ماذا بقي من الديموقراطية في لبنان؟

بقلم/شارل شرتوني*

(هيراقليطس: "على الشعب أن يناضل من أجل قوانينه كما يفعل من أجل حماية أسواره")

 

تنبئ المتابعة لشؤون الانتخابات النيابية عن مفارقات ذات دلالات خطيرة حول ما آلت اليه المؤسسات الديموقراطية في بلادنا. تنعقد هذه المفارقات حول مبادئ وآليات ديموقراطية أساسية، تحوّلت بفعل الممارسات إلى مبادئ إسمية وآليات صورية تتوسلها مراكز النفوذ القائمة إطاراً لتخريج سياساتها وصيانة مصالحها. لا بدّ من تظهير هذه المفارقات وإبانة مفاعيلها النافية لروح وواقع المؤسسات الديموقراطية.

 

علينا البدء باستعادة العمل التحضيري الذي مهدّ لاجراء الانتخابات الحاضرة واستعراض المتغيّرات التي حكمت الآداء في هذا المجال:

المناخ السياسي: لقد انطلق العمل من مناخات المصالحة التي تأتّت عن اتفاق الدوحة الذي أدّى إلى احتواء مناخات الحرب الأهلية المتجددة في السابع من أيار 2008، وإلى إنهاء واقع المقاطعة والمرابطة والممانعة التي حكمت العمل السياسي والحكومي في البلاد على مدى سنة ونيّف؛ هذا حتى لا نعود إلى الاصطفافات النزاعية التي حالت دون استثمار المناخات التغييرية التي أدّت إلى خروج الجيش السوري من لبنان، واستعادة البلاد لديناميكياتها السياسية المستقلّة. لكن لسوء الحظ لا المناخات تبدّلت ولا الايحاءات الانقلابية تراجعت ولا حدّة الاصطفافات السياسية سمحت للعبة المؤسّسية أن تأخذ مداها على نحوٍ يعيد للحيّز الدولاتي كيانه الموضوعي وللآليات الدستورية دورها الضابط للأداء السياسي الفعلي. فمؤسسات الدولة باتت متغيّرات تابعة لدوائر النفوذ التي تشكّلت على قاعدة المحاصصة واقتسام مقدّرات الدولة على نسق ما يعرّفه علم السياسة بالحيازات (Prebends) والمسالب (spoils) التي تتوسلها مراكز القوى مصادر لتمويل ريوعها ومحسوبياتها وتنمية النفوذ المالي والمعنوي لأصحابها.

 

أما الآليات الدستورية فقد فقدت تماسكها إلى حدّ بات من الصعب الكلام عن دستورية العمل المؤسّسي في لبنان. إن أبرز ما يحول أيضاً دون تطبيع الاستحقاق الانتخابي، هو تجدّد مناخات الخوف التي تشيعها وتدفع بها سياسات النفوذ والتي من خلالها تجدّد وكالتها على امن الأوساط الطائفية والسياسية التي تدّعي تمثيلها الحصري. فكلّ إصلاح للنظام الانتخابي يهدّد حصرية تمثيلها يصوّر على انه تهديد لأمن الجماعة ومصالحها وحقوقها. في هذا الادّعاء شيء من الصحة لأن أمن الجماعة كما تفهمه مراكز القوى هذه، لا يقوم من خلال مشروع دولة القانون التي تقضي بتكريس مبدأ السيادة الدولاتية كمبدأ فاصل في مجال الأمن الوطني ومبدأ الحقوق المواطنية الجامعة التي لا تستثني أفراداً او مناطق أو طوائف. يقوم الأمن كما يفهمونه على تثبيت جماعاتهم ضمن معادلات وولاءات تتجاوز السيادة الوطنية، وبلورة حقوقهم على قاعدة نفي حقوق الآخرين وتكريس المحسوبيات وتركيز نظام الحيازات والمسالب. أما محصّلة هذا الاداء وما يتوّلد عنه من استعدادات ومناخات نفسية، فهو حال استنفار دائم ومشاريع حروب أهلية محتملة وتشريع البلاد للنزاعات الاقليمية المفتوحة.

 

الأصول الاجرائية: أكد إقرار قانون الانتخابات الحالي للمرّة الثانية بعد انتهاء زمن الوصاية السورية، أن سياسات النفوذ في الأوساط الاسلامية والدرزية مصمّمة على المضي في السياق القاضي بتثبيت الاقفالات السياسية، التي أودت إلى تطوير سياسة الملحقات في الأوساط السياسية المسيحية – المتوافقة معها في هذا الشأن –، والحؤول دون تظهير التعدّدية السياسية في داخلها، وعلى مستوى حركات المجتمع المدني العابرة للطوائف، ودون ترجمتها على الصعيد التمثيلي. أمّا مواقع النفوذ القائمة في الأوساط المسيحية فلا زالت مستغرقة في سياساتها العمياء، لا تقيم وزناً لأيِّ اعتبار خارجاً عن دائرة مصالحها المتنافرة، الأمر الذي شجع سياسات النفوذ السنّية والشيعية والدرزية والاقليمية على التعاطي معها كملحقات تُوظّف من ضمن ديناميكيات نزاعية متعدّدة المصادر والمسارات، والذي حال دون تقويم المعادلة الميثاقية كمرحلة أساسية في مجال تثبيت التوازن على المستوى الوطني، وكسح الألغام بوجه الاصلاحات الديموقراطية باتجاه دفع المشاركة السياسية على المستويين المدني والمؤسسّاتي.

