أزمة كتاب التاريخ المدرسي في لبنان: رؤية مؤرخ

 

http://www.annahar.com/content.php?priority=1&table=kadaya&type=kadaya&day=Mon

بقلم/مسعود ضاهر

تاريخ في: 2009-09-07: النهار  

 

إبان مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان لم يكن تعليم مادة التاريخ جديا في المدارس الرسمية والخاصة.وتم التركيز فقط على السنة الأخيرة من مرحلة التعليم الابتدائي التي يحصل فيها الطالب على شهادة السرتيفيكا (Certificat) بعد امتحان رسمي بإشراف وزارة التربية الوطنية في لبنان ويتضمن مادة التاريخ في الامتحان الخطي لذا كانت غالبية المدارس لا تعلم مادة التاريخ إلا لغاية تقديم الامتحان الرسمي في نهاية المرحلة الابتدائية، فينال المتعلم شهادة رسمية تؤهله لدخول المرحلة المتوسطة أو التكميلية.

 

ولم يصدر كتاب خاص أو مستقل عن تاريخ لبنان لأن إدارة الانتداب الفرنسي كانت تنظر إلى مناطق انتدابها بصورة شمولية. وكان منهاج تدريس مادة التاريخ المعتمد طوال مرحلة الانتداب يتضمن مزيجا من تاريخ فرنسا وأوروبا، وموضوعات من تاريخ العالم، بالإضافة إلى بلدان الانتداب، ولمحات من تاريخ لبنان والعالم العربي والإسلامي.

 

بعد الاستقلال بات من واجب الحكومة اللبنانية توحيد نظر اللبنانيين إلى ماضي وطنهم وحاضره ومستقبله. فأصدرت عام 1946 مناهج جديدة للتعليم بجميع مراحله، وذلك مباشرة بعد رحيل القوات الفرنسية عن لبنان. وباشرت المدارس بتطبيق المنهاج الجديد في جميع مراحل التعليم، وأصبح امتحان مادة التاريخ خطيا في المرحلة الابتدائية وشفويا في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وتم تدريس مادة التاريخ باللغة العربية بصورة إلزامية مع امتحانات خطية في نهاية المرحلة الابتدائية (السرتيفيكا)، وفي نهاية المرحلة التكميلية، البروفيه (Brevet).

أما في الواقع العملي، وبسبب النقص الحاد للمعلمين المتخصصين في تدريس مادة التاريخ بقيت معظم المدارس الخاصة لا تدرس مادتي التاريخ والجغرافيا باللغة العربية وفي حال قررت تعليمها كانت توكل المهمة إلى أساتذة من حملة شهادة الأدب العربي. واستمرت المدارس الفرنكوفونية تعلم مادة التاريخ والجغرافيا بالفرنسية، وفي كتب مستوردة من دور النشر الفرنسية. وجعلت المناهج الجديدة مادتي التاريخ والجغرافيا متلازمتين، على أن يتم تدريسهما باللغة العربية دون سواها. وكانت الامتحانات خطية في نهاية المرحلة الابتدائية، وخطية وشفوية في نهاية المرحلة التكميلية، وشفوية فقط في نهاية المرحلة الثانوية.

 

وقد وضعت المناهج الجديدة على خلفية التعددية الطائفية. فلبنان بلد متعدد طائفيا وثقافيا. وقد أكد وزير التربية آنذاك، فيليب تقلا، في رسالته للتعريف بالمناهج الجديدة على إعادة النظر في النظام التعليمي السابق بكامله ووضع مناهج جديدة للتعليم العام وليس فقط للامتحانات. وبنيت فلسفة المناهج الجديدة على النقاط التالية:

 

"توحيد هيكلية التعليم وتوجيهه توجيها وطنيا مع احترام حرية الأساليب وتنوع الثقافات، وإعطاء المتعلم ثقافة إنسانية وعلمية ليصبح مواطنا صالحا يمتلك ثقافة شاملة وحسا اجتماعيا واعتزازا بانتمائه إلى امة تفتخر بماضيها وحاضرها. وهي تهدف إلى إطلاع اللبناني على أمجاده التاريخية دون تبجح، ليعتز بماضيه ويفهم حاضره، ويتحضر لمستقبله، ويتعرف إلى علاقاته بإخوانه في الدول العربية فيقدر مركزه بينهم ويقوم بواجبه نحوهم على حب وإخلاص. وهو يتطلع إلى دور لبنان بين دول العالم، فيفخر بما كان له من أياد بيضاء على التاريخ العالمي. فيندفع إلى استعادة ذلك الإشعاع، مستندا إلى ما في منهاجه التعليمي من عناصر الثقافة العالمية".

 

أصرت الدولة اللبنانية على تدريس مادتي التاريخ والجغرافيا في المدارس الرسمية باللغة العربية فقط. وأخضعت جميع مدارس التعليم الخاصة، المحلية منها والأجنبية، لرقابة وزارة التربية الوطنية في لبنان. وحدد المنهاج الجديد توزيع تعليم مادة التاريخ في المرحلة الابتدائية على أربع سنوات تبدأ بحكايات شفوية عن الحياة القروية في لبنان وبعض المظاهر الكونية. ثم تتدرج للتعريف بجوانب من تاريخ لبنان والعرب والعالم عبر مختلف العصور. وكانت مادتا التاريخ والجغرافيا مجموعتين في كتاب مدرسي واحد، وهناك من نشر كتابين منفصلين لتدريس المنهاج الواحد.

