مشروع دمقرطة الشرق الأوسط  !!!

هل تربة هذا الشرق  صالحة لزرع بذور الديمقراطية المؤصلة أميركيا؟

بقلم:بول خيّاط/كاتب وصحافي لبناني مقيم في ملبورن - أستراليا

الحلقة الأولى

إثر عملية 11 أيلول 2001 الإرهابية بإمتياز مميّز، إستيقظ الغرب والشرق من سباتهما العميق وغفلتهما الغبيّة، على أخطار الإرهاب الذي لا ينكر أي عاقل أن تشجيعه كان، ولعقود من الزمن، من قبل نفس المكتويين به الآن، بما يمكن وصفه بـ "إنقلاب السحر على الساحر" فهل أن  أميركا نفسها وغيرها من دول الغرب، وكذلك بعض دول الشرق الأوسط، هي  حقا غريبة عن طبخات سمّ الإرهاب الذي مورست مظاهره في مناسبات وظروف متعدّدة لا مجال لتعدادها الآن؟

وفي كلّ العمليات الإرهابية السابقة، ظنّ القائمون بها أو الحاضنون لها، وبغباء ما بعده غباء، أن كأس الإرهاب التي يسقونها لأخصامهم ستبقى بعيدة عن شفاههم هم فخاب ظنهم لأنهم بدأوا يجرعونها قسرا وعلى مضض، ولكن دون أن ينفع الندم أو اليقظة المتأخرة جدا التي جاءت بعد فوات الأوان.

 

ولما وصلت نار الإرهاب التي أضرموها في بيوت أعدائهم الى عقر دارهم هبّوا الى إعلان الحرب على الإرهاب لإجتثاثه من جذوره ومكافحته دون هوادة وفي أي شكل من أشكاله ومهما كان مصدره وأسبابه ومسبباته وردع الدول؟ التي تحتضنه وترعاه وتصدّره وقد أطلق على هذه الدول فيما بعد إسم: "محور الشر" في إستعارة ذات معنى تذكّر بـ "دول المحور" التي حاربها الحلفاء – بريطانيا وفرنسا - في الحرب العالمية الثانية ثمّ إنضمت إليهما الولايات المتحدة الأميركية في السنوات الأخيرة لهذه الحرب الرهيبة.

 

بعد أن شنّت أميركا وحليفتها بريطانيا  ودول التحالف الحرب على الإرهاب في معقله الحصين في أفغانستان وجبال طورا بورا، فدمرت نظام طالبان الرجعي الذي أظهر نفسه بشكل واضح وصريح بأنه نظام ظلامي متحجّر ومتعصّب الى أبعد حدود التعصّب والجاهلية فذكّر العالم الحديث بالعهود الرجعية والإنحطاط لما جسّده من تعصّب أعمى وعلى كلّ المستويات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية فبدا للعالم كلّه بأنه نظام يعيش في دياجير الماضي السحيق ويكره الحضارة والتحضّر ربما أكثر مما يكره الموت لأنه يسعى إليه صاغرا أو منصاعا طمعا بمكسب عقائدي تشبّعه مِن مَن سيطروا أو يسيطرون عليه بما يشبه غسل الأدمغة والبرمجة الآلية التي تعطّل لديه ملكة الوعي والتفكير وبالتالي فهو لا ينتمي الى العصر الحديث والتكنولوجيا عصر السير على القمر والمريخ.

 

وعندما سقط نظام الطالبان الذي هو أكثر وأعمق جاهلية من نظام الجاهلية نفسه، ظهرت مساوءه للعالم من خلال ما نقلته شاشات التلفزة العالمية عن الأحوال الإجتماعية للشعب عامة ومعاملة النساء بصورة خاصة. وهي مظاهر أرعبت العالم المتحضّر فدقّت نواقيس خطر الظلامية الزاحف على العالم كلّه من أوكار التخلّف ومغاور التزمّت الذي يشدّ بالعالم الى الوراء. 