 

إن التغاضي شبه التّام عن مشروع إصلاح النظام الانتخابي في البلاد الذي تقدّمت به اللجنة التي كُلِّفت رسمياً من أجل وضعه، وعدم إعطائه الحق في المناقشة، ينبئ عن عدم جدّية في التعاطي مع المهمّة أساساً والتعامل معها من قبل الطبقة السياسية كوسيلة صورية لتقطيع الوقت وإلهاء المواطنين وفرض الاملاءات في حينها. في حين أن هذه اللجنة قد تولّت بحكم أعمالها مراجعة عشرات المشاريع المعدّة من قبل كل الفرقاء السياسيين وهيئات المجتمع المدني، والاستماع إلى مطالعات الخبراء والمواطنين الذين قاموا بحكم التزاماتهم المدنية وخبراتهم العلمية بعمل بالغ الأهمية ولا سابق له في تاريخ الجمهورية. لقد سمحت الطبقة السياسية لنفسها تجاوز كل الاعتبارات القانونية والأدبية التي يمليها هذا التكليف، ومسح كل الجهود التي عبّر عنها المجتمع المدني من خلال مشاركته في وضع تصوّرات مشاريع وإجراء ندوات في الجامعات ومراكز الأبحاث والأندية الثقافية، من أجل الخروج بأول قانون انتخابي ديموقراطي يليق بالمرحلة التأسيسية التي خلناها مع بداية أحداث 2005.

إن الاستعادة الآلية لقانون 1960، وذلك دون أية مراجعة نقدية لموجباته وواقعية ترسيماته وأصوله الاجرائية وعدالة مؤدّياته، تُفهم انطلاقاً من اعتبار وحيد يقضي بأن الطبقة السياسية مصمّمة على إعادة إنتاج ذاتها ولا بدّ من تطويع كل المفكرّات لهذه الغاية. إن عدم مراجعة إنتاج الترسيمات الانتخابية القائمة، وتجاهل كلّ الطروحات البديلة التي تقتضي إعادة إجرائها على قاعدة تؤالف بين ضرورات التوافق الميثاقي على الصعيد الطائفي والتعدّدية على مستوى الخيارات السياسية، والتمسّك بالترسيمات الحالية كأفضل سبيل لتثبيت سياسات النفوذ القائمة في الأوساط الاسلامية والدرزية وملحقاتها في الأوساط المسيحية، هي أدّلة واضحة على غياب أيّ توجّه إصلاحي أو ميثاقي.

 

إن تجاهل كل الاقتراحات العائدة لمبدأ الدوائر الفردية على القاعدة الأكثرية، ومبدأ النسبية على قاعدة دوائر أوسع، عائد إلى خوف الأوليغارشيات السياسية القائمة من تبدّد إقفالاتها لمصلحة تمثيل سياسي بديل يُفسح المجال واسعاً لكل الطروحات البديلة والنخب البديلة خارجاً عن منطق الخيارات المقفلة، والكتل الكاسحة، والاصطفافات الرصاصية، ومحاور النفوذ الداخلية والخارجية، والمناخات النزاعية المُطبِقة. هذه الأوليغارشيات القائمة التي تعتمد مبدأ الكتل النيابية الكاسحة مستندة إلى القانون الانتخابي الحاضر وإلى ما سبقه في سنة الـ2005، تسعى ليس فقط إلى تحفيز الانشطارات الطائفية والمذهبية وتعميق التبعيات في داخلها وفي ما بينها، وإقصاء المستقلّين، ودفع واقع الاختلالات التمثيلية كما جرى في التحالف الرباعي، وكما يجري اليوم على مستوى التسويات الاستنسابية بين فريقي 14 و 8 آذار، القائمة على مبدأ إبقاء سياسات النفوذ الاسلامية والدرزية فوق والمسيحيون في القعر وإسقاط الاعتبارات الميثاقية. ولكن القضاء أيضاً على زخم التعدّدية السياسية التي تزخر بها كل الطوائف وكل التيّارات السياسية، والتي لم تجدّ لها منذ الـ2005 حتى اليوم أية ترجمة سياسية على صعيد قانون انتخابي يسمح بتظهيرها.

 

إن هذه التعدّدية السياسية هي السبيل الوحيد لكسر هذه الاصطفافات الحادّة والمصطنعة والموظفّة في خدمة سياسات النفوذ الداخلية والاقليمية من سورية وايرانية وسعودية ومصرية، وما تستدعيه من مداخلات دولية تعيدنا إلى مناخات حرب باردة مفتوحة على فاعلين كثر. إن مناخات الأزمة الدائمة، وخطوط التّماس المستحدثة، باقية ما دامت قوى المجتمع المدني على تنوعّها أسيرة الاملاءات النزاعية التي فرضتها ثنائية 14 و 8 آذار، والتي أضحت فيما يخص الأولى بمنأى عن الدفع التغييري الذي استحثّته الحركات الأهلية التي عرفت بثورة الأرز، والذي رفضت الاعتراف به والتعاطي معه معظم أطراف 8 آذار كمعطى أساسي ينبغي تثميره في مرحلة تأسيسية جديدة. هذه الاستقراءات تعكس مناخات الغالبية المعطّلة في الأوساط المسيحية، وتظهّر مناخات تعدّدية خارجة عن واقع التجانس السياسي والاستقطابات النزاعية التي تسعى إليها الكتل السياسية الحاضرة في الأوساط السنية والشيعية والدرزية.

