عون - جعجع: امام التجربة المستحيلة

بقلم المحامي فايز قزي     

   

أكتب رغم شعوري بان ما أكتب هو أشبه بمادة لكتاب يوقعه مواطن سابق، ولذلك فهو غير صالح للنشر أو على الاقل مؤجل النشر ريثما تتحول الحالات الوجدانية الى مواقف سياسية. وربما يصح وصف هذا المقال بمحاولة تطفل على إِعلام أكثره لا يجيد الكتابة لشعب ربما بات يكره القراءة.

 

أذكر لدى زيارتي للأباتي شربل قسيس – رئيس الرهبنة اللبنانية – نهاية آذار 1977 لشكره على إخراجي من سجن المصنع وإبلاغه باضطراري للهجرة الى العراق، فطلب مني نقل رسالة الى صدام حسين (رئيس العراق السابق)، يطلب فيها " نسخة من الدستور العراقي الذي يحتفظ به صدام في مكتبه (حسب اعتقاد شربل قسيس) ويتضمن مشروع تقسيم العراق ". طبعاً كان رد صدام حسين النفي والتمسك بنظرية: " البعث حاضنة للتنوع الاثني والطائفي ". ولكن الرئيس العراقي أضاف يومذاك: " اذا اضطرتنا القوى العظمى لقبول الدولة الكردية فاننا لن نقاتل لابادة الشعب الكردي ولن نسمح بابادة الشعب العربي في العراق. وسنقبل حدوداً للدولتين".

 

واليوم وبمناسبة ما ظهر من اتجاهات الدستور الفدرالي بحماس استثنائي شيعي وكردي وبمناسبة خروج الدكتور سمير جعجع وتبرع الدكتور فارس سعيّد باسقاط منطق الفدرالية من أدبيات الـقوات اللبنانيـة وقائدها الذي " دخل السجن زعيماً مسيحياً وخرج بعد 11 سنة زعيماً وطنياً " بعكس الجنرال عون الذي عاد من منفى 15 سنة " زعيماً مسيحياً وقد غادر زعيماً وطنياً ".

 

 وبسبب علاقتي الوثيقة بالجنرال عون منذ عشرين سنة (وبمناسبة 28/4/1985 يوم تهجير اقليم الخروب) فأنا لم أكتب يوماً اليه بل كانت لقاءاتنا مستمرة من النقَّاش الى بعبدا الى مرسيليا الى هوت ميزون الى باريـس الى الرابية. كتبت عنه الجزء الاهم من كـتابي – تـجارب في علاقة مستحيلة – والذي استبدل الناشر ( رياض الريس )  عنوانه فجعله "من ميشال عفلق الى ميشال عون ". فإنني اليوم أخاطبه بالكتابة ليسمع الآخرون ايضاً خطاب الاستحالة والتحوّل. فأنا من الذين يعتقدون ان لبنان بعد العراق مباشرة أمام خيار صياغة جديدة لدستور يراعي المستجدات.

 

وعذراً اذا اقتضى ذلك بعض الاطالة والتكرار.

لقد تعرفت الى الجنرال عون سنة 1985 يحمل الوجع والدمع الذي أحمله وخاصة الغضب ضد وعود عبد الحليم خدّام (نائب رئيس الجمهورية السورية السابق) وحكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش السوري السابق ايضاً) واللذين وعدا وتعهدا بعدم السماح باجتياح اقليم الخروب وشرق صيدا (في 28 نيسان 1985) ولكنهما لم يلتزما الوعد والعهد، فكانت القطيعة الكاملة بينه وبينهما وبالتالي مع سوريا. وإن كنت قد ساهمت مع الكثرين ابتداءً من سنة 1985باعادة العلاقة والوصل بين الجنرال وسوريا،وكانت الغاية عندي تنحصر في إعادة المهجّرين واستعادة هيبة الدولة من الميليشيات.

 

ولقد كنت مع عون في استرداد سوق الغرب صيف 1989 واسقاط احلام الامارة والدويلات.

وبعد ان رفض عون الاستجابة لمنطق خدّام والشهابي بضرب القوات اللبنانية والتفرد بزعامة المنطقة المسيحية مصراً على معاملة واحدة لكل الميليشيات( أمل – الاشتراكي – القوات).

