دراسة عن مفاعيل القرار 1559 على الولاية الرئاسية الممدَّدة

لا يسمو قرار لمجلس الأمن على أي دستور

ويجب تكييف القرارات الدولية مع مقتضيات الوفاق الوطني

بقلم سليم جريصاتي (•)  النهار 15/3/2006

المعطيات:

1 -ورد من ضمن حيثيات القرار 1559 (2 ايلول 2004) الذي اتخذه مجلس الامن ما يأتي:

"واذ يدرك ان لبنان مقبل على انتخابات رئاسية ويؤكد اهمية اجراء انتخابات حرة ونزيهة وفقا لقواعد الدستور اللبناني الموضوعة من غير تدخل او نفوذ اجنبي،

1 - يؤكد مجددا مطالبته بالاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الاقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها دون منازع في جميع انحاء لبنان؛

5 - يعلن تأييده لعملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة تجري وفقا لقواعد الدستور اللبناني الموضوعة من غير تدخل او نفوذ اجنبي".

2 - صدر القانون الدستوري رقم 585 بعد يومين من صدور قرار مجلس الأمن 1559 (2004) اي بتاريخ 4 ايلول 2004 (ج.ر. عدد 48 تاريخ 7/9/2004) بتعديل المادة 49 من الدستور باستمرار "ولاية رئيس الجمهورية الحالي ثلاث سنوات تنتهي في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 2007"، وذلك بوصول اجراءات التعديل الىخواتيمها.

3 - اقرّ التعديل الدستوري اعلاه مجلس النواب، وهو يؤلف الهيئة التي تتولى دون سواها السلطة المشترعة على ما ورد في المادة 16 من الدستور، وقد تولاها في ميادين مختلفة عن طريق اقراره قوانين دخلت في صلب النظام القانوني اللبناني وتأسست عليها اوضاع قانونية. وقد تم اقرار التعديل الدستوري المذكور وفقا للاصول والآلية المنصوص عليها في الدستور ذاته وبالاكثرية الموصوفة والمحددة في احكامه، ولم يطعن به لدى اية جهة قد تكون مختصة للنظر في أسباب هذا الطعن. وقد ميّز الدستور ذاته بين القوانين الدستورية والقوانين العادية ولاسيما لجهة آلية اقرار كل منها، محصّنا القوانين الدستورية، وهي بمرتبة القوانين المحلية الاسمى والتي يجب مراعاتها عند وضع اي تشريع او نظام. وقد قضت المادة 102 من الدستور في هذا السياق بما يأتي: "الغيت كل الاحكام الاشتراعية المخالفة لهذا الدستور".

4 - تنص المادة 2 من قانون اصول المحاكمات المدنية على مبدأ تسلسل القواعد Hiérarchie des normes وعلى وجوب تقيد المحاكم به، كما تنص على انه "عند تعارض احكام المعاهدات الدولية مع احكام القانون العادي، تتقدم في مجال التطبيق الاولى على الثانية" لكن دون ان يحق للمحاكم، وعلى ما تضيفه المادة المذكورة، ابطال القوانين العادية لعدم انطباقها على الدستور او المعاهداتالدولية.

5 - ان القرار 1559 (2004) الصادر عن مجلس الامن يدخل في ما يسمى "المنظومة القانونية الدولية"، من حيث انه قرار صادر عن مرجعية دولية تابعة للامم المتحدة، وهو يختلف بطبيعته عن المعاهدة الدولية التي هي المصدر الاساسي للقانون الدولي العام بالنظر الى انبثاق احكامها رضائيا من دول ذات سيادة ارتضت هذه المواثيق او الاتفاقات او المعاهدات وفقا لآليات محددة في انظمتها القانونية الداخلية، وهي غالبا الدستور ذاته، كما هي الحال في لبنان.