 

إن التدابير التجميلية التي اعتمدت من أجل تخريج هذا القانون الانتخابي (ضبط الانفاق الانتخابي، تنظيم الاعلام، هيئة الاشراف المستقلّة) قد بقيت عند حدود التمنّيات الفارغة التي تنفيها الوقائع بشكل بيّن. لن تقدر هذه التوصيات الفارغة على حجب المخالفات الدستورية والخروج الصريح عن قواعد الديمقراطية في كل الملفّات التي سوف نستعرضها تباعاً:

 

المال السياسي: إن ما سمّي بالمال السياسي هو أول هرطقة تستوجب الادانة وتستدعي إبطال العملية الانتخابية، لأنها أصبحت وسيلة تستعملها الأوليغارشيات المالية وسياسات النفوذ الداخلية والاقليمية من أجل ايجاد أو تحصين مواقع لها داخل المؤسّسات الدستورية. إن كلَّ تصرّف من خلال المال بحرّية الناخب واستقلالية ضميره وقراره هو مسخ للديموقراطية وتزوير لآلياتها. إن شراء الضمائر من خلال صندوق الاقتراع هو إفراغ صريح للديموقراطية من مضمونها. إن الكلام على ثروات المرشّحين الخاصة أو الكلام عن مصادر تمويلهم الخارجية (سعودية، ايرانية، سورية...) كشروط مؤهِّلة للترشّح هو نقض مباشر لمبدأ المواطنية في حق الترشّح لأي مواطن، مهما كانت إمكاناته او وضعيته الاجتماعية والمهنية. فعندما يصبح الترشحّ الفعلي حكراً على أصحاب الثروات، أو على المنتمين إلى تجمّعات سياسية تسعى إلى اختزال التمثيل السياسي من خلالها، ندخل في مجال نفي الحقوق المواطنية الجامعة والمساواتية ولمبدأ حركية النخب الملازم للديموقراطية.

 

الكتل الانتخابية الكاسحة: إن مبدأ الكتل الانتخابية الكاسحة أو ما عرف بنظام المحادل، ما هو إلا تكريس من خلال القوانين والممارسات الحاضرة، لواقع الاقفالات المفروض على الحياة العامة من قبل أطراف الأوليغارشية السياسية التي تحتضن جمهرة تتراوح بين الأوليغارشية المالية، وأمراء الحرب، والأحزاب الصورية، التي هي بالفعل غطاءات لنفوذ عائلي أو شخصي أو عشائري أو مذهبي؛ والأحزاب التي أصبحت أدوات تستعملها سياسات النفوذ الاقليمية، والأحزاب الدينية التي تنطلق من فكرة العصمة في تصوّرها وادائها، والانتهازيين من كل الأنواع والمشارب. إن الاقفالات المفروضة على حركية النخب السياسية وواقع التعدّد السياسي والليبرالية الفكرية والمسلكية التي يمتاز بها المجتمع المدني، هي من أهم المعوقات التي تعاني منها الحياة الديموقراطية التي تفترض التواصل العضوي بين حركة المجتمع المدني ومبدأ التداول على السلطة الذي تمتاز به الأنظمة الديموقراطية.

 

إن الانقطاع بين المستويين هو المشكلة الأبرز التي تنبغي معالجتها مع وضع نظام انتخابي جديد. إن واقع هذه الاقفالات هو ما حال دون ترجمة الحيوية الديموقراطية التي يمتاز بها المجتمع المدني، والذي يحول دون تطوير مفهوم المشاركة الديموقراطية بحيث يصبح التواصل بين المستويين المدني والسياسي أساساً لمشاركة تتنوع مستوياتها، ولكنها تتكامل على مستوى تركيز السياق الديموقراطي أساساً للحياة العامة بجوانبها المدنية والسياسية والمؤسّساتية.

 

إن التمثيل النيابي هو وكالة مؤقتة مبنية على ثقة يمحضها المواطنون لمواطنين آخرين، على أساس برنامج عام يلتزمون تحقيقه مدة ولايتهم، وبالتالي على النظام الانتخابي أن يؤمّن من خلال أصوله الاجرائية (ترسيم الدوائر ونظام الاقتراع) إمكانية المحاسبة ثواباً أم عقاباً وذلك بتجديد الثقة أم حجبها. وهذا ما لم نستطع الوصول إليه بحكم الاقفالات التي تفرضها النخب السياسية المغلقة. ضف إلى ذلك أن الطبقة السياسية لم تقم فقط بتعطيل السياق الديموقراطي داخل المؤسسّات التشريعية والاجرائية، بل عملت على تقويض استقلالية المجتمع المدني من خلال ربط الحقوق المواطنية (التربية، الصحة، الأمن، البيئة، العمل، الخدمات اللوجستية...) بولاءات سياسية مسخّرة ونظام محسوبيات جعلت من هذه الحقوق قيوداً بدلاً من ان تكون حقوقاً محررّة من كل أشكال التبعية التي تتغذى منها هذه الطبقة السياسية على تنوع انتماءاتها. ضف إلى ذلك أن هؤلاء النواب قد أصابوا مبدأ فصل السلطات بالصميم عندما فرضوا أنفسهم وسطاء ومقاولين وقيّمين على مختلف أجهزة السلطة الاجرائية من إدارات، ومؤسّسات ووزارات يشرفون على تصريف أعمالها وفقاً لأولويات محسوبياتهم وسياسة تنمية نفوذهم المادي والمعنوي ومصالح كتلهم الطائفية. إن سياسات النفوذ في الأوساط الاسلامية والدرزية قد أسقطت كل معايير المساواتية التي تفترضها المواطنية ومبدأ الانماء المتكافئ بين المناطق والطوائف لحساب سياسات ريعية، حوّلت موارد الدولة إلى مصادر لتمويل محسوبياتها وتعميق الاختلالات الانمائية التي استهدفت المسيحيين بشكل مباشر.

