الصهريج المندفع
نحو اللهيب الله يستر
بقلم : بول خيّاط
في أوج موجات الحرائق التي تشتعل بضراوة في غابات فيكتوريا فتأكل الأخضر واليابس
وتدمّر الحجر والبشر وتقتل كلّ من دبّ على الأرض من حيوانات وزحّافات ... وتلقي
نتائجها الهائلة والمدمّرة الرعب والهلع في النفوس، وخاصة لأنها تحدث في موسم
الجفاف الذي يلف جميع المناطق في فيكتوريا وفي أستراليا...
في خضم هذه المخاوف المرعبة ، ولسبب ما ...!!! وجدت نفسي أراقب صهريجا ضخما محمّلا
بوقود الـ “ Avtour” الشديد الإشتعال ، والخاص بالطائرات النفّاثة... وكان ينطلق
بسرعة جنونية نحو الغابات المشتعلة على طريق جبلية وعرة شديدة الإنحدار، وبسبب
الثقل الذي يشدّه نزولا ، فقد تعطّلت مكابحه العادية، كما تعطلت أيضا المكابح(
الفرامل) التي تستعمل في الحالات الطارئة، فأندفع دون أية ضوابط .
حدّقت في الصهريج عن بعد، فلفت إنتباهي أن غرفة القيادة فيه تعجّ بالإضافة الى
السائق الأرعن، بعدد من الأشخاص الذين أسكر بعضهم "حدث ما!!!" وراودت آخرين " فكرة
جهنمية ما !!!" أو " مشروع ما !! " ، ودغدغت آخرين " أحلام وردية ما !!! " وهذه
كلّها أضاعت صوابهم فأخذوا يتخاصمون بنبرة عدائية تعكسها تعابير وجوههم المدلهمة،
ويتزاحمون بهمجية فائقة، ويتدافعون بضراوة نحو السائق، ويحاول كلّ منهم أن يستلّم
مقود الصهريج صارخا في وجه السائق والأشخاص الآخرين وكأنه يلومهم بشدّة وعنف،
مقتنعا ربما، بأنهم جميعا، ما عداه بالطبع، سبب الكارثة الواقعة لا محالة.... فيما
ينبري الآخرون مهددينه بالثبور وعظائم الأمور لأنه هو والباقين وحدهم، سبب الكارثة
الوشيكة الوقوع.. ولا يتركون له أو لهم مجالا ليتنكروا أو يتنصلوا من المسؤولية .
ويحتدم التدافع والتزاحم بين السائق الذي يمسك المقود بيد، ويحاول دفع الآخرين عنه
باليد الأخرى... فيختلّ توازنه، ويفقد السيطرة على سير الصهريج الذي ينحرف عن طريقه
نحو الأودية السحيقة، فيتعالى الصراخ والتهويل، ويصطدم جسم الصهريج بالصخور الناتئة
على المنعطفات الحادة فيتمزّق، ويتفجّر السائل الشديد الإشتعال من خلال الشقوق
فيزداد الخطر الداهم المحيق بالراكبين داخل عربة الحجيم المندفعة نحو المصير
المحتوم. وبدل أن يشعر أو يستشعر هؤلاء او بعضهم على الأقل خطورة الموقف، فيحاولون
التحلّي بالعقل والحكمة والتروي، والتخلّي عن الإنفعال، لكي يتدبروا الأمر بما
يؤمّن سلامتهم وسلامة المنطقة التي يعبرون فيها أو ما يضمن سلامة سكان القرى
والدساكر المجاورة... التي تقتربون منها بحمولتهم المتفجرة . أجل بدل أن يفعلوا ذلك،
رأيتهم يتلاطمون ويتبادلون ممجوج الكلمات ويكيلون لبعضهم البعض اللكمات والضربات،
فيعلو صراخهم فوق عويل الحرائق وزمجرتها وصفيرها وفوق أجيج النيران التي ترتفع
ألسنتها العملاقة نحو السماء وكأنها، على ضراوتها ونهمها للحرق الذي لا يشبع، كأنها
أكثر تعقلا منهم جميعا، وهي التي تضرع الى رب السماء بألسنة ملتهبة مرددة: " اللهم
لا نسألك ردّ البلاء فهذا قضاءك وقدرك، ولكننا نسألك الرأفة واللطف بهما"....
أجل النيران تتضرع بألسنتها سائلة الرحمة واللطف في حين أن الألسنة المسعورة داخل
غرفة القيادة تزداد فجورا وغضبا ولسعا، وكلّ واحد منهم يهمّه أولا وآخرا وقبل أي
شيء أن ينفّذ وعيده، ويحقق مآربه ويصل الى غاياته ... فيما الجميع سائرون بسرعة
صاروخية نحو الجحيم....
معذرة أيها القارىء الكريم، لقد فاتني أن أقول لك بأنني كنت أصف حالة الإحتقان
الخانق التي يمرّ بها وطننا المنكوب بسياسيين من هذا الطراز !!!. الذين يشعلون
الوطن ليقوّموا كلامهم!!!