6 - وبالاضافة الى لحظ اصول اقرار المواثيق او المعاهدات او الاتفاقات الدولية، ينص الدستور اللبناني في الفقرة "أ" من مقدمته على ان "لبنان وطن سيد حر مستقل"، وفي مادته الاولى ان "لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة"، ويضفي الدستور ذاته القوّة الدستورية على ما يسمى "الكتلة الدستورية" Bloc de Constitutionnalité والتي تشمل مقدمة الدستور وما تلحظه وتشير اليه في الفقرة "ب" من مواثيق دولية اي تحديدا مواثيق جامعة الدول العربية ومواثيق منظمة الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان.

المسألة المطروحة:

ما هي مفاعيل قرار مجلس الامن 1559 (2004) على القانون الدستوري اللبناني رقم 585، وهل يقع هذا باطلا في حال اعتباره متعارضا والقرار المذكور؟

نشير بادئ ذي بدء الى ان المسألة المطروحة والبحث القانوني بموضوعها يتجاوزان حتما اي مقاربة سطحية او مبسطة للنصوص القانونية المعنية، كأن يُكتفى بالنظر الى مدى تطابق النص الدولي مع النص الدستوري او عدم انطباقهما، على الرغم من ان هذه الجدلية قائمة، ذلك ان الامر لا يتوقف اطلاقا على مثل هذه المقاربة بل يطول ما هو اعمق منها من حجج قانونية قاطعة باتجاه تفلّت القانون الدستوري رقم 585 من اي محاولة قانونية لابطاله بالارتكاز على التعارض المزعوم اعلاه مع نص قرار دولي، لا سيما وان هذا القرار عطف على "قواعد الدستور اللبناني" واكد "الاحترام التام لسيادة لبنان... واستقلاله السياسي".

الاجابة القانونية:

بادئ ذي بدء، وبصورة مبدئية، "... ما من دستور مكتوب يجري وضعه، الا ويكون منطويا على التأثيرات التي تعرّض اليها، ومتجاوبا مع التيارات السياسية والاجتماعية التي دفعته الى الصدور، وهي حالة ما برحت ظاهرة في الدساتير المعاصرة".

- ادمون ربّاط، الوسيط في القانون الدستوري العام، الجزء الاول، الدول وانظمتها، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، ص 102.

والامر ذاته ينسحب، لوحدة الموضوع والتلازم، على كل تعديل دستوري. هذا من باب المبدأ والامانة العلمية.

اما بعد،

أولا- في سلطة ابطال القانون الدستوري رقم585 وفي مسألة مشروعية هذا الإبطال:

من حيث المبدأ، وبمعزل عن هذا القانون الدستوري بالذات، ناط الدستور السلطة المشترعة بهيئة واحدة هي مجلس النواب (م 16 من الدستور)، مما يتوافق كليا مع نظام لبنان الدستوري ("لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية..."- فقرة "ج" من مقدمة الدستور) ومع ان "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية" (فقرة "د" من مقدمة الدستور).

وان المؤسسة او السلطة الاولى التي هي على تماس مع ارادة الشعب المباشرة هي مجلس النواب المنبثق من انتخابات عامة. وهذا المجلس هو الذي يشرّع اي يقرّ القوانين، العادية منها او الدستورية، ويفسرها ويعدلها ويلغيها.

وقد نصت المادة 19 من الدستور على انشاء مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين، كما نصّت احكام قانون انشائه ونظامه الداخلي على اصول وآلية تصديه للقوانين المتعارضة واحكام الدستور.

اما في ما يختص بالقانون الدستوري رقم 585 الذي عدّل الولاية الرئاسية الدستورية الحالية على ما اسلفنا لتنتهي في 23 تشرين الثاني 2007، فاننا نرى ان الاختصاص محجوب عن مجلس النواب ذاته، كما عن المجلس الدستوري الذي لم يتسنّ له اصلا ابداء رأيه في الامر لانكفاء من ناط بهم الدستور حق مراجعته عن تقديم اي طعن بالقانون المذكور ضمن المهلة القانونية، للنظر فيه ابطالا او تعديلا مؤداه اختصار ولاية رئيس الجمهورية او تقصيرها.

