لبنان وأجندات الشرق الأوسط

بقلم: بول خيّاط

الحلقة الأولى

 

لم يكن من قبيل الصدف أن أتوقف عن الكتابة طيلة أسابيع الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل بكلّ ضراوة ووحشية حاقدة على وطننا الحبيب لبنان، بل كان إمتناعي عن الكتابة كعادتي في كلّ أسبوع، قرارا طوعيا إلتزمت به قناعة مني أن الكتابة - أثناء إحتدام المعارك- ستكون إنفعالية في الدرجة الأولى بالإضافة الى أنها ستكون عاطفية أكثر مما هي عقلانية ..  علما بأن الإنفعالية والعاطفية ما نفعت يوما بشيء، ومن جهة أخرى فقد يعتبر البعض، من ذوي الحساسيات المتزمتة والآفاق المحدودة والضيقة، أن بعض هذه التعليقات والمشاعر العفوية هي بمثابة الخروج عن الإجماع المفترض وجوده في أوقات الحروب، أو بعبارة أخرى بمثابة صبّ الزيت على النار.... في وقت نحن في أمسّ الحاجة الى المزيد من الحكمة والتعقّل والروية، لكي نساهم-  كلّ في نطاق عمله -   في إخراج وطننا من المحنة القاسية التي فرضت عليه فرضا ودون أن يكون له رأي أو خيار أو قرار.....

 

وعليه، والآن بالضبط ، وقد سكت المدفع، ليس مهما ولا مفيدا في شيء على الإطلاق أن نلقي الكلام جزافا في شأن من ؟؟ كان السبب الرئيسي في إندلاع هذه الحرب القذرة، التي  ذكّرت العالم بتصرفات النازيين حتى أصبح المعتدون على الوطن الصغير الآمن هم بإمتياز النازيون الجدد في القرن الـ 21. وإن إيمانا بالعدل الإلهي إزاء جريمة  قتل الأطفال والنساء والعجزة والمدنيين العزّل، يدفعنا الى القول وبصوت رافض وشاجب بأن على الباغي ستدور الدوائر... وإننا نعتقد بل نتوقع أن يتمّ تحطيم المتجبّرين وقساة القلوب وأنه لا بدّ  في النهاية من أن تنكسر شوكة الطغاة،  وإلا فليس هناك عدل ولا ضمير ولا رحمة ... في العالم ... غير أن إيماننا يقول لنا العكس.

 

في قناعتي، كانت الكتابة -  في معمعة الحرب الشرسة – ومهما كان عمقها ودقّة التحليلات فيها، أوصدق الإنتقادات البناءة فيها، كانت ستكون صرخة في واد سحيق أو ستقع في آذان صمّاء لأن الجميع كانوا مشغولين في تأمين سلامتهم الشخصية وتوفير أدنى متطلبات الحياة اليومية وهم بالكاد كانوا قادرين على ذلك، بالإضافة الى أنهم  بإنشغالهم في متابعة أهوال الحرب وبشاعة التقتيل والتهديم، وكانوا خائفين أو شبه مقتنعين بأنهم سيكونون، بلا أدنى ريب، الضحايا التالية للحرب التي لم ولن توفّر أحدا ... وعليه فإن العقل الذي يتوجّه إليه الكاتب أو المحلّل كان في الواقع معطلا وفي إجازة قسرية ...

 

ومع هذا فإن التحليلات المنطقية والإنتقادات البناءة التي كان من الجائز بل من المحتّم تأجيل قولها إبان المعارك، يبقى من الواجب البوح بها والكشف عنها لكي تؤخذ بعين الإعتبار، لأنه ما لم ندرك بوضوح حقيقة الأسباب والمسبّبات فإننا سنكون عاجزين عن معالجة النتائج والعواقب.. ومن هذا المنطلق وهذه القناعة فقط، أكتب الآن بكلّ تجرّد وموضوعية، لعلّ في ذلك ما يفيد ويساعد على إيجاد الحلول العادلة والدائمة التي لا نشك مطلقا في أن الجميع ساعون إليها....

 

قناعتنا هي أن المهمّ هو أن تنتصر الحكمة والتعقل على الجهالة والتسرّع، لأننا بذلك فقط نستطيع أن نرى بوضوح أين هي مصلحة لبنان العليا، فنعمل كلّنا من أجل مصلحة لبنان فقط دون مصالح سائر الدول الأخرى، قريبة كانت أم بعيدة، شقيقة كانت أم صديقة، لأن الحرب الأخيرة أثبتت وبكلّ وضوح أن لبنان جابه  وحيداّ الحرب الإسرائيلية عليه، فيما كان كلّ ألأشقاء وألأصدقاء يتفرجون عليه ولم يحركوا ساكنا على جبهاتهم الهادئة مع الدولة المعتدية على لبنان، بل إكتفوا فقط بالشجب والإستنكار!!!!. 

 

وكذلك نرى أنه غير مجدٍ الآن القول ما إذا كانت هذه الحرب قد جاءت نتيجة مباشرة لإستفزاز ما؟؟؟ أو ما إذا كان مخططا لها في الخفاء وأن تنفيذها كان مؤجلا.... وأن التحرّش جاء لإجهاض المباغتة التي كان يبيّتها العدو..  وليس مفيدا أيضا الآن، القول ما إذا كانت الحرب نتيجة لعملية محسوبة بدقّة أو غير محسوبة العواقب... فهذا كلام قيل وتردّد وسيقال وسيتردّد كثيرا وستكون له ردود وإرتدادات واسعة على صعيد جنوب لبنان والمنطقة الإقليمية وربما في العالم كلّه. ولكنه لن يفيدنا مباشرة في شيء.