 

طوال مرحلة الاستقلال احترمت وزارة التربية الوطنية في لبنان مبدأ التعليم الحر الذي نصّت عليه المادة التاسعة من الدستور اللبناني. فأعطت الحرية للمؤلفين ولدور النشر في إصدار سلاسل من الكتب التاريخية شرط أن تتجنب الحساسيات الطائفية والسياسية، وتساعد على التنشئة الوطنية السليمة. وكانت المدارس اللبنانية، الرسمية والخاصة، حرة في اختيار أي من السلاسل المتوافرة لدى دور النشر اللبنانية أو الأوروبية.

 

لكن الحرب الأهلية وامتداداتها المستمرة منذ العام 1975 تركت آثارا سلبية جدا على العلاقات المتبادلة بين الطوائف اللبنانية. لذا نص "اتفاق الطائف" لعام 1989 في مجال التربية والتعليم، على :"توفير العلم للجميع وجعله إلزاميا في المرحلة الابتدائية على الأقل. والتأكيد على حرية التعليم وفقا للقانون والأنظمة العامة. وحماية التعليم الخاص وتعزيز رقابة الدولة على المدارس الخاصة وعلى الكتاب المدرسي. وإصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني وتعزيزه وتطويره بما يلبي ويلائم حاجات البلاد الإنمائية والاعمارية. وإصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية وتقديم الدعم لها وبخاصة في كلياتها التطبيقية. وإعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية".

 

لقد تميزت المرحلة الممتدة من الاستقلال حتى بداية الحرب الأهلية عام 1975 بحرية التأليف والنشر للكتب المدرسية، ومنها كتاب التاريخ المدرسي. لكن انفجار الحرب الأهلية حمل معه سيلا من الكتب المدرسية بالإضافة إلى دراسات تاريخية تعبر عن آراء مؤرخي الطوائف ولا تحترم الحد الأدنى من شروط البحث الأكاديمي في لبنان. ففي عام 2008 كان هناك أكثر من عشرين سلسلة من كتب التاريخ المدرسي المعتمدة لتدريس مادة التاريخ في لبنان. إلا أن المادة نفسها لم تحظ بأكثر من حصة واحدة من أصل 33 حصة في الصفوف المتوسطة والثانوية، وبنسبة 3 % من المنهاج العام، مقابل 18 % لتدريس مادة الرياضيات و15 % لتدريس اللغة العربية أو الفرنسية. وحددت علامة الامتحان بعشر علامات من أصل 220 علامة، وبنسبة 4.5 %، مقابل 28 % لمادة الرياضيات و18.18 % لكل من اللغات العربية والفرنسية أو الانكليزية. أما في الصفوف الأدبية، الثاني والثالث الثانويين، فنال تدريس مادة التاريخ أيضاً حصة واحدة، بنسبة 3.33 %، مقابل 23.33 % لكل من اللغة العربية والأجنبية، و10 % للرياضيات. وكانت حصة العلامة في الامتحان عشرين علامة من أصل 220، أي ما نسبته 9 %، مقابل 28 % لكل من اللغة العربية والأجنبية، و18.18 % للرياضيات. وقد تراجعت في العام 2008 لتصبح 30 علامة من أصل 560 علامة، أي بنسبة 5.35%.

 

دلالة ذلك أن مادة التاريخ لم تنل على الدوام الاهتمام الكافي في المنهاج الرسمي، في حين بقيت حركة تأليف كتب التاريخ المدرسي ناشطة جدا وعلى حساب البحث الشخصي للطالب، ومشاركته داخل الصف والمدرسة. وما زالت أهداف مناهج التعليم المقررة في مادة التاريخ غير واضحة في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، سواء على مستوى الأهداف التعليمية العامة أم على صعيد تدريس مادة التاريخ بشكل علمي، وبشكل خاص مادة التاريخ اللبناني. وما زال تدريس التاريخ يعتمد الأساليب التقليدية، أي أسلوب المحاضرة حيث المعلم هو صاحب الرأي السديد وجميع التلاميذ مستمعون، ولا يحق لهم المناقشة، أو معارضة الأستاذ وإيديولوجيته. ورغم ما يتضمنه الكتاب من ثغر ونواقص فهو ملزم للتلاميذ، وعليهم حفظ المادة عن ظهر قلب طمعا بالحصول على علامة عالية في الامتحان. وعلى التلاميذ أن يتقبلوا آراء معلم مادة التاريخ، وأخطاء الكتب المدرسية، ومغالطات وحتى أكاذيب المرويات التاريخية وبعض المؤلفات الطائفية والمذهبية المؤدلجة التي تفتقر إلى الدقة العلمية، وتغييب المصادر والوثائق التاريخية المعروفة، ومعها تغييب الحس الوطني السليم بأهمية كتاب التاريخ المدرسي في بناء الوحدة الوطنية الجامعة. لكن هناك مجموعات من الكتب المدرسية العلمية إلى جانب مجموعات غير علمية تروي الأحداث التاريخية على شكل قصة تعتمد الكثير من الخيال.

 

تعتمد الإجابة على أسئلة الامتحانات الرسمية على الحفظ، والمعلومات العامة، ومزاج أعضاء اللجان الفاحصة وبعضهم مشاركون في تأليف مجموعات من الكتب المدرسية المعتمدة في المدارس. هذا بالإضافة إلى كراريس تقدم إجابات كاملة على الأسئلة التي طرحت في مادة التاريخ في دورات سابقة بحيث ينال الطلبة في هذه المادة علامات عالية تساعدهم على النجاح.

كما أن وزارة التربية لم تضع قواعد محددة لتأليف ونشر سلسلة كتب التاريخ المدرسي، بل تركت الحرية للمؤلف في اعتماد الطريقة التي يراها ملائمة. إلا أنها اشترطت ألا يسيء الكتاب إلى الشعور الوطني، وألا يحرك نعرات طائفية. فالتعليم في لبنان حر، والتأليف حر. ولم تفرض وزارة التربية كتابا موحدا للتاريخ بل تركت للمدارس حرية اختيار ما تشاء من السلاسل المتداولة.

 

مناهج جديدة أفضت إلى فوضى التأليف

في العام 2000 نشرت الحكومة اللبنانية مناهج جديدة وهي تنقسم قسمين:

 

أولا: مرحلة التعليم الأساسي، وتتضمن ثلاث حلقات:

 

الأولى: للسنتين الثانية والثالثة،

 

الثانية: للسنوات الرابعة والخامسة والسادسة،

 

الثالثة: للسنوات السابعة والثامنة والتاسعة،

 

ثانيا: مرحلة التعليم الثانوي: تضم السنوات العاشرة، والحادية عشرة، والثانية عشرة وقد تحددت بموجبها بعض الأهداف التربوية حيث دعت إلى أن يستند تدريس مادة التاريخ إلى منهجية البحث العلمي عن الحقائق التاريخية. وأن من أولى واجبات المؤرخ الموضوعي البحث عن الحقائق التاريخية من مصادرها الأساسية، واعتماد المصطلحات والمفاهيم العلمية السائدة في كل مرحلة تاريخية، وتجنب إسقاط الماضي على الحاضر أو الحاضر على الماضي.

 

بالإضافة إلى الأهداف العامة، فإن لتعليم كتاب التاريخ المدرسي في لبنان أهدافاً خاصة أبرزها تنمية الروح الوطنية لدى الأجيال المتعاقبة من اللبنانيين، وترسيخ الاعتزاز بالهوية الوطنية، وتقوية حس الولاء للبنان، والتأكيد على وحدة اللبنانيين والعيش المشترك بين طوائفهم، وتعزيز الشعور بهوية لبنان الوطنية وانتمائه العربي، وإبراز التراث الثقافي والحضاري المشترك بين لبنان وأشقائه العرب في مختلف الحقب التاريخية، والمساعدة على تنمية روح التضامن الوطني والعربي في نفوس الناشئة اللبنانية، وترسيخ التنشئة المدنية والأخلاقية لديهم، ومساعدة المتعلم على الاهتمام بالشأن العام، والممارسة السياسية، وفهم العلاقة السليمة بين المواطن والسلطة على أساس مبادئ الديموقراطية، واحترام حقوق الإنسان وحريته وكرامته، وتنمية روح المقاومة لديه ضد الظلم والعدوان، ومواجهة كل أشكال الاضطهاد، وابراز صور البطولة والتضحية والشجاعة والوفاء للأرض والشعب والوطن التي مارسها اللبنانيون في مختلف حقب التاريخ. ومن خلال بناء الذاكرة الوطنية تبرز أهمية التراث اللبناني المشترك والمنجزات المشتركة التي قام بها اللبنانيون من خلال تضامنهم وشعورهم بوحدة المصير، وهي تعزز ارتباط اللبناني بجغرافية بلده الموحدة. وينطلق تعليم التاريخ الموحد من الجغرافيا الموحدة والحدود المعترف بها دوليا والمنصوص عليها في الدستور.

 

وتتميز الثقافة الوطنية الجامعة بوحدتها وغناها وتنوّع مصادرها وانتمائها إلى الثقافة العربية من جهة، وانفتاحها على الثقافات العالمية من جهة أخرى. يشدد كتاب التاريخ المدرسي في لبنان على نشر الوعي بأهمية القيم الدينية في لبنان، خاصة المسيحية والإسلامية منها، كمصدر أساسي لنشر مبادئ الأخلاق والإنسانية التي تتنافى وجميع أشكال ومظاهر الطائفية والتعصب الديني الطائفي. ومن الأهداف الخاصة بتعليم تاريخ لبنان المدرسي أيضا نشر الوعي بالآثار السلبية للنزاعات بين اللبنانيين وانعكاساتها على وحدة الوطن واستقراره. كما يبرز دور القوى الأجنبية في معظم الأحداث الدموية التي عرفها لبنان منذ القرن التاسع عشر بسبب التدخل المباشر للدول الخارجية على الساحة اللبنانية وفي جوارها. هذا بالإضافة إلى إظهار دور الحركات الإصلاحية والثورية والنضالية في لبنان وفي الدول العربية والعالم، لتحرير شعوبها من التسلط والطغيان والاستعمار. ويساعد كتاب التاريخ المدرسي على توعية الطلبة اللبنانيين على مخاطر المشروع الصهيوني على لبنان والمنطقة العربية من خلال التعريف بتاريخ الحركة الصهيونية وأطماعها التوسعيّة المناقضة للقانون الدولي وحقوق الإنسان.