 

الهيئة المستقلّة للاشراف على الانتخابات: إن إصرار الطبقة السياسية على إقصاء مبدأ الهيئة المستقلّة للاشراف على قانون الانتخابات واستبدالها بهيئة تابعة لوزارة الداخلية، هو خرق أساسي لحقّ المجتمع المدني في صيانة حقوقه وحرّياته السياسية، وذلك من خلال هيئة مؤلّفة من قضاة وممثلين للجمعيات الأهلية المولجة بصيانة الحقوق والحرّيات العامة وحقوق الانسان وهيئات المراقبة الدولية المولجة بمراقبة ديموقراطية العمليات الانتخابية، وجامعيين وخبراء في شؤون الانتخابات وممثّلين عن القوى المدنية والسياسية،...واستهداف مباشر لحقّ اللبنانيين في استرداد إرثهم الديموقراطي ومؤسّساتهم الديموقراطية وحقوقهم الدستورية والأساسية، من الذين صادروها باسم سياسات النفوذ التي تعلو على مبدأ استرجاع السيادة الوطنية والكيان الدولاتي والحقوق المواطنية والأساسية.

 

الاعلام الانتخابي: يأتي أيضاً تنظيم الاعلام الانتخابي من باب المهاترات التي لا قيمة لها في الواقع. فكلّنا يعرف واقع الاعلام في بلادنا. إن المعايير المهنية والمناقبية والقانونية التي ينبغي ان تضبط أداءه هي مسميّات لا مقابل لها في واقع الممارسات المهنية. إن فقدان معايير الموضوعية والعمل المهني والمداخلات السياسية المحليّة والاقليمية، واستملاك الأوليغارشيات المالية المتنوّعة المشارب لمقدّراته قد أصابت صدقيته. إن واقع الاعلام الحاضر لن يلعب الدور المساعد على تنزيه العملية الانتخابية الديموقراطية، بل سوف يؤدّي إلى تعزيز واقع التضليل والانحدار السلوكي وتراجع المناخات الديموقراطية. إن مجرد متابعة نشرات الأخبار التي تدور بمعظمها حول مواقف وتصريحات واجتماعات هؤلاء "الأقطاب" ينبئ عن أحوال الديموقراطية في البلاد، فالشأن العام يدور حولهم والشأن العام ملكيتهم والحيّز العام فسحتهم والرأي العام حكر عليهم، وأمّا بقية المواطنين فهم بصدد التعليق والمساءلة الخجولين أو التقريظ والتجريح الذي تمليه الولاءات العشائرية والمحسوبيات التي تعلو على كل فكر نقدي وضمير فردي مستقلً ومساءلة ديموقراطية.

 

ضف إلى ذلك البرامج السياسية التي تُتحفنا بها أقنية مختلفة منذ عقدين عند تقديم هؤلاء السياسيين "محلّلين" للسياسات على مختلف موضوعاتها، وهي موضوعة أساساً لابقائهم في دائرة الضوء. وأمّا العديد من مديري هذه البرامج فيقتصر إبداعهم على التنافس في اقتناص مقابلات من هؤلاء "الأقطاب" الذين يُبرزون بحسب درجة أهميتهم، فالأقل أهميّة يُستقبل في الاستديو وأما "الكثيري الأهمية" فيستضافون في منازلهم الفخمة، يظهّرون من خلالها ليس فقط قدراتهم التحليلية بل ثرواتهم وقلّة حشمتهم، إمعاناً في تحقير من يدّعون تمثيلهم من الذين تتآكلهم الأزمات الحياتية مأكلاً وملبساً ومسكناً واستشفاء وتربية وبيئة ملوّثة وخدمات عامة بالغة التردّي. والأسوأ من كل ذلك هو سلوك هؤلاء الاعلاميين القائم على التزلّف والاستزلام والاستعطاء والارتقاء في سُلّم الانتهازية من خلال لعب لعبة المزاملة مع هذه الأوليغارشية السياسية التي كسّرت كل المعايير المناقبية والديموقراطية.

 

