مشروع دمقرطة الشرق الأوسط الكبير  !!!

هل يكون لبنان هو البلد المؤهل لإعطاء دول الشرق دروسا في الديمقراطية

بقلم: بول خيّاط

 

الحلقة التاسعة

ملاحظة هامة : نلفت إنتباه القراء الكرام الى أنه تمّ إعداد هذه الدراسة قبل الحرب الحاقدة التي تشنها إسرائيل على لبنان  منذ 12 تموز 2006.

مقدمة الحلقة  التاسعة :

بعد أن إستعرضنا في الحلقات السابقة تصوّرنا حول المهمّات والوظائف التي نقدّر أنها ستلقى على عاتق من يتولى مهمة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الجديد وفق المشروع الذي بدأ أميركيا وأصبح الآن يحظى بشبه بموافقة أممية ودولية، وعددنا الشروط والمؤهلات التي يقتضي توفرها في المرشح لهذه المهمّة، وتساءلنا من تراه يكون كفأ  لهذه المهمة ثم بدأنا نستعرض مؤهلات لبنان ومدى إنطباقها على هذه الشروط ؟؟؟ وتحدثنا عن عروبته ومدى إلتزامه بالقضايا العربية ... وبيّنا كيف أن إستقلال لبنان كان شوكة في عيون إخوته الحاسدين..ومع أن  دبلوماسيته خدمت القضية العربية، فبدل أن يكون العرب أوفياء له خوّنوه وهدّموه وتفرجوا عليه وهو يحترق... أليس هذا بالضبط ما حصل أيضا وأيضا خلال الحرب الأخيرة  المشؤومة على لبنان فيما كان العرب يتفرجون فقط ويحاربون باالمناظير المقربة. 

 في الحلقتين السابقتين إستعرضنا شرط المعرفة والإنفتاح على الآخرين وأثبتنا أن موقع لبنان الجغرافي على شواطىء المتوسط أعطاه آفاقا حضارية واسعة فأصبح " أرض اللقاء  La terre de rencontre " ، وتحدثنا عن المساواة بين المواطنين رجالا ونساء كمقوّم أساسي في النهج الديمقراطي.

 

نتابع البحث

حقوق المرأة في الدول العربية

 وعلى المقلب الثاني من العالم وفي نفس الفترة الزمنية تقريبا، كانت صرخة المصلح الإجتماعي  المصري قاسم أمين تدوي مطالبة بمساواة المرأة بالرجل. ولعل الدكتورة البروفسور نوال السعداوي هي بالرغم ما تتعرّض له من مضايقات كثيرة، تصل الى حد التكفير هي، في الوقت المعاصر،  الناشطة الأولى في العالم العربي في حقل حقوق المرأة. 

وفي الواقع، لم تعرف بعض الدول العربية وخاصة في دول الخليج وشبه الجزيرة العربية واليمن وعدن وحضرموت وغيرها الحركات النسائية إلا في سنوات الربع الثالث من القرن العشرين وما بعدها  في حين كانت المرأة في لبنان قطعت شوطا كبيرا في تثبيت حقوقها إجتماعيا وثقافيا ومهنيا وسياسيا ...وصارت مؤهلة للتوظيف والترشيح في الإنتخابات وبالطبع مع تمتّعها بالحقّ في التصويت ...  ولعل السبب في ذلك كلّه يعود الى إنفتاح لبنان على الحضارات الغربية التي سبقتنا أشواطا في هذا المضمار، وهو الإنفتاح الذي أشرنا إليه في الحلقة السابقة. وعليه فإن الخطوة الثانية على طريق الديمقراطية الصحيحة تقوم على إلغاء عدم المساواة بين المرأة والرجل، وبكلمة أوضح يجب تطبيق الشرعات الدولية التي تنص على المساواة بين بني البشر وعدم التمييز فيها على أساس الجنس....

 

إحترام الحريات العامة وصيانتها مظهر  ديمقراطي

ومن الشروط الأساسية الواجب توفرها في البلد المرشّح لتولّي مهمّة تعليم دول الشرق الأوسط الديمقراطية،  أشرنا في حلقة سابقة الى ضرورة أن يكون هذا البلد من البلدان التي تحترم الحريات العامة للمواطن وتحرص عليها وتطبقها تطبيقا عمليا وليس الإتيان على ذكرها عرضا في دساتيرها الأساسية على سبيل الديكور الخارجي والتعمية والتلطي خلف هذه النصوص التي هي مجرد حبر على ورق ... أي نصوص ميّتة ومحنطة، وبالتالي فإن  هذه الحريات هي أيضا ميتة في متن دساتير جامدة ومتخلّفة. في حين أن التطبيق على أرض الواقع اليومي هو نحر لهذه الحريات. وفي أفضل الإحتمالات تكون هذه النصوص الدستورية مجمّدة ومعلقة، أي مسجونة وغير سارية المفعول بسبب القوانين الطارئة التي تعطّل هذه النصوص وتقيّدها بموجب قوانين طوارىء  يدعون أنها مؤقتة ولكنها تصبح هي نفسها القوانين الدائمة والسارية المفعول وفق المبدأ الفرنسي الإستثنائي القائل : “ Il n’ya que le provisoir qui dure “ أي " لا يدوم سوى المؤقت " .

مساهمة لبنان في وضع شرعة الدولية  حقوق الإنسان

كانت الحريات الفردية في لبنان في حمى الدستور اللبناني، وكانت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي كان للبنان دور فاعل وبارز في وضعها وذلك بواسطة الدكتور الفيلسوف شارل مالك، مندوب لبنان الى الأمم المتحدة، هي المثال الأعلى التي يقتدي بها لبنان في سنّ قوانينه الوضعية وخاصة النصوص القانونية التي تحمي الحقوق الفردية هي المطبقة بدقة وأمانة ...وكانت في الواقع تطبيقا أمينا لهذه الشرعات والمبادىء الأساسية.

ويوم كان لبنان سليما ومعافى،  لم يكن من الجائز ولا من المقبول مبدئيا توقيف أي مواطن إلا بناء على مذكّرة قضائية أو في حال الجرم المشهود، وكان التوقيفالإحتياطي تدبيرا إستثنائيا يخضع لأصول وشروط صعبة تؤمن المحافظة على الحقوق الفردية للمواطنين. ولم يكن من الجائز إطلاقا زج إنسان في السجن دون محاكمة يمثل فيها المتهم مع محام يدافع عنه، ويظل المتهم في نظر القانون بريئا حتى ثبوت إدانته ....

 

غياب الحريات العامة في الدول العربية

 ولكن في المقابل كيف كان وضع الحريات العامة في الدول العربية الأخرى؟؟؟ هل نحن بحاجة الى القول بأن الحرّيات العامة فيها كانت مغيّبة ومسجونة وكانت معظم الأنظمة تزج بمواطنيها ومعارضيها في بطون السجون المكتظة بالنزلاء القسريين دون محاكمة أو مرافعة أو من يحزنون... حتى أطلق على  هذه السجون شعار : السجون الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود ... وأضاف آخرون الى كلمة مولود صفات ملازمة هي:...  المعطوب والمعتوه والمشوّه والمشلول...

 ودوّت في وجه هذه الأنظمة صرخة إنسانية مدوّية تقول لهم:  يا جماعة ... " المسجونون بشر " . ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود ؟؟!!! فسمعان ليس في الضيعة !!!

 

حرية المعتقد يصونها الدستور اللبناني

في الحقيقة لم يعرف لبنان وسجون لبنان هذه المعاملات غير الإنسانية إلا العقدين الماضيين ؟؟؟، وذلك بشهادة منظمات حقوق الإنسان ومنظمة الصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات التي ترعى حقوق الإنسان...  إذن لبنان كان من البلدان التي تحترم حقوق الإنسان وحرياته الفردية على تنوعها وتعدّدها... وكان الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي يحترم حرية الفرد في المعتقد والدين ولم يكن يفرض على الفرد عقيدة معينة أو دينا معينا وهذا يتجسد هذا التصرف في مبدأ عام يقول: " الدين لله ، والوطن للجميع "، أو أقله وفي أضعف الإيمان: " لا إكراه في الدين " .

 

حرية التعبير عن الرأي  ممارسة لبنانية بإمتياز 

كان لبنان  يحترم حرّية الفرد في التعبير والرأي، وأقترن هذا بواقع حرّية إبداء الرأي وإن كان مخالفا لرأي أهل السلطة،  فكانت الصحف اليومية تنشر كلّ الآراء وجميع وجهات النظر دون حرج أو خوف من ملاحقة، اللهمّ إلا في حالات الإساءة المقصودة الى الغير ....أي في جرم القدح والذم والتعريض... هذا المناخ في حرية التعبير والرأي جعل لبنان منبرا حرا لكلّ الآراء والعقائد السياسية، ولعل أكبر دليل على ذلك هو العدد الكبير من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية التي كانت تطبع وتنشر في لبنان ويتطلع عليها الجميع....