ولقد فصلّنا في دراسة لنا شاملة نشرت في صحيفة "النهار" عدد أول آذار 2006، الاسباب القانونية التي تقضي بحجب هذا الاختصاص عن مجلس النواب والتي خلصنا فيها الى ان أي مبادرة ترمي الى تقصير ولاية رئيس الجمهورية الشاغل منصبه، بتعديل دستوري يؤدي الى إقالته تمهيداً لانتخاب خلف له انما هي عمل يلفظه النظام الدستوري اللبناني الذي هو نظام ديمقراطي برلماني قائم على مبدأ الفصل بين السلطات، ويؤلف التفافاً على موقع الرئاسة الأولى المحصّن في الدستور في رمزيته واختصاصه ومسؤولياته وحالات شغوره متجاوزاً في ذلك بصورة فاضحة أحكام الدستور ومتفلتاً بالتالي من الضوابط الدستورية التي هي بمثابة ضمانات لممارسة دستورية صحيحة.

ثانيا- في اثر قرار مجلس الامن على التعديل الدستوري من حيث المبدأ:

لا خلاف على الاطلاق ولا شذوذ في ان الدستور هو القانون الاسمى في الدولة، اي انه القانون الاساسي والمبدئي، وله الصدارة العليا في الانتظام القانوني القائم. ومن هنا المبدأ القائل بسمو الدستور او سيادته Principe de la suprématie de la Constitution بمعنى انه يعلو على سائر قوانين الدولة ويرجح نصه تطبيقا عليها.

ولا خلاف ايضا في ان القانون الدولي الذي يرعى نشاط الدولة الخارجي وعلاقتها بسائر الدول والمنظمات الدولية وحقوقها والتزاماتها الناجمة عن ذلك، انما ينقسمقسمين:

- القانون الدولي العام Droit International Général الذي ينبثق من الاعراف الدولية والمبادئ القانونية العامة المعمول بها في الامم الراقية والسائدة بينها (ومنها ضرورة حلّ النزاعات الدولية بالطرق السلمية، الحفاظ على الامن والسلام بين الدول، وحق الشعوب في تقرير المصير، وحماية حقوق الانسان، ومبدأ سيادة الدول).

- المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تقرها الدول في ما بينها او مع المنظمات الدولية وفقا لآليات محددة Droit International Conventionnel (ومنها ميثاق الامم المتحدة وميثاق الدول العربية وسائر الانظمة والمواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية).

وقد خص الدستور في الفقرة "ب" من مقدمته بعض هذه المواثيق والمعاهدات والاتفاقات بالقوة الدستورية، وهي مواثيق جامعة الدول العربية ومواثيق منظمة الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان. وقد عكست هذه الفقرة صراحة مأثرة من مفاخر لبنان واعتزازه انه لم يكن عضواً فقط في جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة وملتزماً مواثيقهما والاعلان العالمي لحقوق الانسان، بل كان أيضاً من مؤسسي هاتين المنظمتين وواضعي هذه المواثيق.

ولا خلاف ايضاً في ان النصوص الدولية تطغى على النصوص المحلية العادية كما اسلفنا في مقدمة هذه الدراسة (م 2 اصول محاكمات مدنية). ويلتقي هذا النص العادي مع نص المادة 55 من الدستور الفرنسي:

“Les traités ou accords régulièrement ratifiés ou approuvés ont, dès leur publication, une autorité supérieure à celle des lois, sous réserve, pour chaque accord ou traité, de son application par l’autre partie».

وهكذا يكون الدستور الفرنسي قد أضفى على مبدأ تسلسل القواعد الطابع الدستوري.

واذا نظرنا ناحية هذا القانون الفرنسي، بمقاربة مقارنة، يتبين لنا ان مجلس الشورى والهيئة العامة لمحكمة التمييز في فرنسا قد كرّسا مبدأ  سموّ الدستور على النصوص الدولية، وان المجلس الدستوري الفرنسي يشاطر مثل هذا التكريس.

