في ردّ على ردّ جريصاتي

المسألة ليست مفاضلة بين الـ 1559 والدستور بل بينه وبين المعاهدة الأولى

بقلم مروان صقر - محام واستاذ محاضر في جامعة القديس يوسف كلية العلوم الاقتصادية

تعليقاً على الرد الوارد من عضو المجلس الدستوري سليم جريصاتي والذي نشر في عدد "النهار" تاريخ 23/3/2006 على الدراسة المنشورة في عدد اليوم السابق للمحامي مروان صقر باسم حزب الكتلة الوطنية، رد المحامي صقر أمس على الرد بالآتي:

"لا بد بداية من التوجه بالشكر إلى الصديق الأستاذ جريصاتي على الاطراء الشخصي الذي خصني به في مطلع رده، وان أنوه مجدداً بالمستوى العلمي الذي اتسم به هذا الرد كما دراسته الأساسية المنشورة في عدد "النهار" تاريخ 15/3/2006. وهذا الأمر غير مستغرب نظراً الى ما أعرفه في الأستاذ جريصاتي من صفات شخصية وعلمية رفيعة منذ كنت طالبا في معهد الحقوق.  وبالعودة إلى ما تضمنه رد الأستاذ جريصاتي على الدراسة، يهمني أن أوضح ما يأتي:

1 - لا بد من التذكير مجدداً بأن المسألة المطروحة للنقاش ليست مسألة مفاضلة بين قرار مجلس الأمن 1559 (2004) بمعزل عن غيره من النصوص  الملازمة له، والقانون الدستوري اللبناني رقم 585/2004، ليصح القول "ان الصفة الدستورية لميثاق الأمم المتحدة لا تنسحب على القرارات المتخذة من مختلف تنظيمات الأمم المتحدة لأن تلك القرارات لا تدخل في الكتلة الدستورية..."، لأن القرار 1559 (2004) لا يمكن قراءة مفاعيله القانونية إلاّ في ضوء المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على ما حرفيته:  "يتعهد أعضاء الأمم المتحدة قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق". ونص المادة 25 المذكورة يدخل بدون أدنى شك في صلب الكتلة الدستورية bloc de constitutionnalité عملاً بالفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني. وغني عن القول أن ميثاق الأمم المتحدة هو معاهدة دولية بكل ما للكلمة من معنى، لا بل إنه يشكل، إذا جاز التعبير، "المعاهدة الأولى" في العلاقات الدولية منذ منتصف القرن الماضي وهو بالتالي يسمو على القواعد الداخلية اللبنانية بما فيها الدستورية (وليس فقط القوانين العادية)، وفقاً للفقه والاجتهاد الدوليين اللذين أشرنا إليهما باستفاضة في دراستنا المار ذكرها التي لم تتفاد اطلاقاً هذا الموضوع على ما جاء في رد الأستاذ جريصاتي.  

كما أن ذهاب المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبنانية في الاتجاه ذاته للمادة 55 من الدستور الفرنسي، لا يغيّر شيئاً في هذه النتيجة القانونية، لأن قانون الأصول المدنية هو قانون عادي loi ordinaire كما أشار إلى ذلك الأستاذ جريصاتي وليس نصاً دستورياً، ولا يعلو على المعاهدة الدولية المتمثلة هنا بميثاق الأمم المتحدة.

من هنا تأتي أولوية تطبيق القرار 1559 (2004) وتنفيذه على القانون رقم 585/2004 لأن هذا الموجب مستمد من أحكام المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة التي لا يمكن فصل القرار 1559 (2004) عنها.

2 - من جهة أخرى، أوضحت الدراسة أن عدم امكان إبطال قرارات مجلس الأمن (وقواعد القانون الدولي عموما) للأحكام الدستورية المخالفة لها مباشرة، لا يعني في المقابل اضفاء شرعية على هذه الأحكام الدستورية من منظور القانون الدولي. وتُعد مخالفة القانون 585/2004 للقرار 1559 (2004) نكولاً بالتعهد الوارد في المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة الذي تبناه لبنان، أي مخالفة لقواعد الشرعية الدولية ومصدراً لمسؤولية لبنان تجاهها. وفي المناسبة فإن هذه المسؤولية تنطبق على كل الدول التي تخالف قرارات الشرعية الدولية وفي درجة اولى على اسرائيل، جراء عدم تنفيذها للقرارات ذات الصلة بالصراع العربي – الاسرائيلي ولمماطلتها في تنفيذ القرار 425 الامر الذي يشكل سندا قانونيا متينا للبنان من اجل مطالبتها بالتعويض امام المراجع القضائية المختصة. وان عدم تطرقنا الى ذلك في الدراسة لخروجه عن موضوعها المباشر لا يحمل اطلاقا اي معاني قد يكون رد الاستاذ جريصاتي اراد الغمز من قناتها!...   

3 ـ في ما يخص التساؤل الذي يطرحه الأستاذ جريصاتي عن احتمال صدور قرار عن مجلس الأمن مستقبلا يُلزم الدول التي تستضيف الفلسطينيين أن توطّنهم لديها وعمّا يكون موقف لبنان عندها. ان الجواب عن ذلك بسيط وهو مستمد من المبدأ ذاته الذي خلصنا اليه في دراستنا، أي سمو المعاهدات الدولية على ما عداها، الأمر الذي يحول دون احتمال صدور مثل هذا القرار، باعتبار أنه سيكون مخالفاً لعدد من عهود الامم المتحدة ومواثيقها ذاتها التي ترفع حق العودة للشعب الفلسطيني إلى مصاف القواعد الآمرة في القانون الدولي العام règles d'ordre public international. وهذه العهود والمواثيق هي:

- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 10/12/1948 (أي قبل يوم واحد من صدور القرار 194) التي تكرس المادة 13 منه حق كل إنسان في العودة إلى وطنه وعدم ابعاده منه.

- اتفاق جنيف الرابع تاريخ 12/8/1949، الذي تحظر المادة 49 منه نقل المدنيين في وقت الحرب أو نفيهم أو إبعادهم من الأراضي المحتلة إلى اي دولة أخرى.

- الاتفاق الدولي للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري تاريخ 21/12/1956 الذي يؤكد في مادته الخامسة مضمون اتفاق جنيف والإعلان العالمي المذكورين أعلاه.

- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تاريخ 19/12/1966 الذي نصت المادة 12 منه على أحكام شبيهة لتلك التي نصت عليها المادة 13 من الإعلان.  ويُجمع فقهاء القانون الدولي العام على أن هذه النصوص الدولية تؤكد حق العودة للفلسطينيين وتمنع التوطين، وتكون الفقرة "ط" من مقدمة الدستور اللبناني متوافقة معها.

أنظر في هذا المعنى:

د. محمد المجذوب، "رفض التوطين وحق العودة وجهان لقضية واحدة"، دراسة منشورة في "الوسائل العملية لتطبيق الفقرة "ط" من الدستور اللبناني، مركز الدراسات الحقوقية للعالم العربي CEDROMA، كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة القديس يوسف – بيروت،

ص 32 وما يليها. وأيضاً:

د. صلاح الدين الدباغ، حق العودة، المرجع ذاته، ص 45 وما يليها.

-Eric CANAL-FORGUES, Le droit au retour des réfugiés palestiniens, éléments de droit international public, in «Les moyens de mise en œuvre du paragraphe "i" de la constitution libanaise prohibant l'implantation», op. cit., p. 53 et s.

-Monique CHEMILLIER-GENDREAU, Le retour des palestiniens en exil et le droit international, in Le droit au retour, ss. la direction de F. MARDAM-BEY et E. SANBAR, éd. SindbadActes Sud, Paris 2002, p. 285 et s.

ولا يمكن لأي قرار صادر عن مجلس الأمن أن يقول بخلاف هذه المواثيق الاممية التي تعلو على ما عداها عملاً بمبدأ سمو المعاهدات الدولية (وخصوصا مواثيق الامم المتحدة) على غيرها من القواعد القانونية والذي سبقت الإشارة إليه في دراستنا. ويستحيل تبعا لذلك لأي هيئة دولية اعتماد أي تفسير أم استثناء لمبدأ حق العودة للشعب الفلسطيني بوصفه قاعدة ثابتة في القانون الدولي:

Ainsi peut-on constater à l’examen de tous les arguments avancés sur cette question cruciale qu’aucune exception à la règle de droit, aucune interprétation ne fait entrave à l’application du droit au retour au bénéfice des Palestiniens en exil. (M. CHEMILLIER-GENDREAU, op. cit., p. 308).

وبالتالي فإن الاحتمال الذي يُطرح في هذا المجال يبقى نظرياً بحتا، علماً أنه، حتى في حال تصور حصوله، فإنه لا يغير شيئاً في الحل القانوني الذي توصلنا إليه، لأن القاعدة الدستورية اللبنانية هنا (الفقرة "ط" من مقدمة الدستور) قد جاءت متوافقة تماماً مع المواثيق والمعاهدات الدولية المشار إليها، وتكون بذلك محصنة ضد مفاعيل أي قاعدة مستقبلية أخرى معاكسة.

4 – أما في شأن وسيلة إصلاح خرق القانون 585/2004 للشرعية الدولية، فلم يكن ذلك موضوع الدراسة التي تقدمنا بها والتي هدفت حصراً إلى إبراز الأساس القانوني لعدم مشروعية القانون الآنف الذكر ومسؤولية لبنان من جراء ذلك. أما موضوع إصلاح المخالفة، فقد بينت الدراسة أنه من اختصاص مجلس النواب اللبناني وحده، واظن أنه بات واضحا للبنانيين جميعا أن هذا الأمر أصبح مطروحاً بإلحاح في إطار نقاش ومكان آخرين بتأكيد رئيس مجلس النواب نفسه  ("النهار" 23/3/2006). وأخيراً، أجدد الشكر والتقدير للأستاذ جريصاتي لإتاحته لنا فرصة هذا الحوار العلمي الهادئ والرصين أمام القراء، عسى أن يكون هذا الأسلوب في بحث الأمور الوطنية العامة الحساسة والدقيقة سائداً في سائر الأطر النقاشية الأخرى.