 

ومنذ ذلك الوقت بدأت تتكوّن لدى الغرب فكرة " مشروع  الشرق الأوسط الكبير". وهو مشروع يرفع نظريا وفي الظاهر على الأقل راية ما سميّ بـ "دمقرطة"  “Democratization “ دول الشرق الأوسط بصورة عامة وخاصة في أنظمة الدول التوتاليتارية وهذا يعني زرع الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط بشكل عام ويرى آخرون بضرورة توسيع الرقعة لتشمل أيضا بعض دول شمال أفريقيا.

 

تقنياً، الزرع، يقتضي أن تكون هناك أرض أو تربة صالحة للزرع، والتربة في هذا المجال هي شعوب المنطقة على إعتبار أن الديمقراطية في الأساس وحسب التعبير اليوناني الأصلي للكلمة  المركّبة Demos kratos   تعني الحكم المنبثق من الشعب، وهي خلاف الحكم  الأوليغرغشي Oligarchy القائم على حكم عدد صغير جداً من الأشخاص أي: ( الملك وحاشيته) أو ( الرئيس أو الزعيم وبطانته) .

 

وعلى هذا الأساس نتساءل هل أن شعوب هذه المنطقة، مؤهلة لزرع بذور الديمقراطية فيها؟

 

الجواب البديهي عن هذا التساؤل هو أن شعوب المنطقة، أي التربة الأساسية للديمقراطية، غير مؤهلة لنمو هذه البذور وذلك لسببين رئيسيين هما:

أولا: أن غالبية شعوب المنطقة وحكّامها لا يزالون - وبكلّ أسف – راسفين في مخلّفات العقلية العثمانية التي تقوم في الدرجة الأولى على المحسوبية والرشوة والفساد والتسلّط بقوة السيف، سيف السلطان والباشا والوالي والحاكم. أي بسلطة الجهة الحاكمة التي كانت تعتبر إن إرادات السلاطين والحكّام وحدها مصدر التشريعات والقوانين وعليه فإنه  لم يكن للشعب في الواقع أي قيمة أو أي دور في آلية الحكم والتشريع.

 

ومن هذا المنطلق سرى الرأي الشعبي الشائع الذي يعكس قمّة السدور وعدم الإهتمام والذي يقول:" من أخذ أمي أصبح عمّي " أي أن الرعية تتبع الحاكم

ولا تناقشه. وهذا الموقف إن دلّ على شيء فهو يدلّ على شعور الشعب باليأس والإحباط وهذا أخطر المظاهر التي تقضي على أي رغبة للشعب في

ممارسة الديمقراطية.

ولقد أصبحت هذه العادة، بل قلّ هذا التصرّف النمطي، متأصلا في نفوس الشعوب التي كانت واقعة تحت النير العثماني، والتي عاشت ردحا طويلا من الزمن

(بالتحديد مدة 402 من السنين )، وكأنها قطعان من الماشية همّها الوحيد هو أن تأكل وتشرب لتعيش وتتوالد فقط. ولا دور آخر لها، لا من قريب ولا من بعيد،

في أمور الدنيا والسياسة والتشريع

 

من جهة أخرى، لا ننسى أن وظائف الولاة والباشاوات في العهد التركي، كانت تباع وتشرى بالمال. فالوالي الذي يشتري ولايته، كان في الواقع يشتري مصلحة تجارية Commercial bussiness، وحيث أنه لم يكن يضمن بقاءه في الوظيفة التي إشتراها، مدّة طويلة، لذلك كان يستعجل إسترجاع ليس ما دفعه فقط، بل أكثر بكثير، وذلك من رقاب الشعب ودمه وعرق جبينه. فالشعب إذن كان بالنسبة للباشاوات والولاة والحكّام مشروع إستثمار فقط فهل يُعقل إذن، أن يستشار هذا الشعب/المشروع في تسيير أموره؟ الوقائع التاريخية أعطت جوابا سلبيا في هذا المجال وعلى إمتداد أربعة قرون بالتمام والكمال.