فلقد اعتبر مجلس الشورى الفرنسي في اجتهاد شهير وحديث Jurisprudence Sarran ان الصدارة المعطاة للمعاهدات والاتفاقات الدولية او الالتزامات الدولية لا تسري على الاحكام ذات الطبيعة الدستورية:

“La suprématie ainsi conférée aux engagements internationaux ne s’applique pas, dans l’ordre interne, aux dispositions de nature constitutionnelle».

CE, Assemblée, 30 octobre 1998, Sarran, Levacher et autres.

وقد ذهبت محكمة التمييز الفرنسية المذهب ذاته في قرار متخذ بهيئتها العامة:

Cass. (Assemblée plénière) 2 Juin 2000.

- لطفا مراجعة مؤلف

- Pierre Pactet- Institutions Politiques- Droit Constitutionnel. 21ème édition, Ed. Armand Colin – p.584.

وهكذا تكرس الصدارة للنص الدستوري، النص الاوّل والاسمى، على ما عداه من نصوص متعارضة وان تأتت عن معاهدات واتفاقات دولية، وذلك في ما يتعلق بالانتظام القانوني الداخلي. وهذا ما يبرّر رفض المجلس الدستوري الفرنسي المستمر مراقبة توافق القوانين الداخلية مع احكام المعاهدات والاتفاقات الدولية، كون هذه لا ترتقي الى مرتبة الاحكام الدستورية.

فماذا يكون الامر لو تعارض افتراضا قرار صادر عن مجلس الامن في الامم المتحدة مع نص دستوري اقر في لبنان، وذلك بمعزل عن انه لا يسوغ لاي سلطة، بما في ذلك مجلس النواب صاحب سلطة الاشتراع، اقرار قانون تعديل دستوري في حالات عصيةّ معينة كتلك التي تؤدي، على ما أسلفنا، الى تقصير ولاية رئيس الجمهورية الشاغل موقعه ؟

نشير باد ذي بدء الى الثوابت القانونية التالية تأطيراً للبحث العلمي وتفادياً لأي التباس او تهورّ في المحاججة:

1 - ان قرارات مجلس الأمن هي قرارات تفرض على الدول او على الأقل تستغني عن موافقتها المسبقة عليها. اما المعاهدات والاتفاقات الدولية فتقرها الدول بارادتها السيادية.

2 - لا تصح حجة السيادة بصورة مطلقة في معرض الاجابة عن السؤال المطروح أعلاه، ذلك ان سيادة الدولة انما هي صنو لشرعيتها الدولية، والمفهومان لا يتناقضان بل على العكس يتكاملان ويتفاعلان عضوياً.

وما يدل على ذلك ان مبدأ سيادة الدول هو من المباد التي يرتكز عليها القانون الدولي العام. فالمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تضع في صدارة المباد التي تعمل هيئة الأمم المتحدة بموجبها "مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها"، والمادة الأولى تشير صراحة في متن  الفقرة "2" الى حق كل دولة في تقرير مصيرها، وهو حق مرادف للسيادة.

3 - لا يسع منظمة الأمم المتحدة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، على الا يحد ذلك من اختصاص الأمم المتحدة بتطبيق القرارات الدولية بموجب الفصل السابع من الميثاق. فلقد ورد في الفقرة "7" من المادة الثانية من الميثاق انه "ليس في هذا الميثاق ما  يسوغ للأمم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما... على ان هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع".

4 - ان القرار 1559 (2004) هو قرار صادر عن الشرعية الدولية كونه متخذاً من مرجعية دولية صالحة لإتخاذه وفقاً لصيغة وبناء على أكثرية منصوص عليها جميعها في ميثاق الأمم المتحدة.

5 - ان الدستور اللبناني على ما أسلفنا، قد أسبغ في مقدمته القوة الدستورية على ميثاق الأمم المتحدة.

6 - ان الصفة الدستورية لميثاق الأمم المتحدة لا تنسحب على القرارات المتخذة من مختلف تنظيمات الأمم المتحدة كون تلك القرارات لا تدخل في "الكتلة الدستورية" وهي تحديداً مجموعة النصوص والمباد الدستورية او ذات القيمة الدستورية.