"اللبنانيون هم الذين خلقوا من العدم الفن الصحافي والمجلات وهم الذين رفعوا الفن الصحفي الى أوج بهائه" ، هذا ما قاله الفيكونت فيليب دو طرازي، في كتابه تاريخ الصحافة العربية. ويصحّ هذا القول في اللبنانيين ليس في لبنان فقط بل في مصر أيضا حيث أسس صحافيون لبنانيون هاجروا الى مصر صحفا لا تزال منارات صحفية متألقة، فالأخوان بشارة وسليم تقلا أسسا جريدة " الأهرام "، والكاتب والمؤرخ جرجي زيدان أسس " دار الهلال " وكذلك مجلة " روز اليوسف"كان مؤسسوها صحافيون وأدباء لبنانيون. وكذلك أسس نسيب عريضة وغيره من اللبنانيين صحفا في الأميركيتين التي من أشهرها جريدة "الهدى ".

وإن دلّ هذا على شيء فهو يدلّ أولا وآخرا على أن اللبناني قد يرضى بجوع الأفواه، ولكنه يرفض كمّ الأفواه. وقد ينام على الطوى ولكنه لا ينام على الضيم. وهو يتأقلم مع كلّ المناخات الطبيعية، ولكنه يأنف مناخ التعسّف وقمع الحريات. وقد يساوم على عيشه في دنياه، ولكنه لا يساوم أبدا على حريته في دينه وعبادة ربه.

 

نتابع البحث  في الحلقة العاشرة

 

ME democratisation 10 BT 

 

مشروع دمقرطة الشرق الأوسط الكبير  !!!

هل يكون لبنان هو البلد المؤهل لإعطاء دول الشرق دروسا في الديمقراطية

بقلم:  بول خيّاط

الحلقة العاشرة

ملاحظة هامة : نلفت إنتباه القراء الكرام الى أنه تمّ إعداد هذه الدراسة قبل الحرب الحاقدة التي تشنها إسرائيل على لبنان  منذ 12 تموز 2006.

مقدمة الحلقة  العاشرة  :

بعد أن إستعرضنا في الحلقات السابقة تصوّرنا حول المهمّات والوظائف التي نقدّر أنها ستلقى على عاتق من يتولى مهمة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الجديد وفق المشروع الذي بدأ أميركيا وأصبح الآن يحظى بشبه بموافقة أممية ودولية، وعددنا الشروط والمؤهلات التي يقتضي توفرها في المرشح لهذه المهمّة، وتساءلنا من تراه يكون كفأ  لهذه المهمة ثم بدأنا نستعرض مؤهلات لبنان ومدى إنطباقها على هذه الشروط ؟؟؟ وتحدثنا عن عروبته ومدى إلتزامه بالقضايا العربية ... وبيّنا كيف أن إستقلال لبنان كان شوكة في عيون إخوته الحاسدين..ومع أن  دبلوماسيته خدمت القضية العربية، فبدل أن يكون العرب أوفياء له خوّنوه وهدّموه وتفرجوا عليه وهو يحترق... أليس هذا بالضبط ما حصل أيضا وأيضا خلال الحرب الأخيرة  المشؤومة على لبنان فيما كان العرب يتفرجون فقط ويحاربون باالمناظير المقربة. 

إستعرضنا شرط المعرفة والإنفتاح على الآخرين وأثبتنا أن موقع لبنان الجغرافي على شواطىء المتوسط أعطاه آفاقا حضارية واسعة فأصبح " أرض اللقاء  La terre de rencontre " ، وتحدثنا عن المساواة بين المواطنين رجالا ونساء كمقوّم أساسي في النهج الديمقراطي. وفي الحلقة السابقة تطرقنا الى إحترام لبنان للحريات العامة وتقديسه لحرية التعبير عن الرأي. 

