كيف نفذ شيراك انقلابه على سوريا وقاد عملية تحرير لبنان من هيمنتها؟

بقلم عبد الكريم ابو النصر – النهار 3/3/2006

"الرئيس جاك شيراك هو الذي قاد عملية الانقلاب الدولي على سوريا ودورها في لبنان، وهو الذي يلعب حاليا الدور الرئيسي الضاغط على نظام الرئيس بشار الاسد لدفعه الى التخلي نهائيا عن حلم استعادة لبنان، والى التعاون الكامل وغير المشروط مع التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ايا تكن نتائج هذا التحقيق. لكن الرئيس الفرنسي لم يقدم على هذا التحول الاستراتيجي، ولم يضع بلده في خط المواجهة الاول، سياسيا وديبلوماسيا، مع سوريا نتيجة حسابات شخصية وبسبب علاقات الصداقة القوية التي ربطته بالرئيس الشهيد وثأرا له، بل نفذ ذلك كله بعد دراسة متأنية للاوضاع اللبنانية والاقليمية والدولية ونتيجة ثلاثة اقتناعات اساسية هي: اولا، حان الوقت لاستعادة لبنان استقلاله وسيادته على قراراته وانهاء الهيمنة السورية عليه. ثانيا، ان لبنان المستقل لن يكون معاديا لسوريا، بل ان تحرره من هيمنتها خطوة طبيعية منتظرة منذ سنوات ويفترض فيها ان تمهد لتصحيح العلاقات بين هذين البلدين الشقيقين المتجاورين. ثالثا، ان فرنسا، بقطع النظر عمن يحكمها، لديها مسؤولين تاريخيين وسياسيين حيال وطن بكامله بمختلف طوائفه وفئاته وقواه، ولديها ايضا التزام معنوي بمساعدته على تأمين استقلاله وهو ما يدعم الدور الفرنسي على امتداد المنطقة لأن لبنان يظل عنصرا اساسيا في سياسة فرنسا الشرق الاوسطية".

هذا ما اكدته مصادر ديبلوماسية فرنسية واوروبية وثيقة الاطلاع في باريس، واوضحت ان المسؤولين السوريين هم الذين روجوا أساساً للنظرية القائلة ان كل ما قام به ويقوم به شيراك لبنانياً وسورياً ناتج من علاقته الشخية برفيق الحريري وبأسرته، وذلك في محاولة منهم للاساءة الى الدور الفرنسي في الساحة اللبنانية وفي المنطقة. وقد ردد قريبون من الرئيس بشار الاسد اخيرا امام اعلاميين فرنسيين زاروا دمشق: "كيف يمكن زعيما كجاك شيراك ان يربط سياسة بلده كلها بمصير رجل هو الحريري، وان يتخذ قراراته متأثرا بصداقته القوية به".

لكن الواقع غير ذلك تماما. صحيح ان رفيق الحريري كان بالنسبة الى شيراك "صديق العمر"، وان الرئيس الفرنسي وفيّ لاصدقائه الى اقصى حد، لكن هذه النظرية التي روجها السوريون، وتبناها عدد من المحللين والكتاب،  خاطئة كليا وتتعارض مع حقائق الامور ومع ما جرى ويجري فعلا على صعيد التعامل الفرنسي والاقليمي والدولي مع ملف العلاقات اللبنانية – السورية.

كيف اتخذ شيراك قراره اللبناني؟

اكدت مصادر ديبلوماسية غربية وعربية وثيقة الاطلاع على تطورات هذه القضية، ان شيراك لم يتخذ وحده ومع مستشاريه قرار خوض معركة تحرير لبنان من الهيمنة السورية، بالوسائل السياسية والديبلوماسية، بل انه اتخذ هذا القرار، منذ البداية، بالتشاور والتفاهم مع عدد من الدول العربية المعنيين بالامر، وكذلك مع عدد من الدول الكبرى وفي مقدمها  اميركا وبريطانيا والمانيا وروسيا. وهذا ما اعطى التحرك الفرنسي قوة دفع كبيرة. واوضح ديبلوماسي اوروبي "ان الذين يروجون لنظرية العلاقة الشخصية يتجاهلون ان شيراك ليس حاكم فرنسا المطلق، وليس ديكتاتورا يفعل ما يشاء ويقود بلاده وفقا لمزاجه الشخصي وفي الاتجاه الذي يريد. وهناك اليوم تأييد واسع للغاية من جانب مختلف القوى والاحزاب السياسية الفرنسية لسياسة شيراك اللبنانية الى حد اننا لم نسمع سياسياً واحداً يعارضها علناً وصراحة".

وكشفت المصادر الديبلوماسية الاوروبية المطلعة خفايا هذه القضية المهمة فأوضحت انه في ربيع 2004 بدأ التحول الجدي في استراتيجيا فرنسا اللبنانية في اتجاه العمل السياسي والديبلوماسي الحازم،  عربيا ودوليا، من اجل تحرير لبنان من الهيمنة السورية، وذلك للمرة الاولى منذ سنوات طويلة. وحدث هذا التحول الفرنسي نتيجة ثلاثة عوامل اساسية هي:

اولا، تلقى المسؤولون في دول عدة، بينها فرنسا، في ربيع 2004 معلومات من مصادر مختلفة تكشف تزايد النقمة الشعبية والسياسية اللبنانية على التدخل السوري المباشر والواسع النطاق في مختلف الشؤون اللبنانية واستعداد عدد من الزعماء والمسؤولين اللبنانيين الكبار ومن ضمنهم حلفاء لدمشق، للتحرك والعمل فعليا، داخليا وخارجيا، من أجل استعادة استقلال هذا البلد وتحرير القرار اللبناني من الوصاية السورية "غير الطبيعية".

ثانيا، توصل الحكم الفرنسي آنذاك في ضوء معلومات دقيقة ومحددة حصل عليها من واشنطن ودمشق ولندن، الى اقتناع تام بأنه ليس هناك مجال لعقد أي صفقة بين القيادة السورية والمسؤولين الاميركيين حول لبنان، كما حدث في الماضي، تعزز القبضة السورية على هذا البلد، من جهة، لان ادارة الرئيس جورج بوش مختلفة كليا عن الادارات الاميركية السابقة، وهي ليست راغبة في عقد أي صفقة مع نظام بشار الاسد، بل تريد منه ان ينفذ مجموعة مطالب تتعلّق بالعراق وفلسطين ولبنان و"حزب الله" ومكافحة الارهاب، من دون ان يحصل على أي ثمن سياسي سوى استمرار العلاقات الطبيعية مع واشنطن، ومن جهة ثانية، لان النظام السوري رفض هذا العرض الاميركي ولم ينفذ أيا من المطالب المقدمة اليه مجانا من دون عقد صفقة مع واشنطن. ورأى شيراك ومستشاروه ان رفض بوش عقد صفقة مع الاسد يضعف النظام السوري ويساعد على تحرير لبنان من هيمنته عليه.

ثالثاً، تلقى الرئيس شيراك وأركان الحكم الفرنسي آنذاك معلومات واشارات مختلفة من واشنطن تفيد ان الرئيس جورج بوش يريد اصلاح العلاقات مع فرنسا، المتوترة منذ معارضة باريس غزو العراق، وأنه "متعطش" للتعاون مع الفرنسيين وتحديدا في شأن الملف اللبناني – السوري. فتم نتيجة ذلك التوصل الى صيغة تفاهم بين واشنطن وباريس لخصها لنا ديبلوماسي اوروبي مطلع كالآتي: "فرنسا ستتعاون وتعمل مع اميركا من أجل تأمين استقلال لبنان واستقراره، واميركا ستعمل مع فرنسا من اجل اضعاف النظام السوري وتقليص دوره الاقليمي تدريجيا مما يتطلب وضع حد لسيطرته على لبنان". وتكرس هذا التعاون باتفاق شيراك وبوش في حزيران 2004 على العمل معا من اجل اصدار قرار جديد عن مجلس الامن يطلب من سوريا سحب قواتها من لبنان.

تياران داخل الحكم الفرنسي

وأكدت مصادر ديبلوماسية غربية مطلعة انه منذ بدء هذا التحول في سياسة فرنسا حيال لبنان وسوريا برز تياران داخل الحكم الفرنسي:

التيار الاول يقوده شيراك ومستشاروه ويدعو الى اعتماد سياسة التشدد والحزم مع نظام الاسد، ليس فقط لأن هذا النظام قدم الى الفرنسيين وعودا كثيرة تتعلق بلبنان وبالوضع الداخلي السوري وبالعلاقات الثنائية ولم ينفذ أيا منها، وليس فقط لان هذا النظام حاول عقد صفقة مع اميركا متجاهلا فرنسا ودعمها الكبير له طوال أربع سنوات فلم ينجح في عقد هذه الصفقة، بل ايضا وخصوصا لان الفرنسيين أدركوا ان سياستهم القاضية بالتقارب مع دمشق وتطوير العلاقات معها من اجل تأمين استقلال لبنان، قد فشلت معا ولم تعط ثمارها. وقال لنا ديبلوماسي فرنسي مطلع: "لقد سعى شيراك من خلال توثيق علاقاته مع بشار الاسد الى فك الارتباط الوثيق بين لبنان وسوريا وليس الى تمكين سوريا من السيطرة نهائيا على لبنان، ولكن تبين لشيراك ان القيادة السورية ترفض ان تتخلى عن هيمنتها الكاملة على لبنان، مهما قدم لها الاخرون من حوافز ودعم ونصائح واغراءات اذ انها تريد، في وقت واحد، ان تحتفظ بلبنان وبعلاقات جيدة ومتطورة مع فرنسا والدول الكبرى الاخرى. وفشل السوريون في ذلك والهدف من تشدد شيراك ليس اسقاط النظام السوري بل دفعه فقط الى احداث تغيير جذري في سياسته اللبنانية".

التيار الثاني داخل الحكم الفرنسي يضم خصوصا سفراء وديبلوماسيين في وزارة الخارجية وهو يعارض أي نوع من المواجهة السياسية مع سوريا، ويؤيد الاحتفاظ بعلاقات تقليدية وثيقة معها على أساس ان ذلك ضروري "لمعالجة المشكلة اللبنانية، وأن من الافضل العمل على "اقناع" سوريا بانهاء سيطرتها على لبنان، ولو تطلب ذلك وقتا طويلا، بدلا من الدخول في نزاع معها من أجل تحرير لبنان منها. وحين بدأ العمل الجدي في صيف 2004 لاصدار قرار عن مجلس الامن الدولي يطالب بسحب القوات السورية من لبنان، عارض انصار التيار الثاني هذا التوجه في السياسة الفرنسية تجنبا لحدوث ازمة في العلاقات مع دمشق. ووصل الامر الى حد ان سرّب انصار هذا التيار، قبل يومين من صدور القرار 1559، معلومات الى صحافيين لبنانيين وعرب في باريس تفيد انه ليست هناك حاجة لاصدار قرار دولي كهذا وان مجلس الامن لن يتبنى، في اي حال، مثل هذا القرار. لكن خط شيراك هو الذي حسم الامور فصدر القرار 1559 في الثاني من ايلول 2004 وبدأ العد العكسي للانسحاب السوري من لبنان.

وكشفت مصادر ديبلوماسية غربية وعربية مطلعة في باريس امراً مهما في هذا المجال هو ان التقارير التي تلقتها القيادة السورية من ممثليها في العاصمة الفرنسية، قبل صدور القرار 1559 وبعده كانت مضللة الى حد كبير، اذ استبعدت صدور هذا القرار ثم قللت كثيراً من اهميته وفاعليته مما دفع وزير الخارجية آنذاك فاروق الشرع الى القول ان الـ1559 "قرار تافه". واكدت هذه التقارير المرسلة من باريس الى دمشق ان القرار 1559 غير قابل للتنفيذ لانه لم يحدد جدولا زمنياً للانسحاب السوري من لبنان ولم يتضمن اي آلية لتحقيق هذا الانسحاب، ولان المسؤولين الفرنسيين اكدوا انه ليس واردا استخدام القوة العسكرية ضد سوريا لحملها على سحب قواتها من لبنان. وادت هذه التقارير الخاطئة المضللة دوراً اساسيا في طمأنة المسؤولين السوريين مما جعلهم يواصلون التصرف على اساس انهم اسياد لبنان وأصحاب القرار فيه. فتم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في هذه الاجواء. ثم حدث ما حدث، وخرج لبنان عن الوصاية السورية واصبح تحت رعاية دولية مدعومة عربيا.

شعبية عربية كبيرة لشيراك

واكدت لنا المصادر الديبلوماسية الاوروبية المطلعة ان شيراك لم يتخذ اي قرار مهم يتعلق بلبنان وسوريا طوال الاشهر الماضية من دون التشاور والتفاهم المسبق مع عدد من الزعماء والمسؤولين العرب الكبار المعنيين بالامر ومع ادارة بوش والحلفاء الاوروبيين، مما يعطي سياستها اللبنانية ابعاداً وافاقاً عربية ودولية حقيقية وليس بعداً شخصيا فحسب. واوضحت المصادر ان هذا الدعم العربي – الدولي الواسع لسياستها اللبنانية يزيد من تصميم شيراك على رفض عقد اي صفقة من اي نوع مع نظام الاسد على حساب استقلال لبنان وسيادته او على حساب التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، بل ان فرنسا مستعدة لتصعيد المواجهة مع النظام السوري اذا ما حاول تهديد استقلال لبنان وتعريض امنه واستقراره للخطر، او ا ذا ما اثبت التحقيق الدولي فعليا تورط النظام ككل في جريمة اغتيال الحريري.

وخلافا لما يردده بعض المسؤولين السوريين، فان سياسة شيراك اللبنانية هذه عززت موقع فرنسا ونفوذها في المنطقة. وتظهر التقارير الديبلوماسية التي تتلقاها وزارة الخارجية الفرنسية من سفاراتها في العالم العربي، ان دور فرنسا ازداد قوة وتأثيرا في الساحة العربية نتيجة الجهود الواسعة التي بذلها ويبذلها شيراك لمعالجة الملف اللبناني بجوانبه المختلفة، ونتيجة النجاحات التي تحققت في هذا المجال.

وكشف آخر استطلاع للرأي العام العربي اجرته "مؤسسة زغبي الدولية" في عدد من الدول العربية وابرزها مصر والسعودية ولبنان والمغرب والاردن ودولة الامارات، اظهر هذا الاستطلاع ان الرئيس شيراك هو اكثر الزعماء الاجانب شعبية في العالم العربي وانه يلقى اعجاب العرب وتقديرهم اكثر من اي زعيم دولي آخر، سواء بسبب معارضة الحرب الاميركية ضد العراق، او بسبب تعاونه مع عدد من الدول الكبرى والمؤثرة لتحرير لبنان من الهيمنة السورية.