صديق بشير الجميّل و"الرفيق الكبير" البعيد عن الضوء/ رحيل خزانة أسرار لبنان زاهي البستاني

كلمات بالراحل المناضل للكاتب أنطون نجم، والكاتب إيلي الحاج، والكاتبة فيفيان ص. داغر

30 تشرين الأول/عن مجلة الميرة

 

زاهي ابن المقاومة البار

الكاتب انطوان نجم

 كأنّ الزمان ما عاد الزمان.

حبّات مسبحة المقاومين-الرسل ستكرّ. كلّ بدوره. يحمل معه نضالاً فيه، كالجَعبة، أصنافًا من التضحيّة والمغامرة والاندفاع والعطاء والإبداع وخرق المستحيل، ما يتوّجه شهيدًا وإنْ لم يسقط في ميدان القتال.

حكاية زاهي البستاني مع المقاومة اللبنانيّة لا نفيها حقّها لغناها الفاحش ولفقر لغتنا في التعبير عنها.

في اللحظات الصعبة، في غياب زاهي في فرنسة، كان «الباش» يزمّ شفتَيه ويقول: أين أنتَ يا زاهي؟

غيابه فراغ مقلق. حضوره اطمئنان وهدوء بال. رأيه إخلاص صافٍ. نصيحته إرشاد خيِّر. إنتقاده درس بليغ. دوره في انتصار المقاومة حاسم. وقد أسرّ إليَّ بشير يومًا بأنّه مدين لرفقائه ولوالده وللرئيس الياس سركيس. ومن بين الرفقاء، فهو مدين لزاهي بفضل خاصّ.

كلّ من تعامل مع زاهي، على أيّ مستوى، ومن أيّ زاوية، وبأيّ هدف، لا بدّ أنّه يستعيد الآن بعض الذكريات: حركات زاهي، صوته، نبرته، ردّ فعله إذا لم يعجبه أمر...

«مش هيك بيصير الشغل»! عبارة طالما ردّدها بانفعال وشبه ثورة عندما كان يشعر أنّ هناك تصرّفًا معيّنًا أو سلوكًا محدّدًا قد يؤذي مسيرة المقاومة ويضرّ بأهدافها.

ما أحبّ زاهي الظهور يومًا. الظلّ كان مكانه المفضّل. صموت. ما من أحد نجح في استدراجه إلى الكلام عندما يكون مقتنعًا بعدم الكلام. كان خلع ضرسٍ أكثر سهولة من سحب كلمة من فيه لا يرغب في إطلاقها. ولطالما صُدم فضوليّ أمام صمته وانكفأ خائبًا.

رحل زاهي.

لقد مضى بعدما فُجع بعزيزَين كبيرَين: ابنته والمقاومة في ما صارت إليه.

فجيعته بابنته سلّمها إلى مشيئة الربّ.

أمّا فجيعته بالمقاومة فعرف أن ليس في الأسباب والمسبّبين ما يخفّف من وقع المآسي أو يؤاسي. كان مطّلعًا على مكامن الخلل، كما عارفًا عجزه عن فتح كوّة، ولو بحجم النقطة، في أسوار الأنانيّات والغوغائيّات والمصالح الدنيئة والتجارة بالقيَم وجنون العظمة والانحطاط الخلقيّ... وضدّ هذا الخضمّ المرعب من الأمراض، آمل من زاهي أن يصرخ من عليائه بصوت راعد: «مش هيك بيصير الشغل»!

 

 

  صديق بشير الجميّل و"الرفيق الكبير" البعيد عن الضوء

رحيل خزانة أسرار لبنان زاهي البستاني

الكاتب إيلي الحاج

 رحل المدير العام السابق للأمن العام اللبناني زاهي البستاني، الشخصية التي ندر أن عرف لبنان مثيلاً لترفعها ونبلها وإخلاصها لفكرة  الوطن والمقاومة الحقيقية الشريفة في سبيله.  بصمت رحل كما عاش بعيداً عن الأضواء  عن 59 عاماً،  إثر صراع مع مرض عضال. وكان طلب قبل 10 أيام نقله من باريس حيث كان يقيم ويتعالج، إلى بيروت ليفارق الحياة في مستشفى “أوتيل ديو” الفرنسي.

