كنت مسؤولاً في حزب الله

كتاب "طريق النحل".. سيرة ذاتية لرامي علّيق

الشراع 2008/06/14

 

اذا نظرنا الى التاريخ القريب، الا نجد اننا في الجنوب، وفي لبنان كله، كنا وما زلنا وقوداً لكل الحروب الدائرة على ارضنا؟ ألم تضع الحروب والنـزاعات مجتمعنا في وضع غير مستقر، يتعرض اهله للاستغلال والتشرد والقتل، وكأن ذلك هو مصيرهم الموروث؟)).

 

((لماذا نضطر عند كل حرب ومأساة الى الاصطفاف وراء ساسة لا يجروننا الا الى مزيد من الانغلاق والعزلة، في وقت نتوق فيه الى الانفتاح والتواصل مع الآخر، كما عودنا على ذلك آباؤنا وأجدادنا؟ لماذا جرى احلال التطرف والانعزال اللذين غذتهما سياسات المحاور الاقليمية محل لغة الاعتدال والانفتاح الديني التي كانت سائدة، فبتنا نشعر بأننا لسنا سوى ضحايا عمليات التآمر علينا، المفبركة باتقان والمربوطة زوراً بتاريخنا الديني)).

 

((بعد الفرص والموارد التي اتيحت لنا للعلم والثقافة والابداع لماذا لا نستغل ذلك كله في سبيل تحقيق قدر اكبر من الرخاء الاجتماعي والاقتصادي؟ لماذا يلازمنا شعور بالانكفاء عن كوننا جزءاً لا يتجزأ من بنية هذا الوطن ومؤسساته على الرغم من توافر كم كبير من الطاقات البشرية الجديدة بيننا؟؟ ولماذا بقيت مقاليد امورنا بيد حفنة من الازلام الفاسدين الذين قدموا اسوأ النماذج في تمثيلنا في السلطة؟ ألم نكن نعاني، نحن الجنوبيين كغيرنا من اللبنانيين من سطوة الوجود السوري وطغيانه قبل الانسحاب الاخير؟

 

((ألم يكن وجود العمال السوريين بشكل غير منظم عبئاً يومياً على اليد العاملة اللبنانية يتردد صداه بين افراد اسرنا؟ لماذا نختار ان نصطف وراء هؤلاء الذين يجروننا الى المزيد من التطرف في مواقفهم عبر اطلاق شعارات رنانة تدغدغ عواطفنا؟ لماذا صرنا نتحرك وفق خطاب يحاكي لغة العصور البائدة، فيتم تكريس مقدسات ليست مقدسة، ويحل جو من الارهاب الفكري محل اجواء النقد الفعال)).

 

((هذه التساؤلات وغيرها الكثير طغت على احاديثنا التي امتدت لشهور، وما تزال، وقد اعادتني بالذاكرة الى لحظات مؤثرة مررت بها ابان الانخراط في العمل الحزبي)).

 

((لا انسى لحظة التقيت احد الاصدقاء المسؤولين في حزب الله، منذ اكثر من عقد خلا، بعد عودته من دمشق ساخطاً، اذ قال بأسى: ((وكأننا لم نوجد الا لنموت في الجنوب))، تعبيراً عن تأففه من طبيعية الدور الذي يقوم به الحزب في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي)).

 

((كذلك لا انسى حديث مسؤول آخر حينذاك عن ضرورة وضع سلاح الحزب في اطار مؤسساتي حزبي واضح، وعدم تركه تحت سيطرة افراد من العسكر يمكنهم التفرد بقرار استعماله)).

 

((ولا انسى كيف رفع مسؤول آخر صوته معترضاً على التحالف مع المسؤولين السوريين، الذين لا يؤمن جانبهم، ولا يتمتعون حتى بالحد الادنى من الاخلاقية والاحترام في التعامل مع الآخرين، ولا ينفكون ينهبون ثرواتنا، وغير ذلك مما يصب في الخانة نفسها)).

 

((كفانا ذوباناً في اولويات الآخرين ومصالحهم بعيداً عن اعتباراتنا الوطنية والاجتماعية، والتي لا يصح الا ان تأتي من كوننا امتداداً لبعضنا البعض)).

 

 دون ان نقرأ اسم صاحب هذا الكلام، او نعرف اسم الكتاب الذي ورد فيه، أو نعرف صفة مؤلفه السابقة، فإن ذهنك يذهب مباشرة الى كاتب او اعلامي او سياسي او حزبي ينتمي الى قوى 14 آذار/مارس كتيار المستقبل، او اللقاء الديموقراطي او القوات اللبنانية او حزب الكتائب.. ذلك ان ما قرأناه سوية في هذا المدخل من كتاب ((طريق النحل)) لمؤلفه رامي علّيق، هو لسان حال قوى انتفاضة الارز التي ثارت على الوصاية السورية على لبنان التي استمرت نحو 30 سنة التي ايدتها قوى 8 آذار/مارس بل واكتسبت هذا الرقم من تظاهرة الوفاء لهذه الوصاية، وكان من ضمنها عليق نفسه.

 

لكن،

الاهم في كل ما قرأناه هو قائله.. موقعه السابق، قناعاته التي جسدها في سيرة ذاتية ممتعة القراءة، بما يجعلك لا تترك الكتاب المؤلف من 200 صفحة من القطع المتوسط دون ان تكمل كل صفحاته التهاماً واعجاباً ودهشة بما تضمنه.

 

طريق النحل،

مؤلفه قيادي طلابي سابق في حزب الله، وصل الى مستوى الصف الاول والمسؤول الاول عن طلاب الحزب في الجامعة الاميركية في بيروت.

رامي علّيق من بلدة الخيام في قضاء مرجعيون في الجنوب، والده من بلدة يحمر في النبطية من اسرة تعمل في الزراعة، والده تخرج من المعهد التابع لوزارة الزراعة درس في معهد الهندسة الزراعية في جامعة دمشق، ارسلته وزارة الزراعة اللبنانية بعد تقديره العلمي الممتاز الى مصر ليحصل على تقدير ممتاز كإختصاصي في تنمية المجتمع.. اهتم ضمن اختصاصه عملياً بتربية النحل وتلقى مساعدة مهمة من زوجه في هذا الحقل.

 

اما والدته فقد ولدت في بلدة كفر تبنيت المحاذية ليحمر وهي ايضاً من اسرة ريفية، تزوجت وهي على وشك انهاء دراستها الثانوية، وعاشت مع بعلها بعد الزواج في بلدة مرجعيون المسيحية.

 

ابصر رامي النور في مرجعيون، لكنه كان في الرابعة من عمره حين هجرت عائلته البلدة المسيحية بسبب قربها من فلسطين حيث الاعتداءات اليومية للكيان الصهيوني على الجنوب وأهله.. فضلاً عن انفجار الحرب الاهلية في تلك الفترة مع ما صحبها من فرز سكاني بين المسلمين والمسحييين اولاً.. وبسبب هذه الحرب تنقلت عائلة رامي بين بلدات يحمر وكفرتبنيت والنبطية وزفتا، وتعددت المعارف والجيران مما لم يترك له ((صحبة طفولة)).

 

أول صدمة

اول صدمة تلقاها رامي في الطريق الى المدرسة عندما تعرض مع والده لحاجز لحركة فتح بين قريتي جباع حيث استقر لفترة وعين بوسوار، نتج عن تلاسن حصل بين الاب وعناصر الحاجز وتم اقتياده الى مركز مجاور ليعود ويعلم الجميع ان الوالد اشبع ضرباً من المسلحين الفلسطينيين.

 

أول درس

درس رامي في صيدا وتلقى دروساً دينية خلال دراسته الحديثة وتعلم أداء الصلاة والشعائر الدينية كما يقول على الطريقة ((السنية)) ولما كان والده يصلي مسدل اليدين سأله لماذا لا يضم يداً فوق الاخرى كما علمته مدرّسته التي كانت ترتدي غطاء الرأس في مدرسة صيدا، اعطاه والده اول درس في عدم التفرقة: ليس مهماً كيف تصلي لأن الله يقبل الصلاة بأي من الطريقتين.

 

الاجتياح والارز والحلوى

خلال اقامة اسرة رامي في عين بوسوار حصل الاجتياح الصهيوني عام 1982 وشعر الطفل والسكان يتفرجون على الطائرات الصهيونية تقصف القرى ومراكز المنظمات الفلسطينية ان الجميع كان يتوق الى رؤية المسلحين الفلسطينيين يرحلون عنهم بعد ان عاثوا في الارض فساداً عبر الاعتداء على حريات الناس، وفرض الاتاوات واحتلال البيوت، واقامة الحواجز المسلحة على الطرقات، والتجول بالسيارات العسكرية للمسلحين واطلاقهم الرصاص بين الناس، ناهيك عن التحكم بمقدرات البلد وسلب استقلاله وثروته، وهذا ما يفسر حسبما كتب رامي علّيق ربما مشهد بعض الاهالي ينثرون الارز على الدبابات الاسرائيلية لدى مرورها بمحاذاة بيوتهم.. وكان الاطفال يتقدمون باتجاه هذه الدبابات ليحصلوا على قطع اللبان والحلوى من الجنود الاسرائيليين.

 

امل ثم حزب الله

بعد مرور سنة على الاجتياح عادت اسرة رامي الى النبطية ليستأجر والده مسكناً في حارة المسيحيين القريبة من المدرسة، فكان معظم اصدقائه من اهل الحارة، عام 1983 كانت حركة امل تسلمت زمام المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي بعد افول نجم المنظمات اليسارية اثر اخراج المنظمات الفلسطينية، وفