هذا ما جرى في عين الرمانة الأحد 13 نيسان 1975

نبيل يوسف

 

 إعتباراً من ظهر الأحد 13 نيسان 1975 راح الناس يتناقلون معلومات مصدرها عين الرمانة في ضاحية بيروت الشرقية. بعضها يقول أن رئيس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميل تعرض لمحاولة إغتيال هناك وإستشهد مرافقه، وأخرى تقول أن مقاتلين فلسطينيين خرجوا من مخيم تل الزعتر وحاولوا إقتحام عين الرمانة. وفي بيروت الغربية سرت إشاعات أن مقاتلي حزبي الكتائب والأحرار إرتكبوا مجزرة بحق العشرات من المدنيين الفلسطينيين.

 

سرعان ما رافق هذه الاشاعات إطلاق زخات كثيفة من الرصاص وتفجير أصابع الديناميت في العديد من شوارع بيروت وضواحيها.

فقد الناس عقولهم، فعندما تبدأ أصوات الرصاص والديناميت والقنابل والصواريخ تملأ الأسماع، وتستفز الناس لحمل السلاح، لا يستطيع أحد أن يسمع صوت العقل.

ولكن ماذا حدث تحديداً في عين الرمانة قبل ظهر ذلك الأحد؟

 

1- كان مقرراً أن يبدأ عند الساعة الحادية عشر من قبل الظهر إحتفال تدشين كنيسة سيدة الخلاص للروم الكاثوليك في شارع مار مارون المتفرع من شارع بيار الجميل، بحضور رئيس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميل.

 

2- طلبت قوة للمحافظة على السير، فحضر عناصر من مفرزة السيّار المحلية.

 

3- في الوقت ذاته كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحتفل بمهرجان تأبيني لشهداء الثورة الفلسطينية أقيم في مخيم صبرا ، اشتركت فيه جميع الفصائل الفلسطينية.

 

4- نحو الساعة العاشرة تقريباً، وصلت إلى عين الرمانة سيارة فولكسفاغن يقودها لبناني إسمه منتصر احمد ناصر، كانت لوحتها مكشوفة ومعروفة بأنها تابعة للكفاح المسلّح الفلسطيني.

 

5- حاول رجال السير منعه من التقدم إلى حيث يقام الاحتفال فتجاوزهم، ليصطدم بشباب الكتائب الذين حاولوا أيضاً منعه من المرور، لكنه لم يذعن وأكمل طريقه بسرعة، فأطلقت عليه النار، فتوقف ونزل من سيارته بسرعة، وإذ به يسقط على الأرض ويجرح في كفه.

 

6- نقل الجريح إلى مستشفى القدس الذي تشرف عليه المقاومة الفلسطينية. وبحسب تقرير قوى الأمن الداخلي إختفى من المستشفى صباح اليوم التالي.

 

7- بعد ثلثي الساعة تقريباً أي قبل بدء الاحتفال بنحو ربع ساعة، وصلت إلى مكان الاحتفال سيارة فيات حمراء غطيت لوحتها الأمامية بأوراق تحمل شعارات فلسطينية، فيما نزعت اللوحة الخلفية. وداخلها أربعة مسلحين، فتجاوزت حاجز الدرك الذي أقيم إثر عملية إطلاق النار السابقة، وأخذ من فيها يطلق النار عشوائياً على الناس المتجمعين عند مدخل الكنيسة فسقط شهيداً كل من: جوزف كميل أبو عاصي مرافق الشيخ بيار الجميل وكتائبي آخر هو أنطوان ميشال الحسيني وديب يوسف عساف وإبراهيم حنا أبو خاطر. وأصيب سبعة أشخاص. تجدر الإشارة إلى أن الطفل بشير جوزف أبي عاصي كان سيتقبل بعد الظهر سر العماد المقدس

 

8- ردّ أبناء المحلة ومن بينهم عناصر من حزبي الكتائب والأحرار بالرصاص على السيارة عندما حاولت الهرب، فقتل فدائي وأصيب اثنان نقلتهما قوى الدرك إلى مستشفى القدس، بينما نقل الجرحى من أبناء عين الرمانة إلى مستشفى الحياة.

 

9- فور وقوع الحادث شاع الخبر بأن مسلّحين فلسطينيين إستهدفوا الشيخ بيار الجميل في محاولة لإغتياله ومن ثم إنتشر المسلحون، الذين كانوا موجودين بكثافة في المنطقة، في الشوارع المحيطة.

 

10- في هذا الجو المشحون والمتوتر جداً وبعد أقل من ساعة على مقتل الواقفين أمام الكنيسة، وفيما الأهالي ما زالوا مذهولين مما جرى ويحاولون لملمة آثار ما حدث، والرجال يقفون على أعصابهم المشدودة، إقتحمت فجأة الشارع الخالي حافلةٌ مزدحمة بالمسلّحين الفلسطينيين كانوا متوجهين إلى مخيم تل الزعتر، وبنادقهم وثيابهم المرقطة وأعلامهم ظاهرة من نوافذ الأوتوبيس، وهم ينشدون الأناشيد الحماسية. فاعتقد الأهالي أن هجوماً مفاجئاً تتعرض له عين الرمانة.

 

11- لحظات وإنهال الرصاص على الحافلة، الأمر الذي أدّى إلى مقتل 27 راكباً ونجا السائق واثنان من رجال المقاومة بأعجوبة بعد أن غطتهم الجثث.

 

12- على أثر حادث الأوتوبيس أقيمت حواجز في عين الرمانة وفرن الشباك، وأشعلت دواليب كاوتشوك لقطع الطرق، وانتشر المسلحون في الشوارع.

 

13- خلال ساعات معدودة، امتلأت المناطق المسيحية بالإشاعات، تدب الصوت قائلة: أن الشيخ بيار الجميل تعرض للإغتيال على أيدي الفلسطينيين، واثنين من مرافقيه قتلا. بينما راحت الاشاعات تنتشر في المناطق الإسلامية تقول أن الكتائب هاجمت مخيم تل الزعتر.

 

14- من عين الرمانة توجه الشيخ بيار الجميل إلى البيت المركزي في الصيفي، حيث تلقى إتصالاً من رئيس الحكومة رشيد الصلح الموجود في مبنى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي يتمنى عليه الحضور إلى المقر مع وزيري الكتائب لويس أبو شرف وجورج سعاده للتداول فيما حصل.

 

16- بعد وصوله إلى البيت المركزي أدلى الشيخ بيار الجميل بأول تصريح أعلن فيه أننا نلاحظ منذ شهرين أن هناك أيادي مجرمة قد لا تكون فلسطينية تعمل على إشعال الفتنة في لبنان. معدداً الحوادث التي حصلت قبل أيام قليلة من محاولة خطف الشيخ أمين الجميل إلى نسف خمسة مراكز للحزب في مناطق مختلفة إلى إطلاق النار على شبان من سيارة مرسيدس مسرعة وإصابة أحدهم بجروح في عنقه. وختم تصريحه مؤكداً أن العقلاء الفلسطينيين لا يريدون ذلك ولا يقدمون على مثل هذه الأعمال. ولم يستبعد أن تكون اسرائيل هي التي تحاول إشعال الفتنة لضرب لبنان.

 

17- بهدف السعي لتطويق ما يجري غادر الشيخ بيار الجميل البيت المركزي يرافقه وزيرا حزب الكتائب ورئيس إقليم عاليه الكتائبي طانيوس سابا.

 

18- في مقر قيادة قوى الأمن الداخلي كان رئيس الحكومة والوزراء: ميشال ساسين، فيليب تقلا، نديم نعيم، محمود عمار، عباس خلف، زكي مزبودي، سورين خان أميريان، إضافة إلى مدعي عام التمييز والمدعي العام العسكري ومدير عام الأمن العام والمدير العام لقوى الأمن الداخلي وعدد من ضباط الجيش وقوى الأمن والمحققين.

 

19- خلال الإجتماع وصلت أخبار عن تدهور الوضع في منطقة فرن الشباك فغادر الشيخ بيار الجميل إلى هناك يرافقه ممثل حزب الأحرار الوزير ميشال ساسين والسيد طانيوس سابا وكانت الساعة تشير إلى نحو الخامسة والنصف من بعد الظهر. فيما استمر باقي الوزراء في اجتماعهم.

 

20- خلال المداولات راح عدد من المسؤولين الأمنيين يضعون المجتمعين في الأجواء الحقيقية للحادثة، كلٌّ بحسب المعلومات التي وصلته والتي كانت متناقضة في غالبيتها، وكان يستدل من البحث الجاري أن الهم الأوحد خاصة لدى رئيس الحكومة البحث عن مخرج للأزمة وافتداء ما حصل بضحية دون البحث عن الأسباب الحقيقية للحادثة في حد ذاتها.

 

21- حاول وزيرا الكتائب الدخول إلى عمق ما جرى، فسألا المسؤولين الأمنيين صراحة لماذا اتخذت عين الرمانة طريقاً للاوتوبيس وبالشكل الاستفزازي المعروف؟ مع أن مديرية الأمن الداخلي كانت تلقت برقيات من المسؤولين عن الأمن وقبل حصول الحادثة تحذر من كارثة قد تحصل بعد ما رافق مرور سيارة الفيات. لكن أسئلة الوزيرين بقيت من دون أجوبة.

 

22- خلال الاجتماع قال المحقق العسكري: "مع علمي بأن الكتائب ليست هي البادئة بالعملية فأنا أطلب إلى ممثلي الكتائب التعاون لتظهير صورة ما جرى". فيما طلب الرئيس الصلح من وزيري الكتائب تسليمه "كم شخص" متعهداً بتسلم العناصر التي أطلقت الرصاص من سيارة الفيات. فأكد الوزيران سعاده وأبو شرف أن لا معلومات لدى الحزب عن الذين شاركوا في أحداث عين الرمانة معلنين التزام الحزب تسليم أي كتائبي تثبت علاقته بالموضوع. فطلب رئيس الحكومة من المدير العام لقوى الامن الداخلي تحضير لائحة ببعض الأسماء "كيفما كان" استعمالاً للاخراج التمويهي الذي خطط له منذ البدء وقال بوضوح أن المقصود تقديم بعض الأشخاص للتهدئة.

 

23- غاب المدير العام لقوى الأمن وعاد قرابة منتصف الليل ومعه لائحة بسبعة أسماء، فطلب الرئيس الصلح قطع مذكرات توقيف بحقهم، فاعترض وزيرا الكتائب وسأل الدكتور جورج سعاده عن الأدلة بحق هؤلاء الأشخاص، وإن كانوا فعلاً على علاقة بما جرى في عين الرمانة، فصمت المدير العام لقوى الأمن الداخلي قليلاً ثم قال: "لا لكن هذه الأسماء موجودة في الأرشيف لأشخاص من عين الرمانة، ولا دليل عليهم والأسماء أخذت من الملفات وهي لبعض القبضايات".

 

24-  في هذا الوقت عاد الوزير ميشال ساسين ليبلغ الحاضرين أنه تمت تهدئة الحالة في منطقة فرن الشباك وتم وضع الرئيس شمعون الموجود في السعديات بالأجواء. وكان رئيس الأحرار يشارك يومها في جناز أقيم في دير القمر للدركي ناصيف بويز الذي كان قتل أواخر شهر آذار في الشياح، وفور تبلغه ما جرى في عين الرمانة انتقل إلى السعديات وأجرى سلسلة اتصالات لاحتواء الأزمة. وبحسب عماد يونس في كتابه "سلسلة الوثايق الأساسية للأزمة اللبنانية" الجزء الثالث صفحة 82 فقد اتصل الرئيس شمعون بآمر فصيلة درك عاليه الذي يتسلم قيادة سرية بعبدا بالوكالة بسبب غياب قائد السرية العقيد سليم درويش في مصر في مهمة، وطلب منه العمل على تعزيز قوى الأمن في عين الرمانة لمحاولة احتواء الوضع. وعصراً دخلت إلى عين الرمانة قوة من الدرك تمركزت في شارع بيار الجميل، لكن مساءً اتصل الرئيس الصلح بقيادة الدرك وطلب سحب القوة وأعفى آمر فصيلة عاليه من قيادة سرية بعبدا وعيّن الضابط ميشال خوري قائداً للسرية بالوكالة.

 

25- رفض الأطباء اطلاع الرئيس سليمان فرنجية الذي كان أدخل نهار السبت 12 نيسان إلى الجامعة الأميركية لإجراء عملية إستئصال المرارة، على ما حصل خوفاً من تدهور صحته.

 

26- رغم تحفظهم على طريقة معالجة الوضع، غادر وزيرا الكتائب، يرافقهما وزراء حزب الأحرار: ميشال ساسين ونديم نعيم ومحمود عمار إلى البيت المركزي حاملين الأسماء المطلوبة، وهناك كانت القيادة الكتائبية مستنفرة، وكانت تباشير الفجر بدأت تلوح. فيما بقي الرئيس الصلح في مبنى السيّار مع عدد من الوزراء والقادة الأمنيين الذين بقوا على اتصال دائم مع البيت المركزي.

 

27- قدم الوزير سعاده للمسؤولين في الحزب لائحة بأسماء المطلوبين فتبين أن أحدهم موجود خارج لبنان منذ أكثر من شهر ونصف، وآخر يعالج منذ أسبوع في إحدى المستشفيات، والمضحك أن أحد الأسماء قد تكون لشخص متوفٍ. ومن بين الأسماء السبعة يوجد فقط كتائبيان لم يكونا في عين الرمانة ساعة وقوع الحادث. من هنا وضحت الطريقة التي تعالج بواسطتها الأحداث الضخمة.

 

28- بعد حصوله على هذه المعلومات إتصل الوزير سعاده فجراً برئيس الحكومة وأطلعه على معلومات الكتائب فرجاه الرئيس الصلح تسليم الكتائبيين مع الوعد الجازم بتسليم المسؤولين من الفريق الآخر متعهداً بإطلاقهما خلال أيام معدودة في محاولة لإطفاء المشكل.

 

29- راحت الأخبار تصل تلك الليلة إلى البيت المركزي عن أصوات طلقات تسمع في محيط سيّار الدرك وعدة أحياء في بيروت. كما مرت سيارة أطلق من فيها الرصاص على الواقفين أمام سينما سلوى على كورنيش المزرعة، وتعرضت محلات نعوم أبي راشد في محلة باب ادريس للتفجير. وتعرض بيت الكتائب في حارة حريك لانفجار عبوة بالقرب منه. وراحت أصوات الانفجارات تزداد مع تقدم الوقت، والإشاعات تنتشر بين الناس بسرعة البرق ومعظمها لا أساس له من الصحة.     

 

30- في مقابل ذلك، دعا قادة الأحزاب اليسارية إلى إجتماع عقد السادسة من مساء ذلك الأحد في منزل الزعيم كمال جنبلاط، لكن بسبب إنقطاع الكهرباء إنتقلوا إلى منزل محسن دلول. شارك فيه: كمال جنبلاط وتوفيق سلطان وداود حامد وعبد الله شيا (الحزب التقدمي الأشتراكينقولا الفرزلي ورغيد الصلح (البعث العراقي)، اسامة فاخوري وعزت حرب وعصام نعمان (الهيئات الاسلاميةانعام رعد (رئيس الحزب القومي)، جورج حاوي (أمين عام الحزب الشيوعي)، محمد قانصوه (البعث السوري)، محسن إبراهيم وحكمت السيد (منظمة العمل الشيوعي)، وجان عبيد.

 

31- أصدرت القوى اليسارية المجتمعة بياناً هاجمت فيه حزب الكتائب، وإتهمته بتدبير ما أسمته مجزرة عين الرمانة، وتوصلوا في النتيجة إلى قرار عزل الكتائب، وطالبوا بحلّه.

32- لم تكد تشرق شمس الاثنين 14 نيسان 1975 حتى كانت جميع طرق ضاحية بيروت الجنوبية قطعت، بسبب الإنتشار الكثيف للمسلحين وأحراق الدواليب. وبدأ توسع القتال. وهكذا اندلعت الحرب اللبنانية.

 

هذه كانت تفاصيل ما جرى ذلك الأحد بحسب ما روته الصحف الصادرة يومها والكتب التي أرّخت للحرب اللبنانية، ولكن يبقى ذكر خلفيات وأسرار ما جرى يومها التي انكشف بعضها فيما البعض الاخر ما يزال يلفه الغموض.

 

فما هي أسرار ما جرى يومها؟.

1- في تحليل هادئ للأحداث التي جرت في عين الرمانة ذلك الأحد، تبين لاحقاً أن السلطات الأمنية اللبنانية، تحسباً منها لما قد يحدث ذلك النهار (الإحتفال الفلسطيني وإحتفال عين الرمانة)، كانت وقّعت نهار 2 نيسان اتفاقاً مع ممثلي المنظمات الفلسطينية (تمثلت فتح بأبو حسن سلامة)، منع بموجبه مرور المواكب الفلسطينية في عين الرمانة ذلك النهار.

 

2- لمن يعرف المنطقة فالمتوجه من مخيم صبرا حيث كان الاحتفال الفلسطيني إلى مخيم تل الزعتر حيث كانت متوجهة الحافلة، لم يكن ليمر في عين الرمانة، وتحديداً في هذا الشارع.

 

3- من هنا يصبح السؤال ملحاً، لماذا سلك سائق الحافلة وهو لبناني يعرف طرقات المنطقة جيداً هذه الطريق التي تمر في عين الرمانة؟

 

4- السؤال الأهم لماذا لم تخطره القيادة الفلسطينية بتجنب المرور في أحياء عين الرمانة وهو ما تمّ الاتفاق عليه قبل أيام؟.

 

5- من بين الأجوبة كان جواب سائق الحافلة، الذي أوضح في التحقيق معه أنه سلك هذا الطريق بتوجيه من أحد رجال الشرطة البلدية وذلك حين وصلت الحافلة إلى مفترق شارع غنوم – مارون مارون وشارع سعيد الأسعد.

 

6- من هو هذا الشرطي البلدي وما قصة وجوده في ذلك الموقع؟

 

7- يقول الدكتور فريد الخازن في كتابه تفكك أوصال الدولة اللبنانية في الصفحة 381 أن ذلك الشرطي البلدي لم تعرف هويته إطلاقاً ولا أحد عرف كيف وجد في تلك النقطة وكيف أختفى منها فجأة، كما لو كان شبحاً. وبقي سرّه لغزاً من ألغاز الحرب اللبنانية لا تفسير له.

 

8- حاولت السلطات اللبنانية أن تذهب في التحقيق إلى عمق الأحداث، لا الوقوف عند مظاهرها. فتبين لها أن منتصر أحمد ناصر راكب سيارة الفولكسن فاغن، الذي افتعل المشكل هو من الجنوب من مقاتلي جبهة التحرير العربية المدعومة من العراق، كذلك هم معظم ركاب الأوتوبيس.