 

فور طباعة أول كتابين في التاريخ ضمن سلسلة "نافذتي على الماضي" للسنة الثانية والثالثة من مرحلة التعليم الأساسي، أي الجزء الأول والجزء الثاني من الحلقة الأولى، تعرض الكتاب لانتقادات حادة دفعت وزير التربية إلى وقفه. ثم اصدر التعميم 92 لعام 2001، طلب فيه من إدارات المدارس والثانويات الرسمية، استبدال ساعات مادة تدريس التاريخ بمادة التربية المدنية في برنامج توزيع الدروس الأسبوعي. ثم أصدر قراراً بوقف تدريس سلسلة كتاب التاريخ الموحد الذي صدر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء في العام الدراسي 2001 - 2002، والتي كان مقررا صدورها كاملة في مطلع العام الدراسي 2002- 2003. وصدر قرار آخر بتشكيل لجنة عليا من عشرة مؤرخين لبنانيين لوضع منهاج جديد لمادة التاريخ في مراحل التعليم ما قبل الجامعي. فأنجزت اللجنة عملها في مطلع العام 2005 دون أن يصدر الكتاب الموحد حتى الآن.

 

بعد التوقيف القسري للتدريس في كتب التاريخ الموحدة التي أعدها المركز التربوي للبحوث والإنماء، وسلسلة كتاب التاريخ المدرسي الوطني القديم الصادر سابقا عن المركز نفسه، سارعت دور النشر إلى المنافسة لتأليف كتب التاريخ المدرسية، بحلّة جديدة. وفي ظل غياب كتاب التاريخ المدرسي الموحد، نشرت سلاسل عدة لتدريس مادة التاريخ في لبنان ناهزت العشرين سلسلة شكلت لوحة توثيقية لهذا البحث عن كتب التاريخ التي كانت تدرس في العام 2007 – 2008.

 

يعاني كتاب التاريخ المدرسي اليوم من خلل فاضح في دقة النص التاريخي الذي بات يفتقر إلى الأمانة التاريخية من جهة، وضوابط الكتابة التاريخية للمؤلفين من جهة أخرى. ولا يمكن النص التاريخي في الكتاب المدرسي أن يقتصر على سرد العناوين الكبرى فقط لإظهار مدى احترامه للمنهاج الموحد مع ترك العنان لسرد الأحداث التاريخية المؤلمة والتي تستثير الغرائز الطائفية التي تسببت بكثير من المآسي للبنان واللبنانيين. فالخلاف الايديولوجي يكمن في سرد التفاصيل داخل العناوين الفرعية، وعلاقة لبنان بمحيطه العربي وبباقي دول العالم، القريبة منها والبعيدة.

 

لذلك يحضر الماضي بكثافة في كتاب التاريخ المدرسي الحالي الذي يدرس عشوائيا في المدارس اللبنانية. ويتم تغييب الحاضر والمستقبل، أي الهدف الأبعد والأسمى للأهداف التربوية والوطنية التي نص عليها تدريس منهاج موحد لمادة التاريخ.

 

ويستخدم كتاب التاريخ المدرسي وسيلة ايديولوجية أساسية في المدارس الطائفية لنشر معرفة طائفية مشوهة تضمن ولاء التلميذ لزعيم الطائفة على حساب الولاء للوطن الواحد والموحد من خلال نظام تعليمي غير مراقب ومتفلت من كل الضوابط التربوية والوطنية. وتستخدم معظم المدارس الطائفية الكتاب المدرسي وسيلة لتمرير إيديولوجية الجماعة الموحدة والمتماسكة في مواجهة جماعة أخرى. ولا يجد مؤلف كتاب التاريخ المدرسي حرجا في تشويه الوقائع التاريخية المنشورة في المصادر التاريخية وانتقاء ما يخدم زعماء الطائفة وتضخيم دورها في تاريخ لبنان.

 

الأزمة المستمرة والحلول العلمية

دلت أزمة كتاب التاريخ المدرسي الموحد في لبنان والمستمرة منذ العام 2001 حتى الآن على أن تعليم مادة التاريخ في المدارس اللبنانية مسألة سياسية في غاية الخطورة والأهمية. فرغم منهاج التاريخ الموحد وصلاحية المادة التعليمية، فان أي خلاف نظري أو إيديولوجي حول كلمة، أو صورة، أو حدث تاريخي،أو تأويل، أو تفسير يعرّض المقرر برمته إلى الإلغاء وإلى تعليق العمل به، أو تجميد طباعة الكتاب أو سحبه من المدارس وحذف ساعات التاريخ من الجدول الأسبوعي باعتبارها مادة خلافية.وهذا ما حصل فعلا خلال العام الدراسي 2001 – 2002 حين صدر قرار وزاري بالتوقف عن تعليم مادة التاريخ في مدارس الجمهورية اللبنانية حتى إشعار آخر. وذلك يتطلب بعض الحلول العلمية لمشكلة كتاب التاريخ المدرسي الموحد انطلاقا من هواجس وطنية وتربوية في آن واحد.