 

يبقى أن نقول بأن المهمّ والمفيد والمجدي هو أن يأخذ اللبنانيون – حكاما وسياسيين وشعبا- العبرة من تدمير لبنان تدميرا وحشيا، لكي نتدارك كلنا الوقوع مجددا في مثل هذه الغلطة المميتة، بل قل " المغليطة " التي لا خروج منها .  خاصة وأنها كلّفت لبنان دمارا شاملا في عمرانه وبناه التحتية، وتسببت في مقتل أكثر من ألف شهيد كانوا كلّهم ضحايا بريئة، وإصابت أكثر من خمسة آلاف جريح ومعاق، وأدّت الى تشريد أكثر من مليون نسمة هجّروا من قراهم وبيوتهم، وهو عدد كبير جدا لأنه يعادل نسبيا ربع سكّان لبنان... علما بأن غالبية هؤلاء المهجرين قد دمّرت بيوتهم وأرزاقهم وجنى عمرهم... وهنا تكمن فداحة التهجير القسري .

 

لذلك لعله من المفيد القول بأن الثابت وألأكيد الذي أكدته الحرب الظالمة التي دارت رحاها على أرض لبنان أن معظم الدول المعنية خاصة بقضية لبنان، وبقضية الشرق الأوسط عامة، قد عملت وتعمل كلّها وفق أجندات ( برامج عمل ) خاصة بها.

 

وتشمل "أجندات"  بعض هذه الدول مواضيع وبنود عديدة ومتشعبة، في حين تقتصر " أجندات"  بعضها الآخر على مواضيع محصورة النطاق، ولكن المفارقة المؤسفة والمؤلمة في آن معا، هي أن لبنان هو البلد الوحيد في هذه المنطقة التي يتحفّز بركانها للثورة وقذف حممه المدمّرة، بعد أن غلا  مرجلها الى درجة الإحتقان بكلّ أنواع الأبخرة المتفجّرة ... لبنان هو البلد الوحيد الذي ليس لديه " أجندة " خاصة به،  بل هو بحد ذاته "موضوع "  مدرج على "ألأجندات"  كلّها كبند من بنودها...

 

وتختلف أهمية هذا البند بإختلاف البلدان وبإختلاف الأولويات والأزمات، فهو تارة بند يحظى بالأفضلية الأولى في قضاياها الملّحة والعاجلة، وطورا آخر هو بند ثانوي يتراجع الإهتمام به الى أسفل جدول الأولويات ... وللأسف لقد مرّ لبنان في فترات كثيرة كان فيها " بندا " ثانويا غير ملحّ، لكي لا نقول بأنه كان بندا مهملا ...

 

وماذا تكون النتيجة عندما تشتد الأزمات الإقليمية، وهي غالبا ما تشتد وتستعر؟ كان لبنان يتلقّى ردّات الفعل السلبية، فيتحوّل الى أداة إمتصاص الصدماتShock Absorber ، صدمات يتلقاها من كلّ فجّ وصوب ، عن  كلّ الآخرين ...  فيصبح شعبه وأرضه وبناه التحتية وبصورة حتمية دائما وقسرية غالبا، مجرد إسفنجة إمتصاص لفورات الإحتقان العارمة .... وهل ما جرى منذ 12 تموز 2006 ، لغاية ليلة 14 آب 2006 ، غير دليل واضح وثابت علىصحّة ما نقول.؟؟!! ..

 

ها هو شعب لبنان وأرضه وإقتصاده وبناه التحتية كلّها، تدفع وحدها أثمان الإحتقانات المتفجّرة في المنطقة كلّها... في حين أن الأطراف الإقليمية التي ساهمت وتساهم في تأجيج النار تحت المرجل ظلّت بعيدة عن شظايا الإنفجار الرهيب الذي تسببت به للبنان وسلمت من حمم البركان الذي عملت على تأجيجه و تحريكه بصورة مباشرة أو غير مباشرة سواء بالعمل أو بالإمتناع عن القيام بعمل معيّن أو مفترض كان من شأنه لو حصل أن يدرأ الخطر والإنفجار.... ولا ننسى أن المسؤولية الجرمية في القوانين الوضعية تطال الفاعل كما تطال أيضا الممتنع عن القيام بعمل يفرضه عليه القانون والواجب والعرف. ومع ذلك يتشدّق الذين يستلذون ويستمتعون برؤية الحرائق تلتهم الأخضر واليابس وتحرق البشر والحجر... ويدّعون بأن الحقّ كلّ الحق في كلّ ما حصل ويحصل هو على فلان وعلى علتان وفي مطلق الأحوال، فإن الحقّ - في عرفهم - ليس عليهم أبدا، وهم لا يعترفون بما جنته أيديهم من أعمال تحضيرية ساهمت في الإحتقان... والإنفجار معا...

 

في هذا الظرف بالذات،  الذي يجب أن تنصب فيه كلّ الجهود لإطفاء الحريق ... لسنا في وارد أن نضع اللوم على أحد، ولكن هذا لا يمنع من أن يطرح المرء أسئلة من شأنها أن تضع الأمور في نصابها الصحيح،  لأنه ما لم يتمّ الإتفاق التام على المبادىء العامة، فإنه من الصعب جدا أن يتوصّل المتعاطون في الشأن العام الى قواسم مشتركة واضحة وثابتة تكون أساسا لكلّ إتفاق يؤمن المصلحة العليا التي يجب أن تكون هي وحدها فوق كلّ مصالح الأطراف التي تكوّن نسيج الوطن، وكلّ ما عداها فهو غير مفيد وغير ناجع....