فهل موقف السياسيين في لبنان، كلّ السياسيين، معارضين وموالين، معتصمين وعاصيين،
وما بين بين، هو بأية طريقة من الطرق وفي أي وجه من الوجوه، أحسن من موقف
المتخاصمين داخل غرفة القيادة في الصهريج المندفع بضراوة نحو الهاوية والحجيم؟؟؟
وهل تصاريح هؤلاء السياسيين كلّهم " قشّة لفّة " على إختلاف نزعاتهم، غير خطابات
خشبية وكأن الحالة الملتهبة ينقصها الخشب اليابس ؟؟؟!!! مع أن معظمهم وغالبيتهم
أشجار يابسة لا ولم تحمل ثمارا وقد حكم عليها الوطن المعذب بهم وبتصرفاتهم بالقطع
والإلقاء في النار، ومع ذلك فهم يزايدون ولو تقمّص كلّ واحد منهم دور"نيرون" ليحرق
البلد بتصاريح أقلّ ما يقال فيها أنها تصبّ الزيت على النيران ؟
هل تخاصمهم في ما بينهم عامة، وصراخهم، غير صورة صارخة واضحة المعالم لصريخ وخصومات
المتصارعين على قيادة الصهريج ؟؟؟
ثم هل تصرفات المتحكّمين بمستقبلنا ومستقبل أولادنا في لبنان، تختلف في شيء عن
تصرفات الرعناء داخل الصهريج؟؟
هل تزاحم السياسيين، " ما غيرهم" وخزاة العين عنهم، غير صورة طبق الأصل عن تزاحم
المصالح الشخصية للمتزاحمين المحشورين في الصهريج؟؟
أليست الإعتصامات والمظاهرات المتنقلة كالحرائق المندلعة المحيطة بالصهريج ؟؟؟
أليست التهديدات العنترية والتهديدات الدونكيشوتية المعاكسة شبيهة الى حد بعيد
بتهديدات المأسورين في غرفة قيادة الصهريج ؟؟؟
أليست أجواء التشنج والحقن والإحتقان تفعل بالوطن ومقوماته كلّها، فعل النار في
الهشيم؟؟؟ تماما مثل وقود الطائرات الشديد الإشتعال؟؟؟
أليست الحالة في لبنان منفلتة من كلّ الضوابط تماما مثل مكابح الصهريج المعطلة ؟؟؟
أليس تفرّد كلّ سياسي برأيه وطموحه في أن يكون الرأي له وحده، تماما مثل تفرّد
المتصارعين على قيادة الصهريج كلّ على هواه ؟؟؟
وهل صرخة كلّ واحد من السياسيين المتحكمين بمصائرنا تختلف في الصوت والنبرة
والمقصود عن صرخات هستيريا الإنتشاء النرجسي والأناني، على طريقة الحلاج بن منصور؟؟؟
ولكن الفرق بين الحلاج والسياسيين عندنا، أنه في تصوّفه، يؤمن بالحلول والإتحاد
بالذات الإلهية عن طريق " النرفانا الصوفية" فيحسّ ويشعر بأن الله حلّ في الجبّة
التي يرتديها أثناء ممارسته شعائر التصوّف... فيردد منتشيا: " أنا هو... أنا هو...
سبحاني ما أعظم شاني ....الله في الجبّة"
في حين أن سياسيينا – حفظتهم الذات الإلهية – والمنتشين بالعظمة والأنانية، صار كلّ
واحد منهم يصرخ في هستيرياه الخاصة، هستيريا التأله: " أنا الوطن والوطن أنا
ولا أحد سواي... إتبعوني وإعبدوني.... لأن الحق معي أنا وحدي ....والويل لمن يشكّك
أو يعترض..!!! لأنني سأحلّ عليه غضبي ".فهل من يقودون الوطن اليوم وبطرق العنجهية
المتعالية و النكاية الكيدية على طريقة : " أنا ... ومن بعد حماري عمرو ما ينبت
حشيش... "، هل هم أفضل من المتصارعين على قيادة الصهريج نحو الآتون المشتعل لكي
يزيدوه إشتعالا ... ؟؟؟
وبعد أن بلغ الإحتقان السياسي ذروته، وبعد ماحصل في يوم الإضراب العام والذي أجمع
الكلّ على إعتباره نذير شؤم و سوء، لأن المكتوب يقرأ من عنوانه... فإن كلّ ما يقوله
اللبنانيون الخائفون على مصير الوطن الذي أصبح في مهب الرياح، وهم يضعون أيديهم على
قلوبهم:
" وقانا الله من تصرفات السياسيين، لأنهم بتعنتهم حوّلوا الوطن الى صهريج متفجّر،
وهم وبكل غباء وسادية وتشبّص يقودونه الى الجحيم والله يستر