 

أ- كتاب التاريخ المدرسي عمل معرفي وتربوي وليس شعارات سياسية

 ليس من شك في أن المعرفة التاريخية التي يتعلمها الطالب في المدارس اللبنانية ذات صلة وثيقة بما نشره المؤرخون اللبنانيون الذين تتفاوت أبحاثهم بصور واضحة من الأكاديمية العلمية الرصينة إلى المرويات الطائفية غير الموثّقة. وكانت، في معظمها،مرجعية غير صالحة،في غالب الأحيان، لبناء الذاكرة الجماعية اللبنانية على أسس علمية نقدية. فقد ابتعدت معظم البحوث التاريخية في لبنان عن أهدافها العلمية الأساسية في تقديم الوقائع التاريخية الموثّقة. فمؤلف كتاب التاريخ المدرسي لا ينشر نصا تاريخيا جديدا، بل يختار نصوصا منشورة ليستخرج منها نصا مطابقا للمنهج المقرر في مادة التاريخ. ولا يقوم بعمل المؤرخ الباحث عن الحقائق التاريخية من مصادرها الأصلية. وليس هاجسه تحليل نصوص تاريخية جديدة وموثقة بل البحث عن نصوص جاهزة ومنشورة تتلاءم مع حجم المادة التاريخية التي يحددها له النظام التعليمي. وبسبب طبيعة نظام الامتحانات التي تفترض الحفظ وعدم الخروج عن النص المكتوب يتحول الكتاب المدرسي عمليا إلى مصدر وحيد، ونص شبه مقدس للمعرفة التاريخية التي تمكن التلميذ من الحصول على علامات مرتفعة، عند الاكتفاء بحرفية النص.

وهناك قلة من المؤلفين في هذا المجال تتجاوز كتابات المؤرخين لتصل إلى المصادر التاريخية الأصلية. وكثيرا ما يكتفي مؤلف الكتاب المدرسي بتقديم المادة التاريخية المنشورة بأسلوب سهل يفهمه المتعلم،ويتلاءم مع عمره ومستواه الفكري.

 

والسبب في ذلك أن النص التاريخي المعتمد في كتاب التاريخ المدرسي يعتبر المادة المعرفية الوحيدة التي تتصرف حيالها السلطة التعليمية الرسمية في لبنان بصفتها المرجعية الوحيدة الصالحة للتقرير. ولها الحق الحصري في نشر الكتاب المدرسي إذا كان مطابقا للمنهاج المقرر أو منعه إذا لم يكن مستوفيا للشروط العلمية والتربوية المعتمدة. كما أنه يحدد مجموعة متكاملة من الأهداف والغايات التي رافقت إعداده ونشره. وهي تتضمن نوعية المؤلفين، وكيفية اختيار النصوص التاريخية، والقيم السياسية التي يروج لها. هذا بالإضافة إلى طرائق التدريس المعتمدة، ونظريات التعلم الملائمة، وقدرة المتعلم على استيعاب مضمون النص التاريخي، ونظام التقويم والامتحانات، وهامش الحركة المتاح للمعلم للخروج على حرفية النص المدون في الكتاب المدرسي وحقه في ممارسة قراءة نقدية لمضمونه، وحرية المؤسسة التعليمية في استخدام مصادر تاريخية معرفية إضافية إلى جانب كتاب التاريخ المدرسي الموحد،ومشاركة المتعلم في البحث التاريخي لتنمية شخصيته وحاسة النقد لديه.

 

ب - التفسير العقلاني لتوصية اتفاق الطائف: توحيد المنهاج أم الكتاب؟

بعد إصدار منهاج جديد لمادة التاريخ بدأ البحث عن كتاب مدرسي جديد يعبر فعلا عن مضمونه. فالكتاب المدرسي هو دليل المتعلم، ورفيقه من المدرسة إلى البيت. وتقع مسؤولية إعداده والتحقق من مستواه العلمي والتربوي والفني على كاهل المتخصصين الأكاديميين، والخبراء التربويين، والإدارة الرسمية المشرفة على شؤون التعليم في وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة. وهي مسؤولية كبيرة يتوقف عليها إعداد تلميذ جيد يكون مواطنا لبنانياً صالحا.

 

تجدر الإشارة إلى أن مواقف الدول، المتطورة منها والنامية، كانت متباينة من حيث النظرة إلى مفهوم توحيد كتاب التاريخ المدرسي. فمنها من أكدت على أن التوحيد يعني فرض كتاب واحد. وهو تدبير معتمد لدى كثير من الدول العربية، والدول ذات الأنظمة التوتاليتارية. فكتاب التاريخ منوط بالدولة بصورة كاملة من حيث التأليف، والرقابة، والنشر، والتوزيع. والهدف من ذلك توجيه مادة التاريخ حسب الرغبات الإيديولوجية للدولة. وهي طريقة تؤمن للمتعلم كتابا بأسعار زهيدة، أو مجانا أحيانا. وهذا تدبير يتعارض مع مواد الدستور التي نصت على حرية التعليم ونشر الثقافة النقدية الحرة في لبنان. وقد يؤدي إلى نتائج إيجابية لدى الطالب المتلقي في سنيه الأولى. لكن تلك النتائج تتحول سلبية بالكامل عندما يكبر المتعلم ويكتشف بنفسه زيف الوقائع التاريخية التي تضمنها كتاب التاريخ المدرسي الموحد عند مقارنتها بالوثائق التاريخية من مصادرها الأصلية.