 

نتابع البحث

قمع حرية الرأي وتقييدها في دول الجوار

 وبالمقابل نتساءل هنا عن حرية الرأي والتعبيرعن الرأي في معظم الدول العربية منذ إنسلاخها عن السلطنة العثمانية في عام 1919 ، ثم منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ولغاية مطلع هذا القرن.. ... لا شك أن المتتبع لهذه الناحية يرى الكثير من القيود المفروضة على الحريات الفردية وخاصة حرية الرأي،  الحرية التي لولاها يصبح الإنسان مجردا من إنسانيته، ويصبح مسيّرا مغسول الدماغ تُفرض عليه الآراء فرضا ولا يقوى على إبداء أي معارضة أو نقاش أو طرح مجرد سؤال للإستفهام .... وماذا كانت النتيجة المباشرة لهذا النهج؟؟ جريدة واحدة!!!  وإذاعة واحدة!!!  ونشرة أخبار موحّدة!!! ورأي واحد !!! ولون واحد!!! وعقيدة سياسية واحدة!!! لا تطيق وجود مزاحم لها...  أي بإختصار، قمع لكلّ رأي مخالف لرأي السلطة الحاكمة... وبعبارة أخرى، فرض الرأي على الطريقة العسكرية: " الأمر لي .. خطوتين فاصل ومسافة "، ونقطة على السطر  Full Stop ....

إنت لا تفكّر... نحنا بنفكّر عنك ...

أو عملا بالمبدأ العسكري الصارم " نفذ... ثمّ إعترض..."  ولكن للأسف فإن هذا المبدأ... تحوّر في البلاد العربية وخاص عقب موجة الإنقلابات العسكرية،  بحجّة التذرّع " ...بأسباب سياسية ومصيرية... وحالات طوارىء إستثنائية تمرّ بها منطقتنا العزيزة...( عزيزي القارىء لاحظ أن هذه الظروف الإستثنائية تستمر منذ أكثر من خمسين سنة... )  إقتصر هذا المبدأ العسكري فقط على الجزء الأول منه،  أي:" نفذ... " أو : " نفذّ ولا تناقش ..."  أو حسب إحدى مسرحيات الرحابنة : "  إنت لا تفكر نحنا بنفكّر عنك... " "...  كول وشراب ونام...  وطنش...  طنش ... "  بمعنى آخر المطلوب من المواطنين في بعض هذه الدول هو إعطاء الفكر والرأي إجازة طويلة الأمد .. ومن ثمّ الإستقالة من الإنسانية ... والدخول في العصر الجليدي الأول... عصر التجلّد والجمود والتحجّر ....

 

لبنان المعافى  هو لمصلحة العرب

على هذا الصعيد،  يعتقد المؤمنون بلبنان بلد الإنفتاح وأحترام الحريات الفردية، أن لبنان إذا إستعاد عافيته كاملة، ولا بد لم من أن يستعيدها، لأن الحالة الشاذة لا يمكن أن تدوم الى ما شاء الله، هذا هو منطق الأمور، وهذه هي قناعتهم، هذا اللبنان المعافى يستطيع أن يعطي الدول العربية التي غابت فيها ممارسة  حرية المعتقد والدين والتعبير عن الرأي من الوجود، وتراجعت الى أبعد من عصر الإنحطاط والظلمات، يعطيهم دروسا في التسامح الديني، أليس لبنان هو بإمتياز بلد تعايش الأديان السماوية، رغم كلّ التشنجات التي شاءها البعض عن قصد وتصميم حاقدين وذلك لقتل روح التسامح التي فطر عليها لبنان منذ عرفت أرضه كلّ الديانات وكلّ المعتقدات وظل هو أرض اللقاء .

 ويستطيع لبنان أيضا أن يعلّمهم حرية التعبير عن الرأي لأنه مارسها عن قناعة وإدراك لأهميتها، ولأنها حسب إيمانه الراسخ، مظهر من مظاهر إنسانية الإنسان الذي لا وجود له إلا بوجودها ... وقد أصبح لدى لبنان خبرة واسعة وغنية في كيفية تطبيق هذه المبادىء والحريات بعدالة ومساواة.

 

الشروط الضرورية والكافية

قبل الدخول في تفصيل ما يستطيع لبنان أن يقدمه لأشقائه العرب في مجال الديمقراطية يجدر بنا أن نوجز بإختصار مفيد جميع مقومات الديمقراطية وبيان أهميتها وبالتالي التأكيد على  إرتباط هذه المقومات وتظافرها مجتمعة لكي تؤمن مناخا صالحا لنمو الديمقراطية ، إذا لا تتحقق الديمقراطية إلا بتلازم جميع عناصرها ومكوناتها الأساسية بإعتبارها مكونات لازمة وضرورية وكافية على طريقة شروط التفاعل الكيميائي أو التكامل في الهيكلية الفيزيائية التي تفترض وجود شروط ضرورية Necessaires   وكافية Suffisantes   التي بدونها لا يمكن للتفاعل أو التكامل أن يحصلا أو ويتمّا بنجاح. لأن بعض الشروط الضرورية قد لا تكون كافية بمفردها الى إحداث التفاعل ، بل يقتضي  أيضا وجود شروط ثانوية أخرى التي بدونها لا ينجح التفاعل...

