هل يمكن استعادة أرشيف وزارة الدفاع من سوريا؟

قاعدة معلومات مفصّلة عن العسكريين والسياسيين والفلسطينيين والأصوليين

وملفات التنصّت والتجسّس وإسرائيل ومكافحة الارهاب وخرائط الانتشار

النهار 2/3/2006

بقلم الياس حنّا (1(

عندما اجتاح صدام حسين جارته الكويت، دمرها، نهبها وأحرق ارشيفها، كما اخذ الكثير من الاسرى الذين لم يعرف شيء عن مصيرهم، حتى بعد اطاحة الاميركيين له.

عندما اطاح الاميركيون صدام حسين، نهب الارث التاريخي من متحف بغداد، ودمرت المؤسسات الرسمية، ولم يهتم الاميركيون وقتها الا لوثائق وزارة النفط وارشيف الاستخبارات وكل ما يتعلق باسلحة الدمار الشامل.

عندما دخل السوريون لبنان عسكرياً في 13 تشرين الاول 1990، او بالاحرى قسماً منه كان يطلق عليه عندها "المنطقة الشرقية"، قتلوا من قتلوا، حرقوا ما احرقوا، واخذوا الارشيف من المؤسسات الرسمية، بخاصة العسكرية، عدا ما كان متوافراً من ارشيف في القصر الجمهوري. وكي تكتمل القصة وفصولها، كما كانت في الكويت عند اجتياح صدام حسين لها، اخذ السوريون ايضاً الكثير من الاسرى اللبنانيين الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن، اذا ما كانوا احياء او فارقوا الحياة!

 

واذا كانت الكويت غنية بالنفط بحيث سارع تحالف عسكري عالمي لم يشهد تاريخ الكون مثله، وبقيادة الولايات المتحدة، لتحرير الامارة الصغيرة بعد اشهر قليلة، فلم يكن في المقابل مصير بلد الارز مماثلاً. فبعد الدخول السوري، واستيلائه على الارشيف منتهكاً بذلك الذاكرة الجماعية الوطنية، جثم هذا الوجود – الاحتلال رسمياً على صدور اللبنانيين لفترة ما يقارب الـ15 سنة.

 

واذا كان الدافع الى تحرير الكويت هو الثروة النفطية، فان الدافع الى تحرير لبنان هو ارتقاؤه الى درجة متقدمة ومهمة في الاستراتيجيا الاميركية الكبرى للمنطقة، بخاصة بعد حادثة 11 ايلول ودخول القوات الاميركية العراق.

 

ففي الكويت النفط، وفي لبنان الحرية والديموقراطية. وفي الكويت سرق الارشيف، كذلك الامر في لبنان. ولم تسترد الكويت ارشيفها واسراها. كذلك لم يسترد لبنان ا رشيفه واسراه. ويبقى الفارق الكبير بين الدخول البعثي السوري الى لبنان، والدخول البعثي العراقي الى الكويت، هو ان حصل بطلب رسمي من الحكومة الاولى اللبنانية آنذاك – مع الرئيس الياس الهراوي – وبموافقة ضمنية اميركية. اما الدخول الثاني فكان بقرار عراقي بحت، بعد ايحاء اميركي لصدام من السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي ان المشكلة بين العراق والكويت هي شأن عربي لا دخل لاميركا فيه. لكن الجدير ذكره هنا هو ان سبب الدخول العسكري للبعثيين الى كل من لبنان والكويت، هو ان العراق كان يعتبر – ولا يزال، من يدري؟ الكويت المحافظة رقم 19 وانها اقتطعت منه قسراً. اما سوريا فتعتبر، في وعيها القومي، ان لبنان هو صنيعة الغرب عبر اتفاق سايكس بيكو، وانه جزء لا يتجزأ من سوريا الكبرى، وقد اقتطع منها قسراً.

 

واخيراً، وليس آخراً، فرض مجلس الامن ترسيم الحدود بين العراق والكويت، في حين لا يزال لبنان يعاني من ترسيم حدوده مع سوريا.

 

يقول الفيلسوف الالماني يورغان هابرماس، ان الطباعة غيرت العالم، وان التواصل السريع بين العالم، وانتشار الصحف والمجلات، قد جعل الكل يعرفون عن الكل وعن انفسهم ايضاً. وان هذه المعرفة قد ادت، بحسب هابرماس، الى خلق ذاكرة تاريخية جماعية وعاملية في الوقت نفسه(2).

 

وبذلك يصبح الماضي معلوماً ومعلماً في الوقت نفسه، فنعود اليه عند الحاجة لاخذ العبر منه، واعتماده نبراساً لرسم صورة المستقبل.

 

ففي غياب الماضي والذاكرة الجماعية، تفقد البوصلة الاجتماعية اتجاهها. فلا تعود تعرف خارطة طريق المستقبل، لأن الماضي غائب عن وعيها. كما تبدو المجتمعات كأن تاريخها بدأ البارحة فقط.

 

يقول البروفسور الاميركي راندال جيمرسون الخبير في شؤون الارشيف، ان ثمة اربعة انواع من الذاكرة هي: الذاكرة الشخصية، وهي متغيرة قصيرة الامد. الذاكرة الجماعية – الاجتماعية، وهي تساعد في خلق الهوية لامة ما. الذاكرة التاريخية، وتتناول كل ما يتعلق بانجازات امة او حضارة ما، من نصب واهرام مثلاً. وهي تعطي صدقية لتلك الامة بان تاريخها كان مميزاً ومنيراً. واخيراً، هناك الذاكرة الارشيفية، اذا صح التعبير. وهدف هذه الذاكرة، لأن الذاكرة الشخصية غالباً ما تكون متغيرة ومتقلبة وقصيرة الامد، هو ربط الذاكرة المتغيرة بمصدر ثابت غير متبدل نعود اليه في حال خانتنا الذاكرة الشخصية. ويعرف راندال الذاكرة الارشيفية كالآتي: "يمكن النظر الى الارشيف على انه وسيلة قيمة لتوسيع المديين الزمني والجغرافي للعلاقات الانسانية (3)".

 

كذلك يعتبر الارشيف وسيلة لاحكام السلطة ومأسستها، واعطائها الشرعية اللازمة. ألم يأخذ اغلب الطغاة، الملوك ورجال الدين والسياسيون شرعيتهم من خلال وثائق عديدة، زمنية كانت ام آلهية؟

 

واذا كان للذاكرة الارشيفية هذا الدور المهم في ربط الذاكرة الشخصية بالذاكرة التاريخية، وبالتالي الذاكرة الجماعية الاجتماعية،

 

واذا كانت الذاكرة الارشيفية تشكل المصدر الدائم والمرجع في حال تقصير  الذاكرة الشخصية وعدم قدرتها على ربط بعض التواريخ ببعضها،

 

فان سرقة الارشيف الورقي او الالكتروني بعد الثورة في عالم الكومبيوتر، يعتبر سرقة للشخصية والهوية القوميتين لاي امة تم الاعتداء عليها. بل، انه انتهاك للكرامة، وتدنيس للخصوصية، وبخاصة ان الطبيعة البشرية على الاقل جينيا كانت قد تكونت استناداً الى نظرية التطور على صفة "الحياء"، وعلى تجنب الاخطاء الاجتماعية الكبيرة، كل ضمن محيطه الصغير جداً آنذاك، لان الخطأ وقتها كان مكلفاً وجزاؤه الموت. ولا تزال هذه الصفة قائمة فينا حتى الآن، اي الحياء (4).

 

انطلاقاً من هذه المقاربة، يمكننا القول ان هناك حيزاً خاصاً وشخصياً لكل شخص وامة يريد ابقاء اسراره واموره الخاصة به تحت طابع الخصوصية. فلنتأمل مثلاً ردة فعل من انهكت خصوصيته. ينطبق هذا الامر على وضع دولة انتهكت اسرارها وخصوصيتها من خلال سرقة ارشيفها والاسيتلاء عليه.

 

 

 

هل لدينا ثقافة ارشيفية؟

 

عندما نتحدث عن الثقافة الارشيفية، فاننا نقصد تلك العمليات التراكمية في التعامل مع الارشيف. وهذا أمر يتطلب ايضاً، آلية للتعامل مع هذا الارشيف، كما يتطلب قوانين ومراسيم. ومن الاكيد، ان تحوي هذه القوانين والمراسيم، طريقة تصنيف الارشيف حسب درجة الاهمية والخطورة – "سري"، أو "سري للغاية" مثلاً. ومن يحق له الوصول الى هذه الدرجات، وكيف توزع المهمات على المتعاملين مع هذا الارشيف؟ كذلك الامر، وجب ان تتضمن هذه المراسيم والتعليمات العقوبات الواجب فرضها في حال حصول انتهاك سرية الارشيف المعني. واخيراً، وليس آخراً، من الضروري ان تتضمن هذه القوانين والمراسيم والتعليمات آلية التخلص من هذا الارشيف بحسب الاهمية، عبر حرقه او نشره، وبعد اي وقت من تكونه.

 

فعلى سبيل المثال، تنشر اسرائيل ارشيف الدولة بعد مرور ثلاثين سنة على وقوع الحدث. لكنها تنشر ارشيف الحكومة ومحاضر اجتماعاتها بعد مرور اربعين سنة. لكن ارشيف الحكومة الامنية المصغرة لا ينشر قبل مرور خمسين سنة. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نشرت الحكومة الاسرائيلية بعضاً من ارشيفها حول اقتراح لرئيس حكومتها ليفي اشكول – بعد حرب الـ1967 – والمتعلق بتبادل في السكان بين اسرائيل والعراق. فقد ترك 100000 يهودي العراق، وعلى العراق ان يأخذ 100000 لاجئ فلسطيني(5).

 

في مكان آخر، وهذا أمر مهم، يعتقد البعض، بحسب ما نشر، ان وزير خارجية اسرائيل ابا ايبان قبيل حرب الايام الستة، وبعد عودته من لقاء مع الرئيس الاميركي ليندون جونسون، كان قد غش حكومته حول موقف الولايات المتحدة من اغلاق جمال عبد الناصر مضائق تيران، اذ قال له جونسون، وبحسب ايبان، انه في حال فشلت اميركا في ممارسة ضغط دولي على مصر لفتح المضائق، فان الاسطول السادس الاميركي سوف يهتم بالامر منفرداً. لذلك اقنع ايبان الوزراء بتأجيل بدء الحرب. ويعلق البعض على هذا الارشيف بقوله: لو قامت اسرائيل بضرب مصر، متجاهلة نصيحة إيبان، وذلك قبل قيام التحالف بين الملك حسين وناصر، لكانت اسرائيل وفرت احتلال الضفة، وتجنبت بذلك كل تلك الاعباء التي لا تزال تعانيها حتى الآن. اذاً، يمكن هذا الارشيف ان يفيد قادة اسرائيل حالياً، ومن هنا اهميته. لكن الاهم، هو في توافر الثقافة الارشيفية.

 

ومع العودة الى الارشيف اللبناني، يمكننا الجزم بانه في حال توافر قوانين للتعامل مع الارشيف في كل دوائر الدولة ومؤسساتها، فان هذه القوانين لا تطبق. واذا طبقت، فهي تطبق بصورة خاطئة. من هنا، لا نجد تراكمات تجريبية في التعامل مع الارشيف، اذا لا ثقافة ارشيفية.

وان غياب هذه الثقافة امر يعانيه جميع الباحثين والكتاب. اذ من الصعب الحصول على اذن لقراءة ارشيف سياسي، او امني بهدف الكتابة عنه. حتى ان الدولة لا تحترم قوانين نشر الارشيف بحسب ما ذكرنا آنفاً. من هنا غياب الدراسات المتخصصة في المجال الامني اللبناني، وفي المجالات العسكرية. وخير دليل على ذلك قلة المصادر التي اعتمد عليها الصحافي والكاتب نقولا ناصيف، عندما اصدر كتابه "المكتب الثاني، حاكم في الظل"(6). اذ ان جل ما اعتمد عليه الكاتب لا يتعدى المقابلات الشخصية مع المعنيين، وبعض المحاضر والجرائد المحلية. ولم نلحظ اي مرجع حكومي رسمي ابداً، او ارشيف تم الافراج عنه بصورة قانونية.

 

واذا كان لبنان يتمتع بالقليل من الثقافة الارشيفية قبل الدخول السوري، فانه قد خسرها بصورة كاملة بعد هذا الدخول. وقد يبدو اهم واخطر دليل على ذلك ورد في التقرير الثاني للمحقق الدولي ديتليف ميليس، عندما صادر من المنزل الخاص للمدير العام لقوى الامن الداخلي – الموقوف حالياً - ما يقارب الـ1000 ملف تحتوي على معلومات دقيقة وحساسة في مواضيع عدة (7).

 

 

 

وضع الأرشيف قبل الدخول السوري

 

من المعروف ان لبنان كان مقسماً قبل الدخول السوري احياء وشوارع تسيطر عليها الميليشيات. لكن الاكيد، ان تراكمات الارشيف في وزارة الدفاع كبيرة ومهمة جداً. وهي كانت تحوي معلومات دقيقة ومفصلة، وفي مجالات عدة. بقطع النظر عن المعلومات المتعلقة بالعديد، اللوجستية والدعم – وهي ذات اهمية ثانوية للقوات السورية – يبدو الارشيف في خزائن مديرية المخابرات كأنه اهم مكسب للمخابرات السورية. فماذا كانت تحوي هذه الملفات، على وجه التقريب؟ انطلاقاً من التركيبة التنظيمية الهيكلية لمديرية المخابرات، وآلية عملها، ومعرفة من تخدم من المؤسسات الامنية والسياسية، يمكننا استنتاج وبصورة تقريبية نوع المعلومات التي فقدت بعد الدخول العسكري السوري، فماذا عنها وباختصار وايجاز؟

 

1 – هناك المعلومات العسكرية – من قسم الامن العسكري – التي تحوي كل التفاصيل والمعلومات والملفات عن العسكريين اللبنانيين.

 

2 – هناك ملفات في قسم الامن القومي تتضمن معلومات مفصلة وحتى خاصة عن السياسيين والمؤسسات والاحزاب والجامعات والنقابات، وعن كل المنظمات الفلسطينية الموجودة على الارض اللبنانية، وعن المنظمات الاصولية، وبخاصة "الاخوان المسلمين"... الخ.

 

3 – هناك معلومات في قسم الامن الاستراتيجي تتعلق بالعدو الاسرائيلي. وان يكن هذا العدو يأتي في آخر سلم الاولويات.

 

4 – كل الارشيف المتوافر في القسم الفني في مديرية المخابرات والذي يتعلق بالتنصت على المكالمات الهاتفية.

 

5 – وهناك ايضاً الارشيف المتعلق بقسم مكافحة الارهاب والتجسس.

 

6 – اخيراً وليس آخراً، المعلومات المتوافرة في غرفة العمليات – قيادة الجيش – وهي مهمة على الاقل لمعرفة خرائط الانتشار العسكري للجيش اللبناني.

 

لذلك، تبدو اهمية هذا الارشيف كبيرة للقوات السورية ومخابراتها لأن هذا الارشيف قد يساعد هذه المخابرات في أمرين مهمين جداً هما: اضافة ما ينقص الى ارشيفها من معلومات جديدة، وتصحيح المعلومات الخاطئة في ارشيفها في حال وجدت. وهنا، لا بد من ذكر الاعتقالات التي قامت بها القوات السورية للكثير من الضباط الذين كانوا يخدمون في الاماكن الحساسة، وبخاصة مديرية المخابرات والعمليات. اذ من خلال هذه التوقيفات والتحقيق مع هؤلاء الضباط يمكن اضافة الكثير من المعلومات القيمة الى الارشيف الذي تم الاستيلاء عليه.

 

هذا عن ارشيف وزارة الدفاع، اما ارشيف القصر الجمهوري، فانني اكيد انه لم يكن هناك ارشيف ذو اهمية، نظر الى الدمار الذي الحق بهذا القصر.

 

بعد الدخول السوري

بعد الدخول بدأت عملية مأسسة السيطرة على الدولة وعلى كل المؤسسات، وبخاصة الامنية منها. وهنا، لا يمكن الحديث عن ارشيف لبناني منفصل عن الارشيف السوري. اذ كان من المعروف ان اي تقرير كان يكتب لاي مسؤول امني لبناني، كانت هناك نسخة منه ترسل الى المسؤول السوري، قد يكون العكس غير صحيح. وفي كثير من الاحيان، كانت التقارير المهمة تتجاوز المسؤول اللبناني، لترسل مباشرة الى المسؤول السوري. ولا يسعني هنا الا ان استشهد مرة ثانية بما قاله المحقق الدولي ديتليف ميليس حول الارشيف الذي صادره من منزل اللواء علي الحاج. فهو يؤكد في تقريره، اي ميليس، ان درس الملفات التي صودرت من منزل اللواء الحاج تظهر جليا كيف كانت المخابرات السورية متداخلة بالمخابرات اللبنانية، او حتى انها كانت تسيطر عليها (8).

 

أما في ما خص ارشيف القصر الجمهوري، بعد الدخول السوري، فانني استعين هنا بالرئيس السابق الياس الهراوي، وما اورده في مذكراته "عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة" (9). ففي هذه المذكرات يتفاخر الرئيس الهراوي بأنه سيسلم خلفه وللمرة الاولى كل موجودات القصر استناداً الى جردة كان قد قام بها المدير الفني للقصر المهندس محمود عثمان. ويضيف انه شرح للرئيس اميل لحود تفاصيل الملفات اللبنانية ودقائقها. كذلك الامر، يتابع الرئيس الهراوي، ان السيدة الاولى اندريه لحود فوجئت عندما تسلمت "سرفيس طعام" لاكثر من ثلاث مئة شخص. اذا، هكذا يتم التسليم والتسلم بين رؤساء الجمهورية اللبنانية، وهذا امر قد يثبت ما قلناه آنفاً حول عدم توافر ارشيف مهم في القصر الجمهوري عند الدخول العسكري السوري. مع امكان الجزم بان الرئيس الجديد (لحود) كان يمسك ولوقت طويل جداً قبل الوصول الى بعبدا تقريباً بكل الملفات المهمة. وعندما نقول الملفات المهمة، لا نقصد بالطبع الملفات النووية، وملف الصراع مع العدو الاسرائيلي والخطط الاسرائيلية – العسكرية. وانما نقصد ملفات متابعة السيطرة واستكمال مأسسة الهيمنة على كل الحياة السياسية في لبنان، وذلك من ضمن المخطط الاكبر السوري، وهذا على الاقل ما اظهرته الاحداث والوقائع التي تلت حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبالتالي الانسحاب السوري.

في استرجاع الارشيف

في العوائق القانونية:

1 – لا يمكن الاستناد الى القوانين الدولية والاتفاقات المتعلقة بالحفاظ على الارث القومي والوطني لأمّة ما، ابان الحروب المسلحة – هيغ 1954، ومعاهدة جنيف 1949، وكل البروتوكولات التابعة لها – لاستعادة الارشيف اللبناني من سوريا. فالدخول السوري العسكري الى المناطق الشرقية، كان بناء على طلب رسمي من الحكومة اللبنانية لانهاء التمرد في تلك المناطق، هذا على الاقل ما ورد في محضر اجتماعات مجلس الوزراء في ذلك الوقت تحت رقم 30 ل/ه تاريخ 1990 وفي فقرة تقول بانهاء تمرد بعض الضباط والجنود عسكريا. (10) اذا النظرة الرسمية اللبنانية، وحتى الدولية الى الدخول العسكري السوري لاجزاء من لبنان، هي نظرة قانونية قد تستغل ضد من يطالب باستعادة الارشيف اللبناني.

 

وقد يسأل المرء هنا: هل وضعت القيادة اللبنانية، السياسية والعسكرية، قبيل الدخول العسكري السوري الى المناطق المتمردة بحسب محضر مجلس الوزراء، اي خطط طارئة، او كلفت من يلزم المحافظة على الارشيف على الاقل في وزارة الدفاع بعد انهاء التمرد؟

 

2 – بعد انهاء التمرد واستكمال الحياة العادية، وبحسب الرئيس الهراوي في مذكراته "عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة"، بدأت سلسلة الاتفاقات اللبنانية – السورية، الاخوية التدفق على لبنان حبا وولعا. ولم يرد في اي اتفاق موضوع استعادة الارشيف اللبناني من سوريا، لم ترد اي فقرة لاستعادة الوطن!

 

في العوائق الادارية

1 – اذا سلمنا جدلا بان لبنان طالب باستعادة الارشيف، فهل فعلا تعرف الدولة، او المؤسسة العسكرية، بما ستطالب به؟ وهل هو مصنف ضمن لوائح تفند مواضيعه؟ وهل كانت الدولة تحتفظ بنسخ بديلة في ذلك الوقت؟ اذا نعم، اين هي هذه النسخ؟ وهل هي صلبة ام طرية – Soft or Hard؟

 

2 – واذا سلمنا جدلا بان الدولة اللبنانية طالبت فعلا بالارشيف، فهل ستعترف الدولة السورية بأنها اخذته، وبخاصة ان امر الاعتراف بأخذه سوف يفتح أبواباً قانونية ومسؤوليات كبيرة عليها؟ وهل لدى سوريا ثقافة ارشيفية، وبخاصة اننا كلبنانيين ليست لدينا ايضا مثل تلك الثقافة؟

 

واذا اصر البعض على المطالبة بالارشيف، رغم ذلك، فكيف نفسر الرد السوري على رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس عندما قال له مسؤولون سوريون انهم احرقوا كل الارشيف المخابراتي المتعلق بالوضع اللبناني عندما كانوا يسيطرون على كل شيء.(11) علما ان احراق الارشيف، في حال توافر ثقافة ارشيفية، يجب ان يتبع طرقا قانونية ترتكز على تعليمات تتعلق بطريقة التعامل مع الارشيف بصورة عامة. فهل يمكن تصديق الرواية السورية حول الحرق؟ وكيف يمكن حرق الارشيف الاهم الذي تراكم لفترة اكثر من 15 سنة، تحت شعار وحدة المسار والمصير، ومن ضمن استراتيجيا التحرير واستكمال الصراع العربي – الاسرائيلي؟

 

في العوائق السياسية

1 – ان قرار المطالبة الرسمية بالارشيف يحتم فعلا قراراً سياسيا على صعيد الدولة. وقد يطرح هذا الامر مرحلتين من التعامل اللبناني – السوري الرسمي. الاولى، مرحلة الوجود السوري او بالاحرى الوصاية السورية. ففي تلك المرحلة لم يكن في استطاعة احد المطالبة بالارشيف. حتى ان موضوع المطالبة بهذا الارشيف، لم يفتح الا بعد الخروج السوري. مثال المؤتمر الحالي مثلا.

 

ففي تلك المرحلة، كانت الدولة خجولة وحتى خائفة من المطالبة بتطبيق وثيقة اتفاق الطائف. فكيف ستطالب هي بالارشيف؟ وهل كانت الدولة تتذكر ان هناك ارشيفا، ام هي نست او تغافلت عمدا – لعجزها – المعتقلين اللبنانيين في سوريا كما في اسرائيل؟ وهي كانت تخلت عن دورها الاساسي في حكم اللبنانيين، بعدما اوكلت امرها الى الاجهزة الامنية التي عاثت في الارض فسادا.

 

وفي المرحلة الثانية، اي بعد مرحلة الخروج السوري عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يمكننا القول ان الدولة كانت شبه دولة، تندرج الاولوية لديها في الحفاظ على الكيان، وفي معرفة حقيقة من اغتال الرئيس الحريري. لكن، بعد مرور فترة سنة تقريبا على حادثة الاغتيال، ظهرت بشكل حاد الفوارق والاختلافات السياسية بين الافرقاء اللبنانيين. فرأينا ساحة 8 آذار تشكر سوريا من جهة، وساحة 14 آذار تتهم سوريا بحادثة الاغتيال من جهة اخرى. وقد اختلط امر تحديد من هو عدو لبنان، وهل هي سوريا؟ ام اسرائيل، ام الاثنان معا؟ وفي ظل تشنج كهذا والخوف على المصير، تأتي اهمية استعادة الارشيف اللبناني من سوريا، في آخر سلم الاولويات تقريبا، او قد لا تأتي اطلاقا.

 

2 – واذ نحن طالبنا الآن باسترداد الارشيف بعيد الدخول السوري. فلماذا نسينا كل الارشيف الذي تراكم في مرحلة مابعد الوصاية ولمدة 15 سنة؟

 

وقد يسأل المرء. هل فعلا هناك ارشيف لبناني تكوّن في مرحلة ما بعد الدخول والوصاية؟ ام ان تكون الارشيف هذا كان يصب اولا في الملفات السورية بسبب سيطرة السوريين، على الحياة السياسية، الامنية والاقتصادية في لبنان، ومن ثم كان يمرر ما يمرر للسلطات والمؤسسات اللبنانية؟ وقد يبقى الاهم، ما اخذه السوريون عند خروجهم القسري من لبنان بناء على القرار 1559. لكن الاخطر على الامن القومي اللبناني يبقى في ذلك الارشيف السري الذي كان في حوزة المسؤولين الامنيين اللبنانيين – كانوا يمارسون سلطتهم دون اي مراقبة سياسية لمدى 15 سنة – ولم يعرف مصيره بعد الخروج السوري، وبعد توقيفهم على انهم متهمون بحادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ونأخذ اللواء علي الحاج مثلا، وقد ذكره آنفا في الحاشية رقم 7. فأين هو هذا الارشيف؟ واين التراكمات التي نتجت خلال 15 سنة؟ وماذا كانت تحوي من تسجيل لتنصت على الكل، وتسجيل مكالمات الكل؟

 

خاتمة

لقد اظهرنا اهمية الارشيف في الوعي القومي للامم. كما بينا كيف يمكن انتهاك الشخصية القومية لبلد ما، في حال انتهاك ارشيفها وبخاصة ان الارشيف يعتبر المنبع والمرجع للامم، تغرف منه، وتعود اليه عند انقطاع الخيط الذي يربط، بين الماضي والحاضر، وذلك بهدف استشراف المستقبل. كما اظهرنا صعوبة استرداد الارشيف اللبناني من سوريا. وفرقنا بين الارشيف قبل الدخول السوري، وبعده، وخلال الوصاية السورية لمدة تزيد على 15 سنة. فهناك صعوبات قانونية، ادارية وسياسية ايضا، تؤخر امكان استرداد الارشيف من سوريا. لكن المهم يبقى في غياب الثقافة الارشيفية في لبنان، كما في سوريا.

 

وفي ظل الوضع الخطير الذي يعيشه لبنان، قد يسأل المرء، ما هي اهمية استرداد الارشيف اللبناني الآن من سوريا؟ وهل سيساهم هذا الارشيف في انعاش الذاكرة الجماعية – الاجتماعية اللبنانية حول ضرورة العودة الى مفهوم العيش المشترك؟ ام ان الواقع الحالي في لبنان، والمتغيرات الجذرية التي طرأت على تركيبته، في الديموغرافيا، الايديولوجيا ومن ثم موازين القوى الداخلية، قد اطاحت ما يمكن لهذا الارشيف ان يساهم في اعادة اللحمة اللبنانية.

 

وهنا يذكرني هذا الوضع بما قاله الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس حول اليوتوبيا والتاريخ. فبالنسبة اليه، تنفجر روح العصر عندما يتلاقى الفكر التاريخي بالفكر اليوتوبي. فاليوتوبيا هي الوسيط الذي نرسل اليه تطلعاتنا واحلامنا في المستقبل، وذلك استنادا الى وعينا للتاريخ. ولكن، اذا كان ذلك التاريخ قد اصبح عبئا علينا، ولم يعد يؤمن لنا تلك الافكار الخلاقة وذلك الشحن من الدروس المستقاة، كل ذلك يحدث لان العالم الآن يعيش مرحلة ما بعد الحداثة. وقد اصبح اساسيا وضرورة وحيويا، بسبب عجز التاريخ، الاستنباط المستمر كي يتسمر الحاضر دون اضطرابات مقلقة.(12) لكن الاستنباط، يتطلب ثقافة متقدمة للمسؤول، كما يتطلب رؤية تعوض قصور التاريخ في تقديم الدروس. وهذا ما نفتقده حاليا في لبنان. فأيهما يأتي اولا، الارشيف ام من صنع هذا الارشيف؟

1 – استاذ جامعي، باحث استراتيجي وعميد ركن متقاعد

2 – Jurgen Habermas, Aprés l'Etat Nation, Fayard, Paris, 2000, pp-18

3 – Randall C.Jimerson, Archives and Memory, http://www.emeraldinsight.com/insight/viewcontentitem.do?contenttype = article&contentid = 863202 accessed – 18 – 1 – 2006

4 – Terry Burnham, and Jay Phelan, Mean Genes, Penguin Books, London,2001,pp-103

5 – Tom Segev, Origins of Occupation. Haaretz,7-1-2006

6 – نقولا ناصيف، المكتب الثاني، حاكم في الظل، دار مختارات بيروت 2005، ص – 699 – 700

7 – See the second Report of the UNIIIC, issued in Beirut 10 Dec 2005, pp-15, paragraph C – ISF records

8 – Ibid

9 – الياس الهراوي، "عودة الجمهورية من الدويلات الى الدولة"، دار النهار للنشر، بيروت 2002، ص، 610 – 611

10 – المرجع نفسه ص، 170

11 – See the second Report of the UNIIIC, issued in Beirut 10 Dec 2005, pp-8-9

12 – Innovation