 

وهناك دول اعتمدت صيغة الحرية الموجهة أو المراقبة في مجال توحيد كتاب التاريخ المدرسي. وقد تبنى لبنان هذه الصيغة المعتمدة أصلا في فرنسا ودول أوروبية أخرى حيث تركت وزارة التربية الحرية للمؤلفين في إصدار سلاسل من كتب التاريخ المدرسي لجميع مراحل التعليم، وللمدارس حرية اختيار أي من تلك السلاسل التي تخضع جميعها لرقابة شديدة في كل مراحل التأليف، والنشر، ولجان المراقبة لضمان احترام المنهاج المقرر ولجان التفتيش والإرشاد لضمان سلامة التعليم وجودته. وهذه صيغة جيدة لتوحيد كتاب التاريخ المدرسي لأنها تضع مسؤولية التأليف والنشر على كاهل دور النشر التي تجتذب طاقات علمية متخصصة، ولديها إمكانات اقتصادية كبيرة. وقد تنافس مؤلفو سلاسل كتب التاريخ المدرسي بكفاءة عالية، وتحت إشراف وزارة التربية،على تقديم كتاب مدرسي متميز، يتضمن مادة تاريخية علمية موثقة،  بأسلوب تربوي جيد، يساهم في إعداد مواطن حر وفق أرقى المناهج التربوية المتطورة.

 

تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين المنهاج الموحد والكتاب الموحد. فتوحيد منهاج مادة التاريخ لا يعني توحيد كتاب التاريخ المدرسي. فلم يسبق لوزارة التربية في لبنان أن فرضت كتابا واحدا وموحدا على جميع المدارس العاملة على الأراضي اللبنانية، الرسمي منعها والخاصة. وتوحيد الكتاب المدرسي بصورة قسرية أمر جديد في غاية الخطورة على الثقافة اللبنانية، وعلى حرية التعليم في لبنان.

 

ولم يسبق للوثائق القانونية اللبنانية التي تحكم القطاع التربوي أن استخدمت عبارة "توحيد كتاب التاريخ" أو "كتاب التاريخ الموحد قبل صدور "وثيقة الطائف". وهي الوثيقة الأساسية لكل أنواع السلوك السياسي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي للحكومات التي توالت منذ صدور الوثيقة عام 1989 حتى الآن.

 

 لكن ما ورد فيها حول توحيد كتاب التاريخ المدرسي بقي ضبابيا. فمنهاج مادة التاريخ واحد وموحد منذ زمن بعيد لأنه يطول مسألة تربوية، وعلمية، ووطنية قابلة للتحقيق، ولا خلاف على مضمونها. أما فرض كتاب تاريخ مدرس واحد على جميع المدارس اللبنانية فمسالة سياسية من الطراز الأولى، وصعبة التحقيق في الظروف الراهنة. وهي لا تؤدي غايتها المرجوة في الانصهار الوطني بل يمكن أن تقود إلى نتائج عكسية تماما بسبب عجز وزارة التربية عن مراقبة عملية التأليف، والنشر، والتعليم، وإعداد الأساتذة، وفرض الكتاب على المدارس الخاصة الأجنبية وغيرها.

 

ليس من شك في أن التوصية بتوحيد الكتاب المدرسي لم تكن تهدف إلى تجاوز حرية الفكر وتعددية الرأي في لبنان. فالتوحيد لا يطاول حرفية المضمون ولا حتى حرفية الموضوعات المعالجة بل المسلمات الأساسية التي تراها وزارة التربية ضرورية لبناء المواطنة السليمة. على أن تترك الحرية للمؤسسات التعليمية في اختيار الكتاب الذي تريد من اجل تطبيق المنهج المقرر. فيتحقق بذلك جوهر المنهج الموحد من خلال الموافقة المسبقة لوزارة التربية على الكتاب المدرسي والتأكد من مدى صلاحيته للاستخدام وفق المنهاج الموحد، ومستوى الصف المحدد في برنامج التدريس. ولوزارة التربية الحق في تشكيل لجان أكاديمية لمراقبة عملية إعداد وتأليف ونشر الكتب المدرسية، إلى جانب لجان التفتيش والإرشاد التربوي. ورغم غياب شرط الإجماع لتحقيق توحيد كتاب التاريخ في النصوص الرسمية، إلا أن المناخ التوفيقي الذي لف معظم بنود وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، يشير إلى ضرورة الإجماع في هذا المجال.

 

لكن السؤال الأساسي هنا حول إمكان توافر الإجماع لتحقيق توحيد الكتاب المدرسي. وشرط الإجماع في الحالة اللبنانية ضروري لأنه يشكل درعا منيعا يحمي عملية التوحيد الوطني ويضمن استمرار العمل في الكتاب الموحد دون إشكالات.

 

وإذا كان بعض الباحثين يشير إلى المخاطر الناجمة عن غياب كتاب التاريخ الموحد فإن فرض الكتاب بصورة قسرية يمكن أن يقود إلى نتائج أكثر سوءا. فغيابه قد يؤدي إلى عدم المساواة بين المتعلمين في الوصول إلى المعرفة التاريخية بسبب تعدد أنماط التنشئة التي تقود إلى ضعف المواطنة وتفككها إلى ولاءات طائفية ومذهبية متناقضة ومتناحرة أحيانا. إلا أن توحيد كتاب التاريخ المدرسي يتطلب وجود دولة مركزية قوية. وهو يحتاج إلى قرار مركزي لا يخلو من القمع لفرض نظام تربوي يتناقض مع طبيعة التربية السائدة في لبنان وفي العالم المتطور. وهي التربية التي تشدد على التغيير بالوسائل الديموقراطية، ومنع استخدام أي كتاب آخر قبل تمريره على أجهزة رقابة المطبوعات، وقطع الطريق على وصول الأفكار الجديدة للمتعلمين. فتتحكم السلطة المركزية بقواعد المعرفة التي تنقل إلى المتعلمين لضمان اتساقها مع إيديولوجيا الدولة.

 

لكن فرض كتاب تاريخ مدرسي موحد في لبنان اليوم يتناقض مع طبيعة النظام التربوي اللبناني وخطة النهوض التربوي لعام 1994 من جهة، ويتجاوز قدرة الإدارة التربوية على التنفيذ من جهة ثانية. إذ يفترض قرار الفرض وجود إدارة تربوية مركزية تتحكم بحركة كل عناصر النظام التربوي في لبنان. لكن الغاية المتوخاة من توحيد الكتاب المدرسي على خلفية الإجماع أو الانصهار الوطني لا تهدف بأي شكل من الأشكال إلى دمج الطلبة اللبنانيين في بوتقة إيديولوجية واحدة تشكل العمود الفقري للمواطنة السليمة التي يجمع عليها اللبنانيون. علما أن التوحيد القسري هو إحدى الآليات الشرعية لحماية الخلافات السياسية التي تضمن تسلط القوى السياسية الحاكمة منذ قرون طويلة، والمحافظة على التناقضات القائمة لمصلحة زعماء الطوائف.

 

ج – موجبات الرقابة العلمية والتربوية على نصوص كتاب التاريخ المدرسي الموحد

تتطلب كتابة التاريخ المدرسي الموحد وجود إرادة سياسية قوية لاستخدام مادة التاريخ

في نشر معرفة تاريخية عن لبنان وتطور مكوناته البشرية والمادية وتحولاته الحضارية عبر العصور،وتدريس بعض المعارف التاريخية في المؤسسات التعليمية اللبنانية بهدف التنشئة الوطنية السليمة. ولا يكفي إدراج مادة التاريخ في المنهج الدراسي وتعيين أهداف تنشئة مواطنية سليمة لها لكي نقرر بثقة بأن الدولة اللبنانية تريد فعلا تدريس تاريخ يؤسس للتكوين الوطني، ولروح المواطنة، ولحس الانتماء ونفخ شعور الفخر والكرامة في نفوس المتعلمين. كما أن تدريس مادة التاريخ وحدها لا يقدم الدليل الكافي على رغبة الدولة في بناء تربية وطنية سليمة.

 

لكن الدولة التي تريد فعلا تعميم ثقافة تاريخية موحدة بين أبنائها توفر لهم أولا الوسائل اللازمة لذلك كالمتحف الوطني، والمتاحف المتخصصة، والمتاحف الحرفية والنصب التذكارية، وتماثيل القادة في الساحات العامة، ومراكز الأرشيف العام، والمكتبات العامة، والمختبرات الجيولوجية والبيولوجية والأنتروبولوجية، وغيرها. ويؤكد كتاب التاريخ المدرسي الموحد على منحى إيديولوجي يعتبر المدرسة المصدر الوحيد للمعرفة والمكان الوحيد للتعلم، وان عمليات التنشئة الأولية تتم في المدرسة وعبرها، ولا يمكن أن تتم إلا بواسطتها. وذلك يتوقف على أن تحضر المدرسة نفسها لتطبيق كتاب التاريخ المدرسي الموحد دون أن تجهل أو تتجاهل ما يجري خارج أسوارها. وعليها أن تأخذ في الاعتبار هواجس المسؤولين التربويين من خطر انحراف الكتاب المدرسي عن القيم التي تروج لها السلطة المركزية والتي تروج لفرض كتاب موحد ورفض أي كتاب آخر لا يتضمن وجهة النظر التوافقية للدولة اللبنانية.

الرهان على توحيد المنهاج وليس فرض كتاب تاريخ مدرسي موحد

 

راهن أنصار فرض كتاب موحد لتدريس مادة التاريخ في جميع المدارس اللبنانية، الرسمية منها والخاصة، على صيغة غير علمية تناقض مواد الدستور اللبناني، وتتعارض مع تاريخ التعليم الذي تميز به لبنان في مختلف الحقب التاريخية. فالكتاب المفروض بإرادة فوقية يسيء إلى المتعلم، والأساتذة، والعملية التربوية بكامل إبعادها. ولا يحقق أيا من الأهداف التي تتوخاها من وزارة التربية الوطنية. فالطالب اللبناني ليس معزولا عن وسائل الإعلام، ولا يمكن فصله عن مصادر المعرفة التاريخية الأخرى. كما انه محاط بالمواقف السياسة والطائفية اليومية التي يطلقها زعماء الكتل السياسية والتي تضج بكل أشكال العصبية، والتحريض الطائفي والمذهبي، والتمايز الاقتصادي والاجتماعي والمناطقي. فالمدرسة ليست معزولة عن البيئة المحيطة بها،كما أن التلميذ ليس معزولا عن بيئته. وليس بمقدور الكتاب المدرسي الموحد أن يقدم له وقائع تاريخية نهائية لا تقبل الشك، بل عليه أن يعلمه كيف يتعاطى مع الأحداث التاريخية بروح نقدية تنمي لديه حس المواطنة وكيفية حماية الوطن من مخاطر النزاعات المحلية والتدخلات الخارجية.

 

وقد فشلت تجربة فرض كتاب تاريخ مدرسي موحد من جانب وزارة التربية الوطنية في لبنان بسبب غلبة الحساسيات الطائفية والمذهبية التي ما زالت قوية جدا على الساحة اللبنانية. فكلمة واحدة أو جملة أو صورة أو خريطة سجالية كافية لإيقاف السلسلة بكاملها كما حصل في العام 2002. وليس بمقدور وزارة التربية فرض كتاب موحد للتاريخ لأن مبدأ الفرض يتناقض مع ما كفله الدستور اللبناني من حرية التعليم والتأليف والنشر. لكن من واجب وزارة التربية الوطنية تأليف لجنة أو أكثر لمراقبة مضمون أي كتاب مدرسي، وبشكل خاص كتاب التاريخ. وهي المسؤولة مباشرة عن فرض رقابة صارمة على جميع الكتب، المحلية والأجنبية، للتأكد من احترام المنهاج الموحد لمادة التاريخ في جميع الكتب التي تدرس بالمدارس اللبنانية. وبإمكان سلاسل الكتب المدرسية التي تصدرها دور النشر اللبنانية أن تتنافس على الجودة لتقديم أفضل الكتب العلمية. وبإمكان وزارة التربية وضع كتاب نموذجي لتدريس التاريخ يكون مثالا يحتذى، من حيث جمال الشكل، وعمق المضمون، ودقة وسائل الإيضاح، والخرائط التاريخية، والوثائق المصورة. وذلك يتطلب الاستعانة بلجان علمية متنوعة الاختصاصات التاريخية، وبأصحاب الكفاءة من المؤلفين الذين مارسوا تدريس المادة لسنوات طويلة، وبدور النشر من ذوي القدرات التقنية العالية لإخراج كتاب التاريخ المدرسي في لبنان على أفضل صورة، تضاهي ما تقوم به دور النشر الأوروبية وغيرها من الدور التي تعتمد كتبها لتدريس مادة التاريخ بالفرنسية أو الانكليزية في كثير من المدارس اللبنانية الخاصة، المحلية منها والأجنبية.

 

لكن الحلول ممكنة في حال قررت الدولة اللبنانية تنفيذ جميع بنود الطائف وبناء دولة عصرية عادلة تعمل على تجاوز الحساسيات الطائفية، وتغلب مصلحة لبنان على مصالح زعماء الطوائف. وإذا كان من الصعب اعتماد سلسلة واحدة من كتب التاريخ المدرسي لتفرض على جميع المدارس الرسمية والخاصة فإن من الضروري التمسك بالمنهاج الموحد مع السماح بعدد محدود من السلاسل التي تستوفي الشروط التربوية والعلمية والوطنية. على أن توضع مجموعات من تلك السلاسل في جميع المدارس، وبتصرف الأساتذة والطلبة وذلك بهدف الاستفادة من مضمون المادة التاريخية فيها. وبالتالي، فنجاح كتاب التاريخ المدرسي يتوقف على عوامل متعددة ومتداخل أبرزها صلابة القرار الرسمي من جانب وزارة التربية الوطنية صاحبة الحق الطبيعي في المراقبة والتأليف وإجازة النشر أو منعه. كما تتطلب مراعاة الأوضاع اللبنانية البالغة الحساسية بعد حرب طويلة ما زالت آثارها السلبية فاعلة بقوة في لبنان.

 

لذا لا بد من تجنب الحساسيات الطائفية والمذهبية والسياسية، والتركيز على التاريخ الجامع للشعب اللبناني في جميع مناطقه وطوائفه. وذلك يتطلب اعتماد الوثائق التاريخية الرصينة، وتجنب التفاصيل في معالجة الأحداث الدموية التي شهدتها بعض المناطق والطوائف اللبنانية، وإبراز دور لبنان في محيطه العربي وعلى المستوى العالمي. كما يتطلب الإعداد التربوي المعمق عبر دورات مكثفة لأفواج متلاحقة من المعلمين المتخصصين قبل أن توكل إليهم مهمة تدريس مادة التاريخ في المدارس. ودعوة وزارة التربية الوطنية إلى مراقبة جدية حول كيفية تدريس هذه المادة الخلافية على أسس علمية وتربوية ووطنية، وفي جميع مراحل التدريس. على أن تعمل الوزارة أيضا على تطوير مناهج تعليم مادة التاريخ بصورة مستمرة، ومعها طرق التعليم، والبرامج، وساعات التدريس، وإعداد المعلمين، والإرشاد التربوي، ونظام الامتحانات، وغيرها. وللتاريخ المحلي أبعاد إقليمية ودولية. ويعرف مؤلف كتاب التاريخ المدرسي جيدا أن ما يتعمد تجنبه أو تجاهله أو التعتيم عليه سوف تكشفه الوسائل الحديثة لنشر المعرفة.الأمر الذي سيقود حتما إلى فقدان الثقة بالكتاب المدرسي الموحد.