البرامج الانتخابية والأداء السياسي: لا بدّ أيضاً من تناول مسألة أساسية في أيّ اداء ديموقراطي وهي طبيعة البرامج السياسية التي يتقدّم بها المرشّحون لنيل ثقة مواطنيهم والتي على أساسها تعطى وكالة التمثيل المؤقّتة والمشروطة. إن أول ما يتراءى لأيّ مراقب مهما كانت خبرته في الشأن اللبناني، هو انعدام هذه البرامج الانتخابية واقتصارها على بعض المسلّمات العامة والكسولة والكثير من الدعوات التحريضية والتعبوية لشحن العصبيات والتمهيد للصدامات والنيل المعنوي من المنافسين أو التقارب منهم. هذا التوصيف إن دلّ على شيء فهو على أن طالب الوكالة ليس بصدد إجراء عقد مع موكّليه، فهم من وجهة نظره أزلام وأتباع ومحاسيب ودونهم قدر ليتفضّل ويتعامل معهم على أساس مفهوم التعاقد مع ما يمليه من مساواة واحترام متبادل ووقوف عند حقوق وآراء ومصالح من هم وراء توكيله. لم نر حتى اليوم برنامجاً انتخابياً مبلوراً يقوم على وضع تشخيص وحلول عملية لمشاكل عامة – تتراوح بين الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية والصحية والتجهيزية -، يُطرح كمقدّمة لأيّ ترشّح وكبطاقة دخول إلى فسحة النقاش الديموقراطي (Forum democratique)، كما علّمتنا إيّاه أثينا أمّ الديموقراطيات في الأغورا (Agora) حيث كان يجري التداول الحرّ في الشؤون العامة بين المواطنين. ولكن الأسوأ من ذلك لم نسمع يوماً اعتراضاً متماسكاً على مواريث الزمن الاقطاعي والتركة العثمانية وما خلّفوه من تراتبيات اجتماعية ووجاهات وألقاب وممارسات وانعدام أخلاق، وكأنه في اللاوعي الجماعي نزوع إلى التماهي مع هذا النموذج وتوق إلى تبنّيه إذا ما أتيحت الفرصة. وهذا ما يفسّر اداء الكثيرين من نماذج هذه الاقطاعيات المستحدثة من أمراء حرب وأثرياء دول شبه الجزيرة العربية وإفريقيا ومقاولي زمن الاحتلال السوري، الذين كمن سبقهم من إقطاع زراعي ووجاهات رجعية، يُطبقون على ما تبقّى من الإرث الديموقراطي الذي تركه الفرنسيون. فإذا بنا تسعون سنة بعد نشأة الكيان الوطني وست وستون سنة بعد الاستقلال، بصدد تفكيك آخر معالم الثقافة الدستورية وثقافة دولة القانون وما تمليه على صعيد الثقافة السياسية والسلوك المدني والأداء الحكومي.

 

ضف إلى ذلك أداء بعض البورجوازية المالية القديمة الثروة نسبياً، من الذين يسعون تعويضاً عن عدم تجذّرهم في الواقع الوطني والمجتمعي، للتموضع داخل معادلات النفوذ بواسطة التمويل وتوظيف "رأسمالهم الرمزي" – كما يسمّيه عالم الاجتماع يير بورديو-، سبيلاً يتوسلّه حلفاؤهم من حديثي النعمة وأمراء الحرب وصيّادي الفرص والمعربشين من كل المشارب، غطاءً لعقدهم الطبقية وسُلّماً لما يعتقدونه ارتقاءً اجتماعياً في فضاء هذا المجتمع الفارغ، الذي حاكته رقع التناقضات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية.

 

وأمّا النخبة السياسية التي تتكوّن من طبقة الذين أثراهم الاغتراب في بلدان شبه الجزيرة العربية وإفريقيا، فأتوا إلينا بثقافة استملاك الشأن والحيّز العامّين واستثمار الفراغات المؤسسّية من قبل من "وُلّوا الأحكام". إن ثقافة دوائر النفوذ المغلقة والديوانات السلطانية، والتحالفات بين سياسات النفوذ المنعقدة على خطوط الداخل والخارج الاقليمي، قد جعلت من المؤسسّات الديموقراطية ردائف طرفية وصناديق إيقاع لما يجري إقراره خارجاً عن أيّ سياق ديموقراطي ووطني.

 

نصل في نهاية العرض إلى أداء "التيّارات والأحزاب السياسية" فنستعرضها تباعاً:

 

الأحزاب والتيّارات في الأوساط المسيحية تتطلب إعادة نظر لجهة أدائها الديموقراطي الفعلي؛ على الأحزاب في الأوساط المسيحية ان تخرج من دائرة النفوذ الشخصي والعائلي التي دخلتها بشكل غير معهود، الأمر الذي شكل تراجعاً أكيداً لعمل ديموقراطي ومؤسسّي يعود إلى أواساط الثلاثينات ومفارقة ديموقراطية لاغية؛ وأن يصار إلى التخلي الصريح عن سياسات المحاور والملحقات ببعديها الداخلي والاقليمي، وما تمليه من ارتهانات سياسية ومالية نافية للسيادة الوطنية والديموقراطية في آن معاً، والانتقال إلى واقع الشراكة الميثاقية والتحالفات الديموقراطية كما هو مألوف في كل الأنظمة الديموقراطية؛ وان تقلع عن تثبيت الاقفالات على الحياة الديموقراطية بما تمليه من عمل مؤسّسي ونقاش حرّ وتداول على السلطة في داخلها وفي وسطها السياسي. كما عليها ان تعيد صياغة رؤيتها السياسية على أساس مفكرة إصلاحية شاملة وعلى ضوء النقلات النوعية التي تحتاجها الأوساط المسيحية اللبنانية، خاصة لجهة ردم الهوّة القائمة بين حيوية المجتمع المدني وطابعه الخلاّق والليبرالي والتراجع المخزي الذي أصاب العمل الديموقراطي فيها.

 

في المقابل على تيّار المستقبل أن يدفع سياساته باتجاه موضعة وتثبيت العمل المؤسّسي والمداخلة التحديثية والانمائية في الأوساط السنّية. كما عليه أن يطوّر حيّزاً مستقلاًّ للسياسات السنّية في الداخل اللبناني وخارجاً عن الاملاءات التي تفرضها المداخلة السعودية بأبعادها المالية والسياسية والدينية، والكلّ يعرف ان هذا العمل يقتضي جهداً خاصاً لجهة فصل المفكرات وترتيب الأولويات على أساس السيادة الوطنية، وهو بالأمر غير السهل في العالمين العربي والاسلامي؛ وان يعيد صياغة رؤيته وسياسته الانمائية باتجاه الانماء المتوازن والمتداخل ووضع حدّ لسياسات الريوع والمحسوبيات التي طبعت جوانب واسعة من سياساته. لكن لا بدّ من التأكيد أن تيّار المستقبل يلعب دوراً أساسياً في مجال تثبيت المناخات الديموقراطية والاعتدال الديني والخيارات الميثاقية في الأوساط السنّية، ويشكل قوة اعتدال أساسية في مجال تثبيت التوازنات الحامية للخيارات الاستقلالية والديموقراطية في لبنان.

 

الأحزاب الدينية في الأوساط الاسلامية، فهي بحكم مرجعياتها الايديولوجية سواء لجهة مفهوم "حاكمية الله" و"ولاية الفقيه"، أم لجهة ارتباطاتها الاستراتيجية – بالحركات الاسلامية من سلفية وجهادية ومحاور النفوذ السعودية والخليجية والليبية على المستوى السّني، وسياسات النفوذ الايرانية على المستوى الشيعي – فهي تتعاطى مع السياق السياسي بشكل عملي وملتبس التوجّهات، يتطلّب التحوّل باتجاه ثقافة ديموقراطية قائمة على مبدأ السيادة الوطنية والدولاتية ومفهوم المواطنية مع ما تفترضه من مساواة في الحقوق والواجبات والتداول الديموقراطي للسلطة خارجاً عن أيّة رؤية تمييزية وعن الاستثناءات التي تفرضها وجهة النظر الاسلامية غير النقدية. يبقى "حزب الله" على الرغم من تعقيدات مفكرّته السياسية المنعقدة على خطوط داخلية إقليمية شديدة التشابك، والتي تتطلّب فصلاً واضحاً على مستوى المفكّرات العملية - بأبعادها الدينية والسياسية والمالية وعلى قاعدة الاعتبارات السيادية – شريكاً أساسياً في تركيز التوازنات الداخلية، شرط ان يعزّز دوره التمكيني والانمائي في الأوساط الشيعية، وان يتخلّى عن منطق الاقفالات والتمثيل الاختزالي فيها، وأن يؤكّد التزاماته الميثاقية والديموقراطية. لا بدّ له أيضاً من إجراء قراءة نقدية لدوره في العقود المنصرمة أي بدءاً من نشأته في 1982. اما الأحزاب الدينية السّنية فهي امام تحدّيات أساسية لجهة تعزيز مشاركتها مع التيّارات السنّية المعتدلة في دفع الملف الانمائي والتمكيني في الأوساط السنّية الفقيرة والتأقلم الذي تفترضه الديموقراطية مع الموجبات الميثاقية والثقافة السياسية الليبرالية.

 

حركة امل مدعوة إلى تبدلات أساسية لجهة التخلّي عن سياسة المحسوبيات والريوع الطائفية والتصرّف بالمال العام للاثراء الشخصي، ومتابعة تطوير مداخلتها كحركة سياسية باتجاه ديموقراطي ومؤسّسي ومساءلة ذاتها حول مدى ديموقراطية "تأبيد" رئاسة نبيه بري للمجلس النيابي. هذا يملي على الحركة متابعة عملها ككتلة برلمانية تمارس عملها ضمن منطق يقبل بالحياة المؤسسّية وبالقواعد الميثاقية، وهي من الأمور الايجابية التي يمتاز بها اداؤها. لا بدّ لها أيضاً من إجراء عودة نقدية لدور الحركة في الحرب اللبنانية.

 

نختتم هذا العرض بالعودة إلى الأحزاب الايديولوجية التي أصابتها تراجعات بحكم سقوط مرجعياتها الدولية في حال الحزب الشيوعي والحركات اليسارية المستقلّة والحزب التقدمي الاشتراكي؛ والاقليمية في حال حزب البعث والحزب القومي الذي تحوّل بحكم ارتباطه العضوي بسياسة النفوذ السورية إلى إحدى أدواتها التخريبية على غير مستوى.

 

إن الحزب الشيوعي مدعو إلى مراجعة أساسية لم يقوَ على القيام بها حتى اليوم، للتخلّي عن تركة ايديولوجية ميّتة، والكفّ عن السعي لايجاد بديل عن مرجعية وصيّة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من خلال استظلال الحكم السوري المفتّش عن معابر تعيده إلى الداخل اللبناني.

 

اليسار الديموقراطي بحكم قراءته النقدية للمسارات اليسارية والشيوعية السابقة، وتموضعه ضمن المعادلات السياسية الجديدة إنطلاقاً من منطلقات سيادية وليبرالية على الصعيد السياسي، مؤهّل لمداخلة نوعية جديدة.

 

نصل إلى الحزبين القومي السوري ومخلّفات البعثيين اللذين لم ينجحا في حال الأوّل من تجاوز شرنقته الايديولوجية الخانقة والمناخات الفاشية التي رافقت تاريخه منذ البدايات حتى اليوم، وتطبيع تعاطيه مع الواقع الوطن اللبناني على مستوى الوعي والأداء، والخروج عن واقع الشيعة السياسية (secte politique) التي تعلك أوهامها وإفلاسها ومرارتها. امّا فلول البعث فلم تستخلص عِبَر الفشل لتجارب البعث الوحدوية، التي توّلدت عن فكر سياسي ضحل وأسوأ الديكتاتوريات الفاسدة والدموية التي أسسّ لها البعثان السوري والعراقي من خلال حكم عشائري ومذهبي، ضرب البذور الليبرالية في هذين البلدين وأسقط أوهام العروبة الايديولوجية. أمّا الترجمة العملية لهذين الفشلين، فهي أنهما لم ينجحا في تجاوز الدور الذي أسسّه مسارهما السياسي الفعلي، وهو التوّظف في كل ما يساهم في استهداف السلم الأهلي واستقلال البلاد، ممعنين بذلك في إضعاف السياق السياسي وتحوّل لبنان إلى مكبّ للنزاعات الاقليمية المفتوحة.

 

الحزب التقدمي الإشتراكي يعاني من التباسات ليس أقلّها تسميته التي تشير إلى خيارات إيديولوجية وواقعه الطائفي وزعامته الإقطاعية ودوره المتقلّب على غير وجه سواء لجهة الخيارات السيادية والميثاقية والديموقراطية. إن الإطار الصُوَري لهذا الحزب لا يحجب حقيقته الفعلية كأداة تجييش وتمكين في الأوساط الدرزية، يقابله إطار جِرمي آخر هو اللقاء الديموقراطي الذي لا يعدو كونه غطاءً لسياسة نفوذ وليد جنبلاط، يعوّض بها عن تقلّص زعامته عند حدود طائفته من خلال وضع اليد على التمثيل المسيحي ضمن نطاق نفوذه. على هذا الحزب أن يعمل على تطوير أدائه باتجاه يرأب الهوّة بين الإعلان الإيديولوجي الصُوَري الذي الذي لم تتّم مراجعته منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وأزمة اليسار الدولي، وسياسات النفوذ الخاصة بالزعامة الجنبلاطية والمداخلة الدرزية في الداخل اللبناني، وأن يجد له حيثية خارجاً عنها. عليه ان يستعيد أيضاً مداخلته على الساحة اللبنانية على أساس قراءة نقدية لدوره الأساسي في تفعيل ديناميكيات الحرب اللبنانية، وتثبيت سياسة الوصاية السورية على قاعدة الوصاية مقابل المشاركة في معادلات النفوذ وتقاسم المسالب؛ وان يحدد مفكرة إصلاحية فعلية لا وهمية ويؤكّد الالتزامات التي أعلنها من خلال ثورة الأرز،  لأنّ مفارقات وليد جنبلاط السياسية والأخلاقية لم تعد تحصى.

 

الخيارات الاصلاحية

في المشاركة السياسية: إن معالجة مسألة الطلاق البيّن بين التوجّهات الديموقراطية الاسمية للفاعلين السياسيين والأداء السياسي الفعلي القائم على تثبيت الفراغات الديموقراطية قولاً وفعلاً، قد أصبحت من المهمّات الأساسية في مجال تجديد الحياة السياسية في البلاد. يأتي التعاطي في مسألة قانون جديد للانتخابات على رأس هذه المفكرة الاصلاحية التي تبنى على قاعدة توسيع كل أشكال المشاركة السياسية والعمل على كسر واقع دوائر النفوذ المغلقة، التي تسعى ليس فقط إلى تثبيت الاقفالات على مستوى  التمثيل البرلماني بل إلى قتل كل المبادرات التي تؤول إلى فتح الحيّز العام على كل أشكال المداخلة المدنية التي يكتمل معها السياق الديموقراطي. ضف إلى ذلك ضرورة العمل على تثبيت الثقافة الديموقراطية من خلال إشاعة مفاهيم دولة القانون والحقوق الأساسية والمشاركة السياسية والمحاسبة والنقاش الديموقراطي الذي يتجاوز المحرّمات، ومقاومة كل أشكال الانكفاء المدني لحساب عمل تمكيني يذهب في كل الاتجاهات.

 

لا بدّ من إعادة فتح النقاش حول موضوع النظام الانتخابي ودراسة كل المتغيّرات التي تحكم صياغته بدءاً بالخيارات المؤسّسية وارتباطها بقراءة واقعية ونقدية لطبيعة الاجتماع السياسي في بلادنا وموجباته. إن العمل على مؤالفة الاعتبارات الميثاقية التي تملي المناصفة بين المسلمين والمسيحيين والتي تحول دون سياسات السيطرة بين الجماعات، والتعاطي معها انطلاقاً من رؤية تداخلية ووظيفية تجمع بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، ولكن على قاعدة ليبرالية تحمي حقوق الأفراد وتعطيها الأولوية في حال تعارضها مع حقوق الجماعات؛ وتُقرِن مبدأ التمثيل الطوائفي بمعايير المساواة المدنية والكفاءة المهنية والنزاهة الأخلاقية، حتى لا يتحول نظام المشاركة إلى نظام محاصصة بين أوليغارشيات طوائفية وسياسية، تعمل على إقفال الحيّز العام وإسقاط مفهوم الخير العام والحقوق المواطنية الجامعة وتعدّدية الخيارات السياسية والحياتية والقيّمية، التي تزخر بها كل مكوّنات المجتمع المدني من طائفية ومهنية وحركات أهلية على تنوع نشاطاتها.

 

لا بدّ أن يترجم قانون الانتخابات الجديد هذه الحيوية التي يمتاز بها المجتمع المدني وأن يظهّر هذا التعدّد السياسي والقيمي والحياتي الذي يمتاز به، وهذا ما يملي مراجعة لقانون الانتخابات لجهة ترسيم الدوائر، واعتماد الأنظمة الانتخابية الفضلى (دوائر فردية مع نظام أكثري، نظام النسبية مع دوائر أوسع...)، وتطبيق فعلي لقواعد الترشّح المتكافئ لجهة تطوير العمل الحزبي والمداخلة المدنية على قاعدة التمكين الديموقراطي، ومشاركة المرأة وأصحاب الحاجات الخاصة من خلال سياسات التمكين مدغمة بأشكال متنوعة من الكوتا، وضبط الانفاق وتنظيم الاعلام وتشكيل الهيئة المشرفة على العمليات الانتخابية، وتطوير عمل المراقبة لأداء النوّاب المنتخبين. إن عدالة أي نظام انتخابي تُقاس بقدرته على تظهير التنوع السياسي وفتح باب المشاركة السياسية والحؤول دون تكوّن إقفالات ودوائر سلطوية مغلقة.

 

في المتغيّرات الخارجية: إن استعراضنا لمختلف الملفّات العائدة للاستحقاق النيابي وعلاقته بمستقبل الديموقراطية في بلادنا، قد بني على فرضية استعادة الديناميكية السياسية الداخلية على قاعدة استكمال الشروط السيادية، وتبلور ثقافة سياسية جامعة تحول دون خرق النظام اللبناني بشكل بنيوي من قبل سياسات النفوذ الاقليمية، وإرادة لبنانية راغبة في موضعة لبنان ضمن نظام إقليمي تعاوني ومبني على الشراكة مع دول الجوار الاقليمي من خلال جامعة الدول العربية، والمدى الأوروبي من خلال الشراكة المتوسطية التي طرحها الاتحاد الأوروبي قاعدة عمل مشترك مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن خلال عضوية فعلية في الأمم المتحدة، وسائر الفدراليات التنظيمية التي تجمع الحركات المدنية في العالم حول ملفات شاملة كحقوق الانسان والتمكين النسائي والشؤون البيئية، والاتحادات التربوية من جامعية ومدرسية والمنظمات العاملة في مجالات الانماء وكل أشكال المساعدة الانسانية والمنظمات الثقافية والعلمية والاقتصادية والتجارية، وهيئات العمل الدولية والحركات الدينية المسكونية من مسيحية وغير مسيحية. وهذه الشراكات كلّها مجتمعة هي التي سوف تساعد لبنان على تمتين كيانه الدولاتي وحماية خصائصه المجتمعية وحرّياته المدنية، وهي التي ينبغي أن يعوّل عليها في مجال احتواء محاولات الخرق التي تقوم بها انظمة المنطقة، التي لا تزال تعمل بوحي من مفكّرة نزاعية وتوسّعية ونافية لكل أشكال التعاون الديموقراطي.

 

إن هذه الشراكات هي التي سوف تمكّننا من تعزيز المناخات الليبرالية التي تسود مجتمعنا المدني والتي ينبغي ان يتأسس عليها الاصلاح السياسي في بلادنا. سؤالي في هذا المجال هل اللبنانيون واعون لأهمية ما تقدّمه لهم العولمة من أطر مؤسسّية تحمي خياراتهم الليبرالية في منطقة متفجّرة تسودها ديكتاتوريات وأصوليات، ولا زالت تتحرك بوحي من مفكرات نافية لكل ما نحن عليه كمجتمع مدني من خيارات تنحو باتجاه ما سمّاه كارل ور بـ"المجتمع المنفتح" مقابل "المجتمع المغلق"، وهل ان الوعي هذا سوف يجد له ترجمة سياسية. أم أنّنا سوف نبقى على حافة هذه الهوّة السحيقة التي تفصل بين المجتمع المدني ودوائر السلطة المغلقة على الأفق الديموقراطي؟ هل أننا بصدد تبنّي ما يقدّمه لنا هذا النموذج من العولمة البنّاءة، ام أنّنا سوف نختار باب سياسة المحاور العربية والاسلامية التي لم تقدم لنا ولهذه المنطقة سوى الانقلابات وسياسات النفوذ المدّمرة والتخلّف الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والبيئي والانساني والأصوليات الدينية الخانقة، فنتوظّف في مشاريعها القاتلة لنمعن في تدمير ما تبقّى من الخصائص الانسانية التي جعلتنا نموذجاً "للمجتمع المنفتح" في هذه المنطقة، وذلك على الرغم من كل ما طبع مسيرتنا من أخطاء إرادية ومعوقات سيستمية (Systémique). السؤال بالغ الأهمية، والاجابة عليه تنبئ عمّا إذا كنّا جادّين في خياراتنا الديموقراطية؟ لن يكتب للخيار الديموقراطي من نجاح ما لم نوّحد تعاطينا تجاه سبل التعاطي مع النظام العالمي الجديد بمتغيّريه الدولي والاقليمي، حماية لخيارات الداخل وإسهاماً في إرساء نظام إقليمي جديد قائم على الاحترام المتبادل والشراكة الارادية والديموقراطية.

 

إن مناخات الأزمة المديدة المُطبِقة على يومياتنا، والتي جعلت منا رهينة لهذا الأفق المسدود الذي تعيد صياغته هذه الطبقة السياسية عند كل استحقاق وفي تضاعيف الحياة السياسية اليومية، والتي لم تترك مجالاً إلا واستعملته، من اجل إحكام إقفالاتها على حريّاتنا وقدرتنا على المبادرة كمواطنين. هذه المناخات باتت تستدعي عملاً سياسياً يؤسسّ لنقلات نوعية لن يقوى عليها إلاّ حركات تمكين يقوم بها المجتمع المدني في كل اتجاه. يبقى المجتمع المدني المعين الوحيد للخيار الديموقراطي، واذا ما بقي هنالك شيء من الديموقراطية في بلادنا، فهي حرّيات المجتمع المدني وقدرته على المبادرة من أجل استحداث تحولاّت سياسية أساسية ومُلِحّة.

 

بيروت في 16 تشرين الأول/09

 

*أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية، الفرع الثاني، الجامعة اللبنانية.

 

بيروت في 16 تشرين الأول/09