زاهي البستاني أحد ثلاثة مسؤولين في الدولة اللبنانية ساهموا بقوة في إيصال مؤسس “القوات اللبنانية” بشير الجميّل إلى رئاسة الجمهورية عام 1982، الآخران هما رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، ومدير مديرية المخابرات في الجيش آنذاك العقيد جوني عبده الذي أصبح سفيراً لاحقاً فمستشاراً لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. إلا أن زاهي البستاني كان الأقرب إلى بشير، إلى درجة أنه فيما كان يتابع عبر شاشة التلفزيون عملية  عدّ أصوات النواب الذين انتخبوه رئيساً كتب على صورة له عبارة وحيدة بالفرنسية: “شكراً زاهي ...” .

شهادة صداقة وعرفان جميل سيعتز بها الرجل الذي تولى المديرية العامة للأمن العام مطلع عهد شقيق بشير وخلفه الرئيس أمين الجميّل، لكنه ترك منصبه بعد نحو سنتين لاختلافات في وجهات النظر مع رئيس الجمهورية، متفرغاً لعائلته وأشغاله الخاصة، متحاشياً أي منصب رسمي أو سياسي، وحتى أي ظهور إعلامي. وهي ظاهرة نادرة بين متعاطي الشأن العام في لبنان، خصوصاً أنه ظل متابعاً لأدق تفاصيل الحياة السياسية في بلاده، سواء أكان مقيماً في منزله المطل على خليج جونية الجميل أو في منزله في العاصمة الفرنسية. ولو شاء لكانت مداخل الحياة السياسية مفتوحة أمامه على مصراعيها، خصوصاً أنه كان صديقاً للرئيس الحريري والاتصالات شبه يومية بينهما، وفاقمت خسارة الحريري اغتيالاً أحزان زاهي . وفي آخر انتخابات نيابية انصبت عليه مطالبات من رئيس “اللقاء الديموقراطي” وليد جنبلاط وقادة آخرين في “قوى 14 آذار/مارس” للترشح في الشوف، وهو ابن دير القمر، لكن زاهي رفض منصباً مضموناً سبق أن ترشح له شقيقه المحامي ناجي مراراً وأخفق. واقترح بدلاً منه جورج عدوان، فأصبح نائبًا، ومن ثم نائبًا لرئيس الهيئة التنفيذية لحزب “القوات اللبنانية” جعجع. لاحقاً تلقى عروضاً ومطالبات ملحاحة ليتولى منصباً وزارياً في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة . بقي على تمنعه فتوزّر جو سركيس. 

ظل زاهي البستاني صديقاً ومرجعاً لجميع رفاق صديقه بشير الجميّل وخلفائه وفوق خلافاتهم. وأثر فيه بشدة حادث وفاة ابنته زينة ذات ال14 عاماً بانهيار جدار مدرستها “الليسيه” الفرنسية عليها، فأحاط نفسه بصورها ما تبقى من عمره، نحو عشر سنوات. عندما علم  سمير جعجع في سجنه بالحادث أرسل إليه كتاباً بالإنكليزية عنوانه “لماذا تحصل الأمور السيئة للناس الطيبين؟”. في تلك الحقبة لم يكن زاهي ليبخل على زوجة جعجع السيدة ستريدا بنصائحه النزيهة خلال توليها عملياً قيادة “القوات”، ولا على الرفاق الذين اختلفت معهم على تنوعهم وأسباب الخلافات المتمادية. وكان زاهي بين القلة من رفاق جعجع الذين تلقوا دعوة للقائه لدى خروجه من سجنه في مطار بيروت ، واجتمعا على الأرجح في باريس التي توجه إليها على الأثر رئيس حزب “القوات”. و”الحكيم” هو الوحيد الذي التقى زاهي في أيامه الأخيرة في المستشفى خارج حلقة عائلة البستاني الضيقة وأطبائه.

وكان كنز معلومات لا تنضب عن كل ما حصل في لبنان وحوله من حوادث وتطورات وسير أشخاص من سبعينات القرن الماضي، حريصاً على ألا يكتب شيئاً عنها، وإذا ما أعطى صحافياً قريباً منه أو إعلامياً صديقاً معلومة، أو وجهة نظر كان يحرص على ألا تُنشر. وطوال ابتعاده عن الأمن العام وعالم المعلومات، ظل متابعاً مطلعاً على ما يحصل في الجهاز والبلاد. كان يقول إن المرء تكفيه المعلومات التي تنشرها الصحف، ليطلع على ثمانين في المئة من الحقائق إذا أحسن الربط بينها وتحليلها.

زاهي البستاني بين بشير والدولة

لم يكتب شيئاً ولم يسمح بنشر شيء نقلاً عنه، إلا مرة على جلسات مع الزميل نقولا ناصيف حينما كان يضع كتابه  «المكتب الثاني، حاكم في الظل» (دار «مختارات»)، في ما عدا ذلك تتوجب العودة إلى ما كتب عنه استناداً إلى عارفيه من دون أن يبدي تصويباً أو توضيحاً واعتباره صحيحاً.

يروي نقولا ناصيف في كتابه عن الحقبة التي التقى فيها بشير الجميّل وزاهي البستاني الآتي: “عام 1974 تعرّف بشير الجميّل، المحامي المتدرج في مكتب ألبير لحّام، إلى زاهي البستاني الذي كان يشغل منصب رئيس شعبة في دائرة الاستقصاءات في الأمن العام أثناء مراجعته في مشكلة كانت تخص مكتب المحاماة. ومع انهيار الجيش اثر انقلاب العميد أول عزيز الأحدب في 11 آذار 1976، توجّه رئيس الجمهورية سليمان فرنجية إلى الكفور وأقام فيها، فقرّر المدير العام للأمن العام العقيد أنطوان الدحداح ملازمته وعَهَدَ إلى البستاني إدارة المديرية، وكان الأخير أصبح رئيساً لدائرة الاستقصاءات. في 17 آذار شنّت المنظمات الفلسطينية وأحزاب “الحركة الوطنية” هجوماً على المتن الأعلى في محاولة لاقتحام المناطق المسيحية في المتن وكسروان ومن الوسط التجاري في بيروت. يومذاك، تحت وطأة ميزان قوى عسكري غير متكافئ هدّد الجبهات المسيحية بسقوط جدّي، استقبل البستاني صديقين كتائبيين هما جورج كرم وإيلي البستاني نقلا رغبة بشير في الاجتماع به في مكتبه في مقرّ حزب الكتائب في الأشرفية، والتقيا في الثانية بعد منتصف ليل اليوم نفسه. كان فحوى الحوار بينهما: ماذا يمكن أن يفعلا لمنع انهيار المناطق المسيحية؟ إذذاك قرّرا التعاون: بشير يملك السلاح والرجال، والبستاني المعلومات والخبرة. ووجد كلّ منهما في الآخر ما كان ينقصه في خوض «حرب السنتين».

وجد البستاني في بشير شريكًا فاعلاً على الأرض، في وقت بات الأمن العام من دون نفوذ على الأرض. بدا الرجلان قادرين على تعاون تتقاطع عنده مصلحتاهما وهدفهما المشترك: الدفاع عن المناطق المسيحية بوسيلة جديدة للمواجهة. في الشهور التالية اجتمعا مراراً وتبادلا الأفكار موطدين صداقة عميقة وحميمة وطويلة قادت البستاني إلى أن يصير المستشار الأول والأقرب لقائد «القوّات»، والعارف وحده من دون سائر فريق العمل بأسراره كلّها. آتيًا من خارج حزب الكتائب وبعيدًا من أيّ انتماء حزبي أو عقائدي، حمل اسماً مستعاراً في فريق العمل هو «أنور». وخلافًا لجوزف أبو خليل وأنطوان نجم وجان ناضر الذين شدّهم ولاء غير منازع إلى بيار الجميّل أو الحزب، ولكريم بقرادوني الموزع الولاء بين بيار الجميّل والياس سركيس، سلّم البستاني بولاء مطلق لبشير، فأضحيا لا يفترقان.

تدريجًا أخذ البستاني، منذ صيف 1976، يطلع بشير الجميّل على ما لديه من معلومات وتحليلات استقاها من جهازه، ويطلع منه على أحوال الجبهات والاتصالات التي كان يجريها مع كميل شمعون وبيار الجميّل. وبناء على رغبته طلب منه إبقاء معلوماته سرًّا. وفي تشرين الثاني ، مع انتهاء «حرب السنتين»، عُيّن البستاني في منصب مستحدث في الأمن العام هو رئاسة الغرفة الخاصة التي كانت بمثابة مكتب أركان للمدير العام بصلاحيات متشعبة.

وبعد تعيين فاروق أبي اللمع مديراً عاماً للأمن العام في 11 نيسان 1977 خلفًا لأنطوان الدحداح، أبقى البستاني في رئاسة الغرفة الخاصة. وفي غضون ذلك تطوّرت علاقة البستاني ببشير بعيدًا من الأضواء، وكانا يلتقيان سرًّا في مرحلة شهدت نفورًا بين السلطة اللبنانية وقائد «القوّات». في آب 1977 اكتشف عبده العلاقة الوطيدة بين الرجلين، ولكن بلا تفاصيل دقيقة. في أيلول 1977، حصل على معلومات إضافية فأعلم رئيس الجمهورية، واتصل بأبي اللمع وطلب منه ملاقاته في قصر بعبدا للاجتماع بالرئيس. قبيل دخولهما إلى مكتب سركيس طلب عبده من أبي اللمع إبعاد البستاني عن الأمن العام وإرساله في دورة تدريبية أمنية إلى الخارج لسنة. تحفّظ أبي اللمع، فعقّب عبده: «حسنًا سيطلب منك الرئيس ذلك الآن».

فاتح رئيس الجمهورية أبي اللمع في الموضوع نفسه بعدما تحدّث عن تعاون ضابط كبير في الأمن العام سرًّا مع قائد ميليشيا مناوئة للسلطة الشرعية، وطلب منه إبعاده عن لبنان بعض الوقت. اقترح أبي اللمع إصدار تشكيلات تنتدب البستاني في دورة أمنية إلى بريطانيا لسنة على نفقة الأمن العام، على أنّ اقتراحه لم يقترن بالتنفيذ.

في 22 تشرين الثاني1977 التقط عبده عبر تنصّت أجرته مديرية الاستخبارات على هاتف منزل البستاني في الأشرفية مكالمات بينه وبين بشير الذي كان يزور واشنطن آنذاك. في إحدى المكالمات حض البستاني قائد «القوّات» على تعزيز اتصالاته بمسؤولين أميركيين وشخصيات نافذة لدى الإدارة الأميركية وتأكيد عدم ثقته بالسلطة اللبنانية وبمقدرتها على إعادة بناء الدولة وطلب دعماً الجبهة اللبنانية. بعد ساعات نقل عبده تسجيل المكالمة الهاتفية إلى أبي اللمع الذي استعجل عندئذ سفر البستاني إلى بريطانيا. لم تكن ثمّة دورة أمنية في لندن بل إبعاد له إلى باريس بموافقة المدير العام، مع أنّه كان قد تقدّم إليه باستقالة من الأمن العام جمّدها أبي اللمع.

بعد 14 شهرًا فاجأ عبده أبي اللمع بالطلب إليه إنهاء إبعاد البستاني واستدعاءه إلى بيروت على عجل. ثمّ سمع الطلب نفسه من سركيس في قـصر بعبدا. ولمّا سألهما عن السب أجابه عبده: «ظروف شخصية... تغيّـرت الأيـام». لم يستفسر أبي اللمع أكثر، لكنّه استعـاد عبارة قـالها له البستاني قبيل مغادرته إلى باريس: «السبب الذي دفعهم إلى مطالبتك بإبعادي سيجعلهم يطالبونك بعودتي».

وفي لقائهما الأول الذي خلا من جدول أعمال تبادلا المفاجأة: عرف البستاني من رئيس الاستخبارات العسكرية أنّه كان ينوي اغتياله، فيما وجد الأخير نفسه أمام ضابط كبير في الأمن العام يفاوض عن ميليشيا هي خصم للسلطة ومتمرّدة عليها (...) ومنذ الاجتماع الأول تصرّف أحدهما حيال الآخر بود متجاوزاً مشاعر الريبة والحذر، فأتى التفاهم تكريساً لجلسات عمل تمهيدية حدّدت اتجاهات التدرّج نحو الثقة”.

عند انتخاب بشير الجميل رئيساً، علّق كريم بقرادوني على الحدث بقوله: "هذا اطول انقلاب في تاريخ لبنان!". لعل القسم الاكثر اثارة في كتاب الصحافي الفرنسي آلان مينارغ "أسرار حرب لبنان"  هو روايته القصة التفصيلية لذلك "الانقلاب" معززة بالوقائع والوثائق والمحاضر والمذكرات والمقابلات. يقول مينارغ من كتابه: "بدأ بشير الجميل العمل للوصول إلى السلطة في لبنان بمساعدة مجموعة تحوط به من القادة والمستشارين، كانت تجتمع سرا وبأسماء مستعارة في دير سيدة البير الواقع على مرتفعات بلدة الزوق، وكان يقود هذا المجلس شارل مالك أستاذ الفلسفة ووزير الخارجية اللبناني السابق وأحد المشاركين في صياغة ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، وكان يشكل مرجعية الجميّل في الشؤون الدولية، وزاهي البستاني المفوض العام في الأمن اللبناني، الذي أشرف على بناء الجهاز الاستخباري لميليشيات الكتائب، وسليم الجاهل، رئيس محكمة التمييز في بيروت، وأنطوان نجم، منظر أيديولوجي، وجوزف أبو خليل، وجان ناضر، وجورج فريحة الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، ومجموعة من القادة العسكريين مثل ميشال عون (كان اسمه الحركي "غبرييل")، وسمير جعجع، وإيلي حبيقة، وفادي أفرام، وفؤاد أبو ناضر، وبطرس خوند. وكان بعض أعضاء اللجنة يمضون أسابيع متواصلة يقيمون في عزلة تامة في الدير يعدون الدراسات والتقارير والأفكار، ثم عقدت اللجنة اجتماعها الرئيس في 27 أيلول(سبتمبر) 1980 لمناقشة التقارير والدراسات المعدة بخط اليد وبنسخة واحدة تلافيا للتسريب".

أضاف في مكان آخر: «من جهة اخرى وضع انطوان نجم وميشال عون اول مشروع للانقلاب العسكري بتكليف من بشير (27 ايلول 1980 الملحق الرقم 1، ص501-505). تُعيّن الخطة ساعة الصفر على انها زمن حصول فراغ في الرئاسة الاولى بسبب انتهاء العهد او الاستقالة او الوفاة او أي سبب مفاجئ آخر. ويتصوّر واضعا الخطة احتمالات عدة لتسلّم السلطة. الشرعي منها يقوم به الجيش قبل حصول فراغ في السلطة فيتولى شلّ كافة مراكز القرار السياسية والعسكرية ما يجعلها غير قادرة على العمل ضد القوات اللبنانية. وفي حال تعذّر ذلك، يعمل الطرفان على ايصال سياسي صديق الى الرئاسة الاولى يتعهد خطياً تنفيذ مشيئة ذلك الفريق من الجيش و القوات اللبنانية".