 

9- يقول الصحافي نقولا ناصيف في كتابه "المكتب الثاني حاكم في الظل" في الصفحة 497 أنه على أثر شريط الأحداث الذي حصل نهار الأحد 13 نيسان 1975 أظهرت المعلومات المتوفرة للشعبة الثانية في الجيش اللبناني وجود عناصر عملت على تأزيم الوضع كلما مال إلى الهدوء، مدفوعة من جهات غريبة. ففي أثناء الأحداث إعتقل ضابط في الجيش العراقي منتدب للعمل في جبهة التحرير العربية مع ثلاثة أغراب هم أردنيان وفرنسي ينتمون إلى الجبهة المذكورة. ولبنانيان ينتميان إلى الجناح العراقي في حزب البعث كانا يحاولان سرقة سيارات لإستعمالها في التخريب

10- فيما خص سيارة الفيات التي كانت تقل المسلحين الأربعة، التي أطلقت النار على جوزف أبو عاصي ومن معه، فبقيت مجهولة الهوية، لأن الجريح الذي نقل منها إلى مستشفى القدس، اختفت آثاره، ولم يعرف من هو، وبالتالي إلى أي فصيل فلسطيني ينتمي، بل هل ينتمي أصلاً إلى المقاومة؟، وإصطدم التحقيق بجدار تهريب الدليل، الذي قد يكون مفتاحاً لمعرفة منشأ الحادثة.

 

11- من أطلق الرصاص على ركاب الحافلة؟.

 

يقول جوزف أبو خليل في كتابه "قصة الموارنة في الحرب" في الصفحة 20: "لم يكن بين مطلقي النار في عين الرمانة أي كتائبي ملتزم، بل كانوا مجموعة من الأهالي الذين ما أن رأوا الموكب الفلسطيني المسلح حتى هبّ كل ّ إلى سلاحه، وقد ظنوا أنهم يتعرضون لهجومٍ، وراحوا يطلقون النار بشكل لا يعبر عن شجاعة بقدر ما يعبر عن ذعر. ولقد كانوا كلهم تقريباً لا يتبرأون من الكتائب ولا الكتائب تستطيع التبرؤ منهم. وعلى هذا النحو أصبح حزب الكتائب مسؤولاً عن حادث لم يشارك فيه ولا كانت له يد في أي واقعة من وقائعه".

 

12- يبقى السؤال الأهم: ما كان الهدف مما جرى في عين الرمانة يومها؟. هل كان الهدف إغتيال الشيخ بيار الجميل؟، أم إيجاد الشرارة المطلوبة لاندلاع الحرب بعد أن فشلت الشرارة الأولى في صيدا (إغتيال معروف سعد)، وبقيت مؤسسات الدولة لا سيما الجيش اللبناني متماسكة؟.        

بالفعل. نجحت حادثة عين الرمانة بأن تشكل الشرارة المطلوبة، "فها هي قوى الإنعزال والفاشية في لبنان العاملة في خدمة الإمبريالية الأميركية والصهيونية تسعى لمحاولة تصفية الثورة الفلسطينية". هكذا قرأت القيادات الفلسطينية واليسار اللبناني الأحداث.

 

في الختام

ما حدث يومها في عين الرمانة لم يشكل مفاجأة لكل الذين كانوا يتابعون عمليات التعبئة الطائفية، وشحن النفوس بالحقد والإثارة خلال الأسابيع السابقة. لقد كانوا يتوقعون الانفجار، بغض النظر عن حجمه وشكله وأسبابه. فعندما يكون المكان مليئاً بالمواد المشتعلة، يكفي أن تنطلق شرارة ولو من عقب سيجارة لتشتعل النار، وتمتد إلى مختلف الأرجاء.

وبدأت التفجيرات تشعل نار الفتنة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين اللبنانيين وأخوتهم اللبنانيين أيضاً، وبدأ لبنان يحترق والضحايا تتساقط بعشرات الآلاف، في حوادث لم يشهدها تاريخه الحديث في التفنن في الإجرام كالخطف على الهوية والقتل بعد تعذيب الضحية، فضلاً عن السلب والنهب والتدمير والتشريد، فيما خيراته ترحّل إلى البلاد المجاورة، وخيرة شبابه تحزم حقائبها وتتيه في جهات الأرض الأربع تبحث عن وطنٍ يأويها.