 

ثانيا: وللأسف نقول بأن هذه العقلية ظلّت متفشية ومطبّقة في الدول التي نشأت في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة العثمانية، وبدل أن يقوم الحكّام الجدد بتطبيق النظم الديمقراطية التي كانت منتشرة في أوروبا والتي بدأ تطبيقها حتى في الجمهورية التركية الفتيّة التي أسسها المصلح التركي مصطفى كمال الملقّب بـ: "أتا تورك" أي "أبو تركيا" الحديثة التي خلفت السلطنة العثمانية. أجل حتى خلفاء السلطنة العثمانية أنفسهم تخلّوا عن العقلية العثمانية، في حين أن قادة دول الشرق الأوسط، التي نشأت نتيجة إنهيار السطنة العثمانية ظلوا متمسكين بها وبكل شراسة وإستبداد. 

 

فبدل أن يعامل هؤلاء الحكّام شعوبهم معاملة ديمقراطية، جنحوا الى قمع شعوبهم والتسلّط عليها من خلال نظم قامت كلّها على الإنقلابات العسكرية وبإرهاب الفكر الواحد والعقيدة الواحدة واللون الواحد، وعلى قاعدة: "من ليس من رأينا هو حتما عدونا". 

 

وهكذا عملوا على تدجين شعوبهم حتى باتت هذه الشعوب مجرّد جماهير هائجة ومائجة "هتّافة" بشعارات صنمية:" بالروح بالدم نفديك يا زعيم." كائنا من كان هذا الزعيم المفدى؟! ولم يترك  لهذه الشعوب المغلوبة على أمرها أي خيار سوى أن تشيد بالملك والأمير والزعيم والحاكم والقائد. فبات هؤلاء كلّهم وكأنهم في الواقع خلفاء "لويس الرابع عشر" الذي لقّب نفسه بالملك الشمس، Le Roi Soleil لأنهم اعتبروا مثله أن سلطاتهم مستمدة من الحق الألهي وهم معصومون عن الخطأ، وإراداتهم هي أرادة الله على الأرض فمُسِخَت الديمقراطية مسخا رهيبا ومرعبا، حتى وصلنا الى ما يُسمّى بديمقراطيات الـ 99،99% وهي،  إذا جاز التعبير، قاع إنحطاط المفهوم الديمقراطي.

 

وهذه النسبة المئوية العالية جدا والفريدة، وهذه الشعارات الطنّانة والهتافات الحناجرية الفارغة  ظهر بطلانها من خلال ما شاهده العالم كلّه على شاشات الفضائيات العالمية عن إسقاط تماثيل الطغاة وضرب صورهم بالأحذية أو "بالصرماية" كما قال ذلك المواطن العراقي. فأين هي إذن شعارات" الفداء بالدم والروح؟

لا نقول ذلك شماتة بأحد، بل للتأكيد على أن مصير الصنمية المحتوم هو التحطيم بإرادة الشعوب.

هل نذكّر بسقوط الملكية المطلقة في فرنسا؟

أم بسقوط ستالين وموسيليني؟

أم بسقوط عبد الكريم قاسم؟

أم بسقوط ماركوس في الفليبين؟ أم بسقوط ساوشيسكو في رومانيا؟

أم بسقوط بينوشيه وميليسوفيتش وغيرهم؟

إننا نعطي هذه الأمثلة التاريخية القليلة لتكون عبرة لمن يريد أن يعتبر ويحبّ أن يتعظ بأن إرادة الشعوب هي وحدها الإرادة الحقيقية وهي ومصدر كلّ سلطة على الأرض. وما عداها فمصيره وإن إستمرّ لسنوات - مهما طالت-هو مصير كلّ الطغاة في التاريخ القديم والحديث والمعاصر فلماذا الصلف والتجبّر؟

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية

17 تشرين الثاني 2006