تذكير مختصر بالمقوّمات الأساسية

وعليه فإننا نعيد بإختصار التذكير بمقومات الديمقراطية لكي نعالج في ما بعد التطبيق العملي للديمقراطية . ففي معرض حديثنا عن أركان الديمقراطية ومقوماتها الأساسية، للتعريف بها، تكلّمنا عن الأنفتاح على مختلف الحضارات الإنسانية القديمة والمعاصرة وعن التفاعل مع هذه الحضارات، كما بينّنا كيف أن قبول الآخرين هو ركن من أركان الديمقراطية، من حيث أن الديمقراطية تفترض التنوع وهذا التنوع ليس بالضرورة أن يكون تنوعا إثنيا وعرقيا ودينيا، وإن كانت هذه الأوجه من التنوّع هي المظهر الأكثر بروزا، لأن الوحدة الإثنية والعرقية والدينية تحتاج هي أيضا الى مناخ ديمقراطي على أساس حتمية وجود تمايز من نوع آخر في هذه الوحدانية، يتمثّل  في الإختلاف في الرأي أوالإختلاف في العقيدة السياسية، وغير ذلك من الإختلافات، لأن أساس الغنى الفكري والحضاري، حتى في المجتمعات ذات الوحدة الإثنية والعرقية والدينية هو التنوع في الأفكار والإتجاهات بين يمين ويسار ووسط، بين متشدّد ومتساهل ومعتدل، بين متزمّت منغلق ومتحرّر منفتح...  هذا التنوع في وجهيه هو ما يحتّم وجود قواسم مشتركة بين الإثنيات والأعراق والأديان والعقائد والتيارات لكي تتعايش كلّها في إنسجام ووئام وضمن قواعد إحترام متبادل وإعتراف واقعي بحق التمايز والإختلاف عن الآخرين ... ولا يتأمن ذلك إلا عن طريق القواعد والأصول الديمقراطية، التي توفّر للجميع المساواة والتكافوء في الحقوق والواجبات دون أي تمييز أو تفريق على الإطلاق.

وتطرقنا الى أن المساواة التامة بين المواطنين في الدولة الواحدة وبين رعاياها، ذكورا وإناثا، هي مقوّم أساسي في النهج الديمقراطي،  لأن عدم المساواة، مهما كانت الأسباب والمبررات؟؟!!، تعتبر وكأنها إعتراف صريح لا لبس فيه، بأن رعايا هذه الدولة هم فئتان على الأقل،  فئة من درجة أولى ، وفئة ثانية أو فئات أخرى من درجات أدنى وهذا يتناقض كلّيا مع مفهوم الديمقراطية الصحيحة. 

لقد حرصنا  على أن نتحدث في البداية على الإنسان، الرجل والمرأة ، لأن الإنسان في نظر كلّ الشرائع والقوانين هو المحور الأساسي لها كلّها دون أي إستثناء، إذ ليس لشرعة أو لدستور أو لنظام أو لقانون قيمة تعلو فوق قيمة الإنسان، لأن هذه كلّها وجدت في الأساس لخدمة الإنسان وتأمين حقوقه وكرامته الإنسانية ورفاهيته الإجتماعية، وليس العكس على الإطلاق... والعكس مهما كانت التبريرات، يعني جعل الإنسان في خدمة الشرائع والدساتير والنظم والقوانين ... لأن الإنسان هو محور كل التشريعات لأنه  قيمة بحد ذاته وكلّ إنتقاص من قيمته هذه  في سبيل خدمة الشرائع والدساتير والأنظمة هو بالتالي حطّ من قيمة الإنسان. وبقدر ما تحافظ القوانين والشرعات، وضعية كانت أم غير وضعية، على قيمة الإنسان وتُعلي من شأنه، بقدر ما تكون هذه مقدّسة ومحترمة وتتمتع بالمصداقية .. وبالمقابل أن من يتحكّم بإستبداد  في الدساتير يتحكّم في الوقت نفسه بالإنسان وقيمته ...

على هذا الأساس يقتضي بنا أن نلقي الضوء على الشرائع والدساتير في الدول لمعرفة مدى إحترام هذه الدول لقيمة الإنسان فيها....

نتابع البحث  في الحلقة القادمة