 

وكانت الحصيلة مفجعة: مئآت آلافٍ ضحايا، مئات آلاف أخرى هاجروا من دون عودة. آلاف المفقودين والمعتقلين في السجون الغريبة، ومثلهم من الشهداء الأحياء الذين لم يعد لهم غدٍ يحلمون به. إقتصاد مدمّر، خسائر بمليارات الدولارات. قرى وبلدات مدمرة بالكامل. عائلات مفككة، شباب تائه في وطنه يبحث عن منزل وفرص عمل.

بحسب تقرير أوردته صحيفة الحياة في عددها الصادر في 10 آذار 1992 فقد سقط خلال سنوات الحرب اللبنانية 144240 قتيلاً، و197506 جريحاً، و17415 مفقوداً. أما بطرس لبكي وخليل أبو رجيلي فأوردا في كتابهما "جردة حساب الحروب من أجل الآخرين على أرض لبنان" الصادر عام 2005 في الصفحة 151 أن الحرب منذ عام 1975 ولغاية آخر عام 1990 أوقعت 71521 قتيلاً و97627 جريحاً و9627 معاقاً و19860 مفقوداً، وهاجر من لبنان بين العامين المذكورين 894711 شخصاً معظمهم من فئة الشباب  

يبقى تحقيق صحفي عما جرى ذلك الأحد من المهم ذكره:

 

نشرت مجلة مجلة النهار العربي والدولي في عددها رقم 363 الصادر في 16 نيسان 1984 تحقيقاً عن حادثة عين الرمانة جاء فيه أن ليل 13 نيسان 1975 باشرت مجموعات فلسطينية من مخيم تل الزعتر بمحاولة اقتحام عين الرمانة، فتصدى لها الأهالي. وبعد ساعات من التراشق بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة تراجعت تلك المجموعات إلى داخل مخيمها تاركة في أرض المعركة عدة جثث لمقاتليها. ويضيف التحقيق أنه وجدت في ثياب أحد القتلى خريطة لعين الرمانة مع أمر عمليات باقتحامها من ثلاثة محاور: الأول من كنيسة مار مخايل - قصر الطيار، الثاني من شارع أسعد الأسعد باتجاه مارون مارون، الثالث من مشاتل شمص نحو الطيونة. وفي التحقيق أنه بعد سنوات على حادثة البوسطة حصلت مراجع لبنانية عليا على تقرير سري رفعه مساء 13 نيسان 1975 رئيس محطة الاستخبارات الاميركية في بيروت إلى قيادته يشير فيه إلى أن سقوط الحكم في لبنان سيتم في اليوم الثامن بعد 13 نيسان 1975 على أبعد تقدير، واعتبر المسؤول الأميركي أن الحصار المضروب على عين الرمانة وفرن الشباك وسن الفيل سيؤدي إلى سقوطها في أيدي المنظمات الفلسطينية وبالتالي سقوط العاصمة بيروت في يد المقاومة الفلسطينية وسقوط الحكم اللبناني. ويختم التحقيق: "بعد مدة قصيرة تم نقل المسؤول الأميركي من بيروت".

 

وبعد ثلاثة عقود على إنطلاق الحرب اللبنانية، التي كانت عين الرمانة شرارتها الرسمية، وصل هذا الوطن المصلوب إلى الإنتفاضة، وكان 14 آذار 2005 ذروة إنتفاضة جماهير ثورة الارز، الذين وقفوا بالملايين يهتفون لحرية وسيادة وإستقلال وطنهم، فأدهشوا العالم، وبدأت رحلة الإستقلال الثاني المجبولة بالدم وبنضال سنوات الاحتلال والقهر والعذاب.