 زاهي البستاني  بقي فخوراً دون اعتداد بنضاله مع بشير وبأن تاريخه خلا مما يشين. عن أدواره في تلك الحقبة أورد  مينارغ الكثير في كتابه، نقرأ في الصفحتين 83/88 من:  "أعطى بشير الجميّل الضوء الأخضر لاتصال مباشر، فكان ان زار زاهي البستاني وليد جنبلاط وتناول الغداء إلى مائدته في المختارة. دارت المناقشة بين البستاني وجنبلاط طيلة اربع ساعات حول موضوع المحور المسيحي- الدرزي، بدا في هذا اللقاء ان الزعيم الدرزي كان متقبلاً لهذه الفكرة. وتوافقا على ضرورة إحاطة هذه المفاوضات بسرية قصوى. "علينا ان نعد وثيقة تحضيرية للمحادثات بين بشير ووليد جنبلاط ... وليد يعترض على كل امكان لمشاركة (رئيس حزب الكتائب حالياً) كريم بقرادوني فيها، كما يجب ايضاً عدم اعلامه بحصول مثل هذه المناقشات". ورغم كل الاحتياطات علم السوريون بحصولها، وفور عودة جنبلاط استدعاه الرئيس حافظ الأسد الى دمشق، وبعدما انتظر ساعات دخل قاعة الاستقبال الكبرى. بعد هذا وببعض التعابير الناشفة رفض حافظ الأسد كل فكرة تقارب مسيحي- درزي بين جنبلاط و"القوات اللبنانية". ونظر الى وليد جنبلاط متأملاً وقائلاً له: "يا للعجب كم انت تشبه والدك، اراه جالساً مثلك وفي المقعد الذي تشغله، كان هذا قبل اربعة ايام قبل وفاته، لماذا لم يصغ الى نصائحي، يا لشؤم ما حصل!" ومنذ ذلك الحين لم يعد وليد جنبلاط يريد ان يسمع أي كلام على تحالف مع المسيحيين".

لكن هذا كله القليل القليل مما كان يحفظه وما عايشه زاهي البستاني الذي يمكن تسميته بحق "خزانة أسرار للبنان" مضت إلى العالم الآخر، بعيداً عن الأنظار، ليبقى الرجل قريباً من الكثر الذين عرفوه فأحبوه.

 

يزهو به الموت

الكاتب فيفيان ص. داغر

كأنه جزء من ذاكرتك، من ماضيك، ينهار، فتدفنه مع العزيز زاهي.

كأنها مرحلة من أيام حلوة، على رغم مرّها ونارها، تُطْوَى تحت غطاء المحمل الثقيل.

كأنه الوجه الراقي، المهذب، الحذر، والاهم كأنه الوجه المفكر والذكي والعارف، من مسيرة نضال ومقاومة، يوارى الثرى مع زاهي...

من غير أن يزعج أحدا، أزاح زاهي بستاني كما طالما فعل في نهاية الاجتماعات الطويلة، كرسيه وخرج بخطى ثابتة... لم يشأ أن يعرف أحد بمرضه. حمله كتلك المهمات السرية التي كان يحملها ويخفيها بين أضلعه وحده! ولا يحكي عنها لا قبل ولا بعد...

هيام، زوجته، حملت الوجع الى جانبه، هي الحاملة صليب فراق وحيدتها زينة، تماما مثل هذا الأسبوع، في 27 تشرين الأول من العام 1995. تبكي وتبكي. صعبة خسارة زاهي على رفاق المسيرة، فكيف على رفيقة الحياة؟! زاهي الشاب ابنها، يمسك بيدها اليوم، تلك اليد التي لم تفارق زاهي الأب في أيام نزعه الأخير على فراش مستشفى أوتيل ديو.

"حتى آخر يوم، حتى البارحة، كان يصرّ عليّ بان اقرأ له صفحات المسيرة بصوت عال!" كنا نرسلها إليه الى باريس، ومتى زار لبنان نزوره ونستمع إليه، يرفع كفيه الكبيرتين علامة عدم الرضى عن مسار بعض الأمور في المنطقة، في البلد، وفي القوات...

"أنتما، كنتما تحملان الضمير ذاته. جمعكما الضمير الواحد"، يقول شقيقه الوزير السابق ناجي البستاني وهو يقبل أنطوان نجم في مراسم التشييع.

النائب صولانج بشير الجميل، تجلس في الصالون الفسيح، تدخن، فتبلع الدمعة "أحاول ألا أحكي لكي لا انفجر بالبكاء"! وداع زاهي، وداع ثان لبشير... وداع لمسيرة مقاومة وصمود بهية، عظمى، شامخة مثلهما.

تشرين سيبقى كما أيلول من قبله، جرحا نازفا في بيت البستاني، وخريفا خطفت ريحه ذهبا عتيقا نادرا، وموتًا يزهو بضيفٍ لا يموت.

زاهي، الرسل من أمثالك نادرون نادرون نفتقدك اليوم فكيف غدا...