 

وكانت حرب التحرير الاولى ( 14 اذار 1989) التي فشلت في اسقاطه والتي خُطِّطَ لها أن تكون  حرب الالغاء الاولى. ففوجئ السوريون بانقلات الصراع بين القوات وعون الى تحالف.

 

ثم كان اتفاق الطائف الذي جاء لعزله مع منطقه الوطني " المتمرد " ووضع لبنان تحت الوصاية ونقل السلطة الى مجلس الوزراء لتصبح رأساً مقسماً لهرم ملتبس أصلاً. فكانت حرب الألغاء الثانية في 30/12/1990 التي طبقت فيها القوات اللبنانية " خطة الدفاع " والتي اتهمت عون باشعالها من أجل الغائها.

 

وانتهت حروب عون العسكرية ( حرب الالغاء الثالثة ) بخسـارة حرب 13 تشرين الاول 1990 ضد السوريين ولكن دون قبول تسليم طوعي للسيادة والحرية والاستقلال ليبدأ عون مرحلة النفي والعزلة ويسقط بالقـوة قائد الجيـش ورئيس الوزراء الذي أصرَّ على أن يكون زعيماً وطنياً "لشعب لبنان العظيم " وان يستعيد الجمهورية الممنوعة أولاً قبل الرئاسة المعروضة.

 

وهكذا طغت صورة الزعيم الوطني على رحلة الذهاب التي بدأت من رفضه انهاء القوات اللبنانية دون باقي الميليشيات ( المطلب السوري ) وانتهت بتمسكه بشعار استعادة الجمهورية ولو كان ثمناً لخسارة الرئاسة، (عرض نقله رفيق الحريري من الرئيس حافظ الاسد).

 

الى أن انتهى في عزلته من مرسيليا الى هوت مازون الى باريس متمسكاً ومصراً على زعامته الوطنية رغم ما استتبعه النفي من ملابسات.

ولم تكن تحضيرات العودة الى لبنان دون شروط محلية ولا اقليمية ولا تنازلات إلا صورة مكررة لهذا الاصرار على الزعامة الوطنية المتمناة .

 

ولعل هذه الصورة التي بالغ في الاصرار على التمسك بها جعلته بعد عودته يواجه صراع الحصارات السياسية وكأنها استمرار لحروب الالغاء الثلاثة. وقد وصف " بالسونامي " قبل ان يحط بطائرته ولم يلق الحفاوة اللازمة في زيارته لقبر رفيق الحريري مما استوجب الرد الفوري والمباشر في 7 أيار بموقف " الرفض للاقطاع المالي والسياسي ". ثم رفض كل تشكيلات لوائح انتخابات معارضة البريستول ثم المعارضة الرباعية الاطراف الملتبسة الاهداف والرؤوس الى رفض شرعية انتخابات زورت ارادة " الشعب العظيم " بكل الضغوط المالية والعاطفية المغمسة بالوان الطائفية والمذهبية والمشحونة خاصة بالفتاوى والتكليف الشرعي ثم رفض المشاركة في الحكومة شكلاً واساساً لالتباس مهماتها ومشاريعها واشخاصها.

 

وأعترف أنني في هذه الرحلة الطويلة على مدى عشرين عاماً لم ينتابني الشك في حسن قراءته وقراره إلا في الايام الاخيرة، ولمرتين: الاولى يوم استمر التفاوض بينه وبين موفدي الحريري وجنبلاط فترة اسبوع تقريباً، لتركيب تحالف انتخابي وفشل. والمرة الثانية يوم أعلن تحالفه وقبوله المشاركة بالوزارة من قريطم. ولكنه نجا بنفسه وبمؤيديه من التجربتين وضغوطهما الخارجية واغراءاتهما الداخلية . ولمت نفسي على التشكيك لمرتين واعتذرت.

 

وبالامس عندما انتقل " الضابط المتمرد " " والقائد العنيد " " والزعيم الوطني " الى مجلس النواب  بقي  شجاعاً اولاً باثارته قضايا عودة " الهاربين " الى اسرائيل من اهل الجنوب. خاصة ان قادة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية بالاضافة الى السلطات الرسمية جميعهم شاركوا في حصار الشريط وعزله. وثانياً بمطالبته المقاومة الاسلامية في الجنوب بكشف هويتها الاساسية وحدود أهدافها. وثالثاً باسقاط الطبقة السياسية اللبنانية المتعاونة والفاسدة المسؤولة عن نشوء الانظمة او الاجهزة المدنية والعسكرية التي اختلفت على مغانم التعاون وتدعي اليوم التعفف عن غرم التصادم وان لم يكن " الجيش هو الحل ".

 

واذا كان عون استعجل بالامس فرح توحيد لبنان فكان نصيبه النفي فانه اليوم أمام استحالة التوحيد ولا يعطى له سوى آية الفدرالية أو ما شابهها... ولو في بطن الحوت؟

 

اليوم ونحن نشهد تحول التيار العوني الى حزب نسأل مع شعب لبنان عن الحل – النموذج - الذي سيجترحه الجنرال عون من نظرياته وتجاربه لواقع الوحدة الوطنية المستحيلة. فهل يدعونا الى مواجهة او قبول القدر؟ وهل لا يزال يرى ان قيادته الوطنية والتي دفعته للتمسك بالشعارات الشاملة تصلح لساحات واقطاعات ومناطق مميزة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وكل الدلائل تشير الى استحالة استردادها الى الدولة – الوطن؟.

 

واليوم أيضاً ونحن ننتظر تحول حزب القوات اللبنانية الى تيار نسأل خاصةً الدكتور سمير جعجع وبعد 11 سنة من السجن بسبب قناعاته المسيحية الفدرالية عن النموذج الذي سيقدمه للتعبير عن  قناعاته التوحيدية الوطنية؟ وهل تصح مطالبة فارس سعيّد بالتوجه المعاكس التصادمي بين عون وجعجع؟ أم هي قراءة خاطئة فيلتقي الرجلان في محطة ما؟ أم ان " التقسيم شر كله والتوحيد خير كله ". وهل نبحث عن برنرد شو جديد ليجد لنا صيغة بين الوحدة والفدرالية، فيقنع اللبنانيين وأصحاب القرار ان يسمحوا لنا بالبحث الجدي عن الوحدة الوطنية بينما نعيش واقع الفدرالية ونظامها.

 

 كثيرون يؤمنون وأنا منهم ان عون نفي، ولم يهرب وفقاً لمزاعم الآخرين، وذلك بسبب تمسكه بشعاره الوطني للجمهورية الواحدة. فأخرج من لبنان لانه "وحدوي"، أما سمير جعجع الذي وافق في حينه على الطائف، فاتُهِمَ بالتمسك بمشروع التقسيم او الفدرالية، وأدخل السجن في لبنان لانه "تقسيمي".

وكانت عقوبة واحدة " مناسبة " أو " استنسابية " لعون المتمسك بالوحدة وجعجع الطامح الى الفدرالية وكلاهما نفذ عقوبته حتى الثمالة وعاد الى قيادته مجدداً. ولكن الى أين سيقودانا؟

 

أن لبنان اليوم فَقَدَ موارنته كميل شمعون وريمون اده، ودروزه كمال جنبلاط ومجيد ارسلان، وسنييه صائب سلام وتقي الدين الصلح، وشيعته موسى الصدر ومهدي شمس الدين، والفلسطينيون أبو عمار وجورج حبش، والعرب عبد الناصر وحافظ الاسد وفي العراق قام دستور فدرالي يحميه جيش يُطرَب لحروب الاكراد والشيعة والسنة على طريق الديمقراطية الفدرالية، وسوريا تترنح أمام ضعوط خارجية ومقاومة اسلامية داخلية واسرائيل بالانتظار لوضع دستور فدرالي مناسب ربما.

 

- فهل تنتهي الخيارات الوحدوية التي انطلق منها ميشال عون منذ 1985 الى قدرية الفدرالية امام فراق شيعي شرعي إنطلق من الضاحية صعوداً الى البقاع ثم باتجاه صراع الحدود والوجود؟ مع بروز نظرية جديدة مقاومة العدوانية الاسرائيلية وطلاق سني علني ظاهر في تشكيل الحكومة والبحث عن رئاسة الجمهورية، وضمني ملتبس في تشكيل حالات سلفية لبنانية وفلسطينية في بؤر وجزر معبأة وجاهزة لمنع وزعزعة تجارب الوحدة والعلمنة والحداثة؟. وهل ان عون أمام خصومة حصرية درزية جنبلاطية دائمة أو ربما موقتة في زعامة الجبل ؟ فتصبح حينها الفدرالية حلاً وحيداً مفروضاً لتجاربه المستعصية او المستحيلة للتعايش في الوحدة ؟! فيفرض على عون " شر الفدرالية " أو التساكن اللامركزي خياراً وقدراً وحيدين.

