بيي راح مع العسكر

بقلم/بيار عطاالله

 

امور قليلة في لبنان تستحق الثناء وكيل المديح: فيروز، وديع الصافي، قلعة أرنون، الوادي المقدس في قاديشا، ارز الباروك، والجيش. عنيت جيشنا اللبناني لا جيشا اخر. اذ لا شيء اكثر مدعاة للاحترام والتقدير في هذا البلد التعس من مشهد الجنود والرتباء والضباط، وهم يقفون تحت المطر وفي الصقيع او حرارة الشمس اللاهبة، من اجل ما يدعوه الجميع دفاعا عن الوطن والشعب. مع ان ما يتقاضاه العسكريون من رواتب ليس شيئا قياسا الى التضحيات التي يقومون بها من اجل هذا اللبنان الذي عجزت جيوش العالم عن ضبطه والسيطرة عليه.

 

اختصر وصف الاخوين الرحباني الجندي اللبناني في مسرحية "فخر الدين" بأغنية السيدة فيروز الشهيرة "بيي راح مع العسكر حمل سلاح راح وبكر". ورغم تقادم الايام على المسرحية الا ان اكثر اللبنانيين لا زالوا يربطون بين العسكري الطيب "عباس من انطلياس"، وصورة الجندي اللبناني "الآدمي" الذي يحمل بندقيته ويمشي تاركا عائلته وصغاره واحبائه جميعا.

 

تحمل هذه الصورة في طياتها كثيرا من الواقعية وخصوصا في الايام التي تلت انسحاب الاحتلالين الاسرائيلي والسوري من لبنان. اذ انتشر الجيش من اقصى عكار شمالا الى جرود الهرمل شرقا ومرتفعات الناقورة وجبل حرمون جنوبا، وتكفي مشاهدة الجنود يتأبطون حقائبهم العسكرية في طريقهم للالتحاق بوحداتهم بعيدا عن احيائهم وقراهم واحبتهم كي يتذكر المرء اغنية "بيي راح مع العسكر" ومعها كل الحنين الى ايام الخير في لبنان.

 

جرت العادة في دول العالم ان تقوم الجيوش بالدفاع عن الحدود، وفي الحالات القصوى الدفاع عن مؤسسات الامة في وجه ما يتهددها، ويفترض تاليا ان ينتشر الجيش عند الحدود الجنوبية مع اسرائيل العدو. لكن ان يضطر الجيش الى الانتشار عند الحدود الصديقة مع سوريا للتصدي لخطر معلوم، والى  الانتشار في كل قرية وناحية وزاروب من اجل تأمين الامن ومن دون "ضربة كف"، فهذه مهمة تاريخية غير مسبوقة، لم ينهض لها سوى الجيش اللبناني على مر التاريخ العسكري . فبعد سنين طويلة من التهميش على يد الميليشيات المسلحة ومن بعدها الجيش السوري الذي اراد تحويل الجيش الى اداة قمعية معادية لشعبها وتاريخها، اذا بالجيش ينهض الى مهمات تعجز عنها اكبر الجيوش في العالم في الفصل بين طوائف لبنان المتعددة والتي تملك مشاريع حروب مدمرة وخلافات على كل شيء بدءا من رعاية الماعز وري المزروعات في جرود لبنان وصولا الى اقرار الموازنة العامة وغيرها من المسائل الخلافية المعلومة.

 

ما يقوم به الجيش من اداء وفاقي، هو ظاهرة مؤسساتية اكبر من دولة صغيرة ومتخلفة نظير لبنان، اذ جرت العادة في بلدان العالم الثالث ان ينخرط الجيش في الصراع الاهلي او ان يحسم الصراع اما لصالحه او لحساب طرف ما. لكن الجيش في الحالة اللبنانية الراهنة يستعير تجربة مجتمعات راقية تتولى فيها القوى المسلحة الوطنية مهمة تهدئة الخواطر واخماد نار الفتنة. وجموع اللبنانيين المستنفرة للتناحر طوائف ومذاهب وشيع والتراشق بالسباب والاتهامات التي تشعل "اكبر حرب اهلية"، تجد نفسها هامدة، ومتعقلة امام صفوف العسكريين في الانصياع للاوامر والتزام الهدوء والابتعاد عن مسببات الصراع. 

 

لا تحسد الدولة اللبنانية على حال الشرذمة الطائفية والعشائرية وانتشار الفساد والمحسوبية والفوضى بمعناها العريض في كل مؤسسات الادارة اللبنانية واجهزتها. في حين تبدو مؤسسة الجيش بعديدها وعتادها ومؤسساتها وكأنها من كوكب اخر، خارج كل هذه الادارة الرسمية الفاسدة لجهة الانضباط والاحترام والمناقبية. واكثر الامور مدعاة للملاحظة والتعجب والاحترام مشاهدة دوريات الشرطة العسكرية في الجيش تقوم بمراقبة العسكريين المأذونين ومدى التزامهم الهندام العسكري وشروط الاجازة العسكرية من اناقة وترتيب، في بلد تعمه الفوضى وتسقط فيه كل معايير الانضباط الخلقي والاجتماعي على مستوى الفرد والجماعة، وتسود ثقافة الغلبة والفوضى والاستئثار و"الزعرنة" بكل معانيها.   

 

الجيش، قضية تدعو الى الاحترام العميق في لبنان وهو نموذج ناجح على امكان بناء مؤسسة صالحة في هذا الوطن الذي سقطت كل رموزه وقياداته في اتهامات الفساد والانهيار الخلقي وحب السيطرة والنزعة التدميرية. ولو كان لدى هذه الجموع اللبنانية المتنافرة-المتناحرة قليل من الاحترام للذات ولمئات الالوف من قتلى الحروب وايضا لمعاني الوطنية والحرية والسيادة لأدركت ان صراعها يجب ان يبقى بعيدا عن استدراج جيوش العالم مرة جديدة الى ارض لبنان. ولأعلنت ان حروبها الصغيرة تقف عند حدود بناء الدولة على مثال الجيش ومؤسساته.