ومن هذه الثوابت القانونية الى أين ؟

- ان الأمانة العلمية تقضي بان نذهب انطلاقاً من هذه الثوابت الى ما هو أبعد منها، كي نصل الى الخلاصات الوافية في المسألة المطروحة. لذلك يجب الإلتفات ملياً الى موضوع نشأة قرارات مجلس الأمن وطبيعتها ومفاعيلها مع التركيز على القرار 1559 (2004)، والفراغ منه، فيتبدى لنا ان المسألة المطروحة لا تحمل في طياتها صداما او تناقضاً بين نظامين قانونيين بل مزاوجة طبيعية مردّها الى المرجعية التي اتخذت القرار 1559 (2004) وطبيعة هذا القرار.

ان ميثاق الامم المتحدة الذي كان لبنان من اول الدول الموقعة له بصفته عضوا مؤسساً، يلحظ موقعا متصدراً لمجلس الامن بالنسبة الى سائر تنظيمات الامم المتحدة بما فيها الهيئة العمومية (المادة 24 فقرة اولى من الميثاق). فلقد القت المنظمة الدولية على هذا المجلس مسؤولية الحفاظ على السلم والامن الدوليين، بالمفهوم الواسع، وهو في ادائه لمهمته هذه انما يعمل باسم اعضاء المنظمة اجمعين. فهو يصدر توصيات Recommandations او قرارات Résolutions وفقا لآليات محددة في الميثاق ذاته. وقد تقع توصياته او قراراته تلك تحت الفصل السادس من الميثاق (في حل المنازعات حلا سلميا)، او الفصل السابع (في ما يتخذ من الاعمال في حالات تهديد السلم والاخلال به ووقوع العدوان). والفصل الاخير يتيح لمجلس الامن استعمال القوة في حالات معينة لتنفيذ قراراته. وتتخذ القرارات وفقا لاصول وآليات محددة في الميثاق.

وان القرار 1559 (2004) يقع تحت الفصل السادس حيث لم يظهر لمجلس الامن ان ثمة تهديداً للسلم او عدواناً ما، فخلا من اي اشارة  الى ان مجلس الامن يتصرف وفقا لاحكام الفصل السابع، مفسحا المجال امام الحلول الرضائية والسلمية والمرحلية للوضع Situation الذي تمت مناقشته.

وان مجلس الامن الذي يمارس صلاحية استنسابية لتحديد التوصيف القانوني لحفظ اختصاصه، لم ير ان الاوضاع التي كانت سائدة في لبنان عند اتخاذ القرار 1559 (2004) تهدد السلم والامن العالميين، او تؤلف عملا من اعمال العدوان، او تعرّض المدنيين لانتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، فلم يبادر الى استظلال قراره الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة كما فعل مثلا بالنسبة الى القرار 1566 (2004) المتعلق بمكافحة الارهاب.

فالقرار 1559 (2004) انما اتخذ في اطار المادة 34 (الفصل السادس) من ميثاق الامم المتحدة التي تنص على ان "لمجلس الامن ان يفحص اي نزاع او اي موقف قد يؤدي الى احتكاك دولي او قد يثير نزاعا لكي يقرر ما اذا كان استمرار هذا النزاع او الموقف من شأنه ان يعرض للخطر حفظ السلم والامن الدولي".

حتى ولو اتخذ مجلس الامن قرارا بمقتضى المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة (الفصل السابع)، اي في حال حدوث تهديد للسلم او اخلال به وعمل من اعمال العدوان، فقد يقع قراره إما في موقع التوصية او في موقع القرار الزاجر وفقا لما ورد صراحة في متن المادة المذكورة.

ويبقى، بالاضافة الى ما سبق استعراضه، ان اي قرار لمجلس الامن، انما هو قرار سياسي دولي (لتفريقه وتمييزه عن القرار القضائي الدولي) وذو طبيعة متبدلة من جراء تبدل ظروف القضية التي يضع مجلس الامن يده عليها وتطوّر حيثياتها ومعطياتها ومفاعيلها محليا ودوليا. وعليه يتأقلم المجلس، وهو بادر الى ذلك في الكثير من قراراته، حتى كاد البعض ان يعتقد خطأً أن قراراته اضحت غير متجانسة، الى مقاربة قضية معينة او قضايا مشابهة من زوايا مختلفة وبصورة اكثر تطابقا مع وقائعها وظروفها وتطور حيثياتها ومعطياتها ومفاعيلها.

وقد تبدلت بالفعل الظروف الدستورية المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي بأن تم تحديد ولاية رئيس الجمهورية وفقا للقواعد الدستورية المعتمدة على ما اسلفنا لتنتهي في 23 تشرين الثاني2007، فاضحى الامر مكرسا بنص دستوري محصن، حيث ينظر حينئذ الى القرار الدولي المذكور، في شقه المتعلق بالانتخابات الرئاسية موضوع هذه الدراسة، في ضوء المعطى الموصوف والمستجدّ والمتوافق مع مقتضيات السيادة وقواعد الدستور التي حرص القرار الدولي ذاته على التذكير بها والتشديد عليها.

فالقرار 1559 (2004) قد اخذ في الاعتبار تحديدا، كما جاء في بناءاته وفقراته، القواعد القانونية المعمول بها في البلد المعني ("قواعد الدستور اللبناني") فحال بذلك دون نشوب اي نزاع في الصلاحية القانونية Conflit de lois بين مضمون هذا القرار والأحكام الدستورية المرعية في البلد المعني، او الوقوع في جدلية المساس بالسيادة الوطنية التي يجسدها دستور البلاد.

وان هذه القراءة للقرار الدولي 1559 (2004) تنسحب في نظرنا على جميع قرارات مجلس الامن او الجمعية العمومية للامم المتحدة، ولا نغامر او نغالي في ذلك ما دام ان الوئام هو الركن الاساسي لميثاق الامم المتحدة وليس الصدام، بدليل ان المادة الاولى من هذا الميثاق تحدد مقاصد الامم المتحدة بحفظ السلام والامن الدولي متذرعة بالوسائل السلمية، وانماء العلاقات الودية بين الامم وتحقيق التعاون الدولي  على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والانسانية، في حين تشير المادة الثانية صراحة الى ان هيئة الامم المتحدة تعمل واعضاءها في سعيها وراء المقاصد اعلاه وفقا لمبادئ "المساواة في السيادة بين جميع الاعضاء" و"حسن النية" وفض المنازعات الدولية بين الاعضاء "بالوسائل السلمية" والامتناع عن التهديد باستعمال القوة. وتخلص في فقرتها السابعة الى انه "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للامم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما" مع حفظ تطبيق "تدابير القمع" (لاحظوا التسمية)  الواردة في الفصل السابع.

فكل هذا يتلاقى في نظر فقهاء علم القانون الدولي العام مع النظرية السائدة والقائلة بأن هذا القانون المتمثل بمجموعة الاعراف والمبادئ والمواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية وقرارات المنظمات الدولية على انواعها، انما يكون قانونا وضعيا Droit Positif اي قابلا للتطبيق ومطبقا لان الدول المعنية ارتضته كذلك:

"Le droit international existe parce que les Etats….. le reconnaissent et l’invoquentcomme l’a remarqué G. de Lacharrière, les Etats ont une politique juridique extérieure, de la même manière qu’ils ont une politique extérieure en matière militaire, économique ou culturelle, c’est-à-dire une «politique à l’égard du droit et non pas forcément déterminée par le droit…». Le droit international est un droit positif parce qu’il est reconnu comme tel par les Etats, ceux-là même qui y sont assujettis au premier chef…

Comme dans tout ordre juridique, les normes internationales font l’objet d’un processus formel d’élaboration dans lequel interviennent au premier chef les Etats, à la fois auteurs et destinataires principaux de ces règles ».

- Droit International Public, Patrick Daillier & Alain Pellet, LGDJ, 7ème édition 2002, no 44 et 45.

وهذا ما يفسّر ان لبنان، الدولة الدستورية صاحبة السيادة والمتحصنة بالشرعية الدولية، لا يسعه الا احترام قرارات هذه الشرعية ، دون ان يعني ذلك اذعاناً تتلاشى معه الأحكام الدستورية والتعهدات الوطنية واسباب الوئام او الوفاق او السلم الاهلي، ولا سيما في ظل خصوصية النظام اللبناني وتركيبة لبنان الطوائفية. فمن المعروف ان لبنان لم يرتق فيه الفكر الدستوري بعد الى مرتبة الارتكاز الحصري على المواطنة على ما تدعوه الى ذلك المادة 95 من الدستور وفقاً لآلية  مبرمجة على مراحل.

وهذا ما يفسّر ايضاً عقد حلقات الحوار الوطني المستجد الذي يتناول القرار 1559 (2004) وكيفية تفسيره وتنفيذه بما يتلاءم مع مصلحة لبنان العليا وتماسكه وميثاق عيشه المشترك كما ومقتضيات انتمائه الى مجتمع دولي ساهم لبنان في ايجاد نظامه التأسيسي.

وهذا ما يفسر ايضاً وايضاً ان بعضا من هذا القرار قد نفذ ، وان الأمين العام للأمم المتحدة قد كلف مبعوثاً خاصاً متابعة تطبيق مندرجاته، وقد نقل عن هذا المبعوث الخاص اثر اجتماع له في 13 آذار 2006 ووزير خارجية روسيا انهما اتفقا تماما على تنفيذ القرار وانهما ناقشا "الكثير من المسائل وخطوط النزاع في الشرق الاوسط التي تؤثر على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 (2004)" وان "المحادثات تركزت خصوصا على اهمية الحوار الوطني اللبناني" الذي كرر المبعوث الدولي الخاص اعتباره "اداة مركزية لتنفيذ القرار 1559 (2004)" ! وقد افاد بيان لوزارة الخارجية الروسية نتيجة هذا الاجتماع انه "تم التأكيد ان كل المشاكل تحتاج الى حل بروح الاتفاق الوطني دون الحاق الضرر بالسلم الاهلي في البلاد".

وهذا ما يدل على ما يمكن تسميته تكييف القرارات الدولية عند تنفيذها مع خصوصيات المعنيين بها كي لا تفضي الى نقيض المقاصد السامية التي يرمي اليها ميثاق الامم المتحدة والتي اشرنا اليها في معرض هذه الدراسة. الا ان التكييف لا يعني التفلت من القرارات الدولية على ما هو نهج بعض الدول ، بل تطبيق لها بشكل هادف الى تحقيق مرامي هذه القرارات بافضل الظروف واقلها ضرراً، وهذا ما يتم مثلاً عند اختيار الاوقات والظروف المناسبة للتنفيذ (بالنسبة الى موضوع دراستنا: حلول أجل الولاية الرئاسية الدستورية – شغور الموقع – الاستقالة الطوعية

المبكرة.

وهذا ما يفسر ايضاً وايضاً اننا لم نشهد قط قرارات سياسية دولية زاجرة تتجاوز كل الاعتبارات السلمية الى الاكراه العسكري الا في حالات محددة في الميثاق الدولي ومعروفة الاسباب والظروف والنتائج ومختلفة تماماً عما هو مطلوب في القرار 1559 (2004) وفي ضوء ما سبقه ورافقه ولحقه من تطورات محصنة بنصوص سامية، ومتابعة دولية متأنية وحريصة على مقتضيات الوفاق الوطني والسلم الأهلي والسلام العام، كما وحوارات وطنية جامعة.

لذلك، وفي ضوء كل ما تقدم، لا يسع اي قرار صادر عن مجلس الامن، تحت طائلة الوقوع في خطأ جانح، ان يسمو على دستور او ان يكون من مفاعيله اعتبار قانون دستوري باطلا حكما في دولة دستورية، ذات سيادة وشرعية دولية، او التأسيس عليه لابطال قانون كهذا ارتضته الامة في مفصل من مفاصل

حياتها.

(•) أستاذ محاضر في كلية الحقوق والعلوم

السياسية في جامعة القديس يوسف

عضو المجلس الدستوري سابقاً