 

-       وهل تنتهي القوات اللبنانية التي تبنت بالامس " شر الفدرالية "، وسمير جعجع الذي دخل السجن 11 عاماً لتمسكه بمشروع الفدرالية ليقبل اليوم خير الزعامة الوطنية الظاهري والالتحاق بدولة الوحدة الملتبسة والمستعصية حلاً مفروضاً وبديلاً لتجاربه الصعبة او المستحيلة للتعايش في الفدرالية ؟! فيفرض على جعجع " خير الوحدة " خياراً وقدراً وحيدين.

-        

أم ان تبدل الزمن والمعطيات الداخلية والاقليمية والدولية سوف تجعل عون وجعجع يلتقيان في تقاطع ما بين التوحيد المستحيل خياراً والفدرالية الممكنة قدراً ؟.  أم إننا سنستعيد كريكاتور ايلي حبيقة ( قائد القوات اللبنانية الاسبق ) الذي كان يشبّه العروبيين واليساريين بالزانيات واللبنانيين اليمينيين بالراهبات الى أن تنبه إن الزانية قد تتحول الى راهبة ناجحة وأما العكس فمستحيل. فتوقف عن الوصف واستعماله بعد الارتداد.

 

من موقعي وتجاربي المتواضعة، سابقاً قومي عربي يساري مع ميشال عفلق وأبو عمار، وطني لبناني مع كمال جنبلاط، متابع ومشارك لمسيرة الحرب وتجربة ميشال عون، مهجّر أقف على حدود المواطنية السابقة، أشهد ان الوحدة التي كانت عصية في التجارب الوطنية اللبنانية والقومية العربية، لا تزال حتى اليوم، ولو كان البلد صغيراً على التقسيم في حجمه، لان مجموعاته المختلفة أو المتميزة يجب ان تحقق ذاتها في شكل أو نموذج لامركزي فدرالي. ونحن اليوم نعيش حالات استحالة داخلية اكثر افتضاحاً من السابق.

 

إننا نقرأ في شوارعنا يافطة: " الرأي والمشورة، القرار والأمرة، الطاعة والولاء لايران أو لسوريا "، ونراقب أجزاء ومناطق نشأت لالغاء الغير من قومي وحديث لدى مجموعات متعددة، ولكنها موحدة في السلفية مختلفة في الولاءات، تبحث عن الخلافة ونظمها في الشرع، مسقطة نظرية دولة الحق الحديثة والعلمانية ماسحة في " ثورتها" العنفية، من الجزائر الى مصر الى فلسطين والسعودية وغيرها، آخر احلام القومية العربية والتوجه البعثي واليساري العلماني والتعايش الوطني. وتتحكم بالمجتمع المدني والسياسي الفتاوى والتكاليف الشرعية والخطب والمواقف " المذهبية " السياسية لرجال الدين ودور العبادة، بما يحتم علينا استخلاص نموذج جديد للتعايش لمواجهة التحدي والاستحالة : تجربة بناء دولة حقوق علمانية بوجه المشاريع الطائفية ذات الابوتين الخارجية والسلفية.

 

أما اذا كانت هذه التجربة مستحيلة مرة جديدة، كما كانت سابقاً، فليعتبر عون ويتراجع ويترجل عن حصانه الوطني الجامع  الذي ما انفك يطارد الجمهورية المستحيلة، وليتريث جعجع قبل مغامرة مطاردة الوحدة والجمع الملتبس بين زعامة مسيحية سابقة محققة وزعامة وطنية مرتجاة، ليلتقي الاثنان وبقناعة مع كل تكوينات المجتمع اللبناني على صيغة تفسح لكل منطقة أو فريق باعتماد النظام الذاتي الانسب في اللامركزية او الفدرالية والتطلع فيما بعد الى آفاق الوحدة المرتجاة ومداها.

 وبكل تواضع وصدق لنعتبر ونتعظ فأن وحدتنا ليست أقوى من وحدة ارض الرافدين التي بدأت تفسح المجال لنموذج فدرالي جديد. واذا كان ميشال عون وجعجع وغيرهما سيتخلون عن رؤية واجتراح نموذج جديد، فإنهم لا شك سوف يستمعون غداً الى صوت اللبنانيين المقيمين وخاصة المهجّرين يقول لهم :" اليوم أتيتم؟!. لقد تأخرتم كثيراً ". لقد خسرتم الفدرالية في تشبثكم بالوحدة، بينما كانت الفدرالية ربما الطريق الاصوب الى الوحدة لاحقاً. فلم تربحوا رهان برنرد شو بانتزاع اذن الصلاة ( الوحدة ) وأنتم تدخنون ( الفدرالية ).

ومرة جديدة ليقف عون وجعجع امام التحدي " المستحيل " بشجاعة القائد ليبحثا عن وطن وجمهورية وليس عن مقعد وسلطة ولا قطر ولا ولاية، يبحثان عن شعب لا رعية. ومهما كانت الصعوبات او الاغراءات، فان القائد الحقيقي هكذا يكون ابداً، حتى ولو أخطأ شعبه التقدير وتعب من قيادته، فهو يبقى واقفاُ ومتعِباً لشعبه لمتابعة واستمرار النضال من اجل الوطن وحريته وديمقراطيته . " وما نفع القائد ان لم يكن متعباً لشعبه".

 

 ومرة جديدة لا تجلدوا أنفسكم أيها الفدراليون، لأن استحالة الوحدة والاندماج الوطني هي بالدرجة الاولى مسؤولية الاكثرية التي حالت دائماً دون قبول الاقلية، التي لم يبق أمامها سوى تحقيق ذاتها في نموذج ذاتي مناسب.

 

" وبما ان العلمنة  صعبة والطائفية مستحيلة "، كما يبشر المفكر اليساري محـسن ابراهيـم ( خطاب الاونسكو بمناسبة ذكرى جورج حاوي )، فان القدر المحتوم الباقي يصبح الصراع العنيف للسيطرة على الآخر في منطق الاصوليات الذي يحصر الحلول بثلاثة  بالموت او الذمية او الهجرة. إن اقتراح الحل البديل هو أن نحلم بالوحدة ونحن نعيش تجربة الفدرالية بدلاً من ان نطالب بالفدرالية ونحن نعيش خيبات نموذج الوحدة الحالي، او حروب التقسيم والخلافة المستقبلية؟. ولعل الواقع الحالي في لبنان والمنطقة والعالم الارهاب والصراع الديني والمذهبي العرقي يعيد الشرعية والتذكير بتكليفي في آذار 1977 من قبل الاباتي شربل قسيس بمقابلة صدام حسين لطلب نسخة عن مشروعه لتقسيم العراق والذي أصبح اليوم دستوراً وبات  صدام سجيناً.

 

14 شباط ما كانت سوى مجرد اعلان لحالة عنف قائمة ولصراع الوجود في لبنان كما كانت 11 أيلول مجرد اعلان عنيف لصراع الحضارات.

14 آذار كانت اعلاناً وطنياً شاملاً، وربما يكون الاخير، والأكثر تعبيراً عن رغبة لقاء عون وجعجع مع 14 شباط بشقيه الحريري والجنبلاطي للانطلاق مع آخرين بالمشروع الواحد الذي حقق غايات سياسية وربما على حساب حقائق أساسية واقعية سياسية وقانونية، سرعان ما انطفأت لتترك في " ساحة الحرية " التشاؤم والحزن. وهذه تجربة مضافة الى تجارب المحاولات المستحيلة السابقة.

 

ولبنان اليوم بعد سقوط 14 آذار يواجه ذاكرة ووجوداً وصيرورة حضارية، يبحث عن مشروع تأسيسي يطلقه من سكون الموت. وتقع على عون وجعجع مسؤولية ريادية رئيسية. فاما الوصول الى مشروع علماني كامل ...(وهذا كان في خانة المستحيلات) وإما الخروج الى صيغة جديدة في اللامركزية والفدرالية ترعى التنوع وتقوننه وتسهل مستقبلاً انضمام قادة آخرين ربما الى بيادر الحصاد الحر والديمقراطي بيادر 14 آذار لسنة ما. انها حاجة لبنانية ونموذج نصنعه لنا وللآخرين ايضاً، وهو بمثابة بطاقة دعوة مجانية للخروج من الاختناقين: العربي – الشوفـيني والسلفي – المتخلف، وهو أيضاً خيار ثوري للدخول الى دولة الحق والحداثة التي تشفي الاختناقات جميعاً.

 والخيار هنا هو سعادة الانسان المواطن في جمهورية الوجود لا جمهورية الحدود. الجمهورية التي تحفظ المواطنية الكاملة لكل مكونات الشعب مهما بلغ تعدادها فلا تسقط في الذمية الشرعية او العزل " الديمقراطي العددي". وليعذرنا كل من يرفض العلمنة في مجتمعنا من " أبطال التحرير والتوحيد " ومنطق التخوين السهل والمعمم على غيرهم، اذا رفضنا الغاء الطائفية السياسية بعد اليوم ورفضنا التجارب والنماذج التي تناسبهم وحدهم ونذكرهم باننا من عالم اليوم الكوني المبشر  بان الانسان أهم من الارض وأهم من النظام وأهم من الوطن حتى ان الله تجسد ليفتديه بصلبه.

 

انها التجربة التي تتحدى شجاعة القيادة المسيحية أولاً وتتحدى الجميع ولعلها التجربة الاخيرة ... قبل ان يصبح الكي بالتقسيم او الاقتتال بحثاً عن دولة او خلافة هو آخر الدواء المفروض علينا والموصوف من أوصيائنا والمرغوب من أعدائنا. فان كان الخروج اليوم بلبنان من واقع هيمنة الاكثرية الطائفية الملتبسة والمصطنعة الى حلم العلمنة الكاملة مستحيلاً، فإن الفدرالية هي الحل التوافقي الاوحد الباقي. وهذه الفرصة، التي تتوافق اليوم مع رياح " التغيير الديمقراطي " المدعوم دولياً، تستمد ربما شرعيتها من حرب التهجير ومن نظام الطائف الذي يصح فيه الاجتهاد للوصول الى الحكم الذاتي ( الفدرالي ) في تطبيق نصين :

الاول : اعادة النظر في التقسيم الاداري السياسي ( الانتخابي )، ليكون معبراً للتوحيد.

 

الثاني: التطبيق الموسع لللامركزية الادارية والمالية والسياسية.

وكما كانت حرب التهجير 1983 و 1985 اعلاناً لسقوط التعايش،

وكما كان الطائف على مر 15 سنة معبراً لاحتلال لبنان واخضاعه واسقاط أوهام حكمه ومؤسسات دولته ولموت جمهوريته، فلماذا لا يتحول اليوم التهجير والطائف معبراً لحل لبناني جريء وجذري ونموذجي؟ فيصبح مصيرنا " خياراً " وليس " قدراً "، وتتصالح اراداتنا لانشاء محافظات موحدة في نظام فدرالي ديمقراطي توافقي يسود دولة الحق والقانون والمؤسسات اسمه: " جمهورية المحافظات اللبنانية المتحدة ".

 

الحقيقة ـ كالحق ـ متى ظهرت زهق الباطل وسقط الزيف وسطعت شمس العدالة، فتهاوت الأباطيل والأضاليل

 

الكذب مرض عضال يضلل الناس ويجعلهم يتخذون خيارات خاطئة ويزرعوا الشك في قلب المجتمع. في وسط هذا الضلال يجب ان تعرفوا مَن تختارون ومَن تصدقون. فماذا يوجد في تاريخهم غير الكذب؟

 

كثيرون يختلفون على حدود الحرية، الا ان الامر بسيط وهو الحقيقة. فالحرية اذا تخطت الحقيقة تصبح جريمة، والتزام الحرية هو التزام الحقيقة. علينا ان نقول الحقيقة ولو كانت جارحة. والاعلام يجب ان يغذّي الحس النقدي عند الناس ويساعد على انماء الفكر التحليلي ولا يموت الحس النقدي ويوعّي الغرائز فيخلق ردوداً عاطفية ونوعاً من الهوس والتجييش، الاعلام لعرض الوقائع والحس النقدي وليس للتبخير، وعلى الناس ان يختاروا ما اذا كان العرض موضوعياً ام لا

 

لا انظر لموضوع حزب الله من زاوية خارجية ولكن من زاوية داخلية، ولا اعتقد انه يجب الاحتفاظ بهذا السلاح ينبغي ان تكون الدولة ذات قرار واحد لا قرارات امنية أو عسكرية مزدوجة لذا أطالب حزب الله بتسليم سلاحه طوعا للدولة اللبنانية وادعوه للانخراط في الحياة السياسية اللبنانية، هذا الموقف لم يتغير. لقد سبق ان اكدت ان سلاح حزب الله لن يعدل المعادلة الاستراتيجية العربية “الاسرائيلية”، وطبعا لن يستعمل ضد الشعب اللبناني، الذي يطالب بتسليم هذا السلاح، وحزب الله ليس مخيفا للشعب اللبناني لكن المخيف هو النظرة الخارجية للبنان والتي ستبقى نظرة قلقة وسيحجب عنا من يريد ان يوظف امواله في لبنان طالما هناك قوى غير شرعية تسيطر على قسم من الاراضي اللبنانية

 

القرار 1559 ينص على بنود من بنود الطائف التي لم تنفذ بما فيها مطلب نزع سلاح الميليشيات والمخيمات الفلسطينية هذا ورد في اتفاق الطائف ولما لم يوضع حد بوساطة الحكومة اللبنانية والسورية تم وضع حد له تاريخ زمني للتنفيذ بوساطة قرار دولي وليس كما كانت تنظر سوريا اليه وفقا لمزاجها

 

مشكلة شبعا  عالقة بيننا وبين سوريا، أولا سوريا ضمت شبعا اليها عام 1957 ومن ثم خططت ضمن الحدود السورية عبر الامم المتحدة، وعلينا اولا تصحيح ترسيم الحدود أولا بيننا وبين سوريا أو بالتفاوض حتى تتركها “اسرائيل”، وعندها نستطيع ان نحدد موقفنا، لكن لا يجب ان يبقى السلام الى اجل غير مسمى وغير محدد وهذا ما يتهدد اقتصادنا لأنه طالما هناك حرب وفي ظل وجود جيش بالتوازي مع الجيش الرسمي والذي يجب ان يأخذ على عاتقه قضية مزارع شبعا وأمن الحدود، فلن يكون هناك أي توظيف مالي واقتصادي بلبنان ونحن بأمس الحاجة لهذا المال بعد ان تعدت ديون لبنان 350 في المائة من دخلنا الوطني، الموضوع بالنسبة لنا موضوع داخلي قبل ان يكون موضوعا خارجيا وقضية مزارع شبعا لا تؤثر لا في سيادتنا ولا في استقلالنا ولا في حريتنا، وبإمكاننا الانتظار لخطة إعادة ترسيم الحدود، واذا لم تقبل سوريا بترسيم الحدود فسنطالب بأن تقوم الأمم المتحدة بترسيمها وعندها ستنتهي المشكلة

 

المحافظة على لبنان كانت مسؤولية العرب، فإذا استطاعت اليوم أميركا أن تعيده فليشكروا ربهم، ولا أحد يتطلّع بالمقلوب بحجة أن أميركا صديقة إسرائيل، فهل أصبح استقلال لبنان أيضاً لمصلحة إسرائيل؟؟

 

النظام السوري قام على النار والدم، هناك عشرات آلاف القتلى قتلهم النظام في سوريا حتى تمكّن من تثبيت نفسه، وهناك أيضاً عشرات آلاف القتلى قتلهم في لبنان حتى تمكن من وضع يده عليه، فإذا حاربت أميركا البعث العراقي بهذا الإصرار، فهل يمكنها أن تغضّ النظر عن البعث السوري وتبقى لها مصداقيتها في العالم؟ أنا أتحدث من منطلق المنطق، وأعتقد أن هناك حداً أدنى من المنطق في العلاقات الدولية، ولا يمكن أن يتخطّوه، فحكم كحكم النظام الأسدي، فعل ما فعل من مجازر، لا يمكن أن يستمرّ صديقاً للولايات المتحدة بتوجّهها الجديد، طبعاً هناك المقربون من سوريا ينشرون الشائعات كي يتمكّنوا من تأمين استمراريتهم إلى أقصى حد ممكن خاصة في لبنان، ولا تنسوا أن لسوريا أزلاماً كثر في الإعلام والسياسة

 

إسرائيل عندما دخلت إلى لبنان لم تسمح لنفسها بأن تدخل وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، بينما سوريا احتلت وزارة الدفاع بعد إعلان وقف إطلاق النار، ودخلت إلى القصر الجمهوري