيانها العسكري السلم الأهلي. فإذا سئل الحزب الشيعي عن القيود على الحرب واستخدام السلاح وإقامة المربعات الامنية وشبكة الاتصالات، خيّر اللبنانيين بين النكوص عن الهواجس والتنقل على مسارح الحروب.

 

هكذا، لم يكن للحزب الايراني المنشأ والنوازع إلا إنكار المسؤولية والتبعة عن المسالك التي سار فيها من صنع السبحة، وسكت عن الشريط المصور امام مذبح كنيسة مار يوسف لعلة "حرية التعبير". فالمسيحية الوردية لدى المسيحيين هي للصلاة منذ قديم العصور وقد صلاها آباء المسيحيين منذ القديس عبد الأحد، بعدما اختارتها العذراء كصلاة الهية لا لتأليه انسان، أياً كان. والارجح ان المرجعية الوحيدة لتطويب القديسين هي الكنيسة. ولهذا التطويب آلية وشروط ويتم اعلان ذلك في الفاتيكان، لا في الضاحية الجنوبية.

 

ليست هذه السطور المنافحة عن المسيحيين بدعاً في بابها ما لم تدرج في تاريخ هذه الجماعة الأهلية والدينية. فالمسيحيون اللبنانيون عاشوا تاريخهم في كل زاوية من هذا الشرق، ولم يُعطَ لهم ما أعطي مسيحيّو روما وبيزنطيا. ولم يحفظ التاريخ ذكرى شعب اصابه من المحن ما أصابهم وعلى امتداد هذا الشرق، وصاروا كالمسيح الذي رهن حياته للناس: حيناً رهينة للفرس والرومان، وأحياناً للبيزنطيين والعرب والأتراك. أُجبروا على دفع الجزية عن أخطاء ما ارتكبوها. باسمهم جاء الصليبيون فدفعوا الجزية عن مطامعهم بعدما رحلوا باسمهم، وكذلك كان حال النساطرة بالعراق مع الفرس جرّاء ما اقترفه البيزنطيون. وباسمهم جاء الغرب للدفاع عنهم فكادوا أن يصيروا عبيداً عند العثمانيين.

 

ما قدّموه الى العرب لم يقدّمه أحد منذ نجران وغسان والحيرة حتى بنو أميّة والعبّاس. هم من ترجم أرسطو وأفلاطون وإقليدس وهوميرس في الشام وبغداد، وأحيوا اللغة والفن بعد عصر الانحطاط. كل هذا وهناك من يغرّبهم وذاك يشرّقهم. فريق يدفعهم الى اليمين والآخر يصنفهم باليسار، ولم ينجحوا يوماً أن يكونوا هم كما هم.

والحال هذه يسع المسيحيون أن يطلقوا أسئلة يبعث إغفالها على العجب والقلق:

 

1 ـ في المسيحية يكون القدّيس زاهداً بهذه الأرض وما عليها واختار التنسك وعبادة الله حصراً مثل القديس شربل الذي عاش في محبسته، أو رفقا التي تحملت آلاماً كثيرة: فأين أوجه المقارنة مع السيد نصرالله؟.

 

2 ـ كيف لا يقبل انصار المنظمة الخمينية بأن يتم تجسيد شخصية الأمين على دمائهم في برنامج (بس مات وطن)، والذي كان تمّ فيه عرض شخصية مار مارون شفيع الطائفة المارونية؟.

 

3 ـ ماذا عن الأغنية المصوّرة (فيديو كليب) الذي يؤلّه نصرالله حين تقول الأنشودة "إن يأمر فالكل يلبّي"؟ وهل المقصود أن أمين عام الحزب الشيعي يأمر جميع اللبنانيين من كل الجماعات من خلال تصويره في مشاهد مع مفتي الجمهورية ومع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فضلاً عن لقطات مع مشايخ الموحدين الدروز يهتفون له.

 

الثابت في المسيحية ان الكنيسة هي مكان وجود المسيح المتجسّد في القربان، فكيف يتم استخدامها للغناء للسيّد نصرالله؟ أم ان تجربة وضع اليد على الكنائس كما حصل في لاسا في جرود جبيل سهّلت الأمر في حارة حريك؟

 

على هذا يسع المرء أن يسأل: ما الذي سوّغ لـ"حزب الله" موقفه. لقد سوّغته ثقته بنفسه وصدوره من موقعه العسكري والأمني والأهلي. ولا يعجب مَن كان له حظ أن يرقب ذواء المسيحيين وموتهم أن يصرخ: أيها المسيحيّون هذه حالكم.

 

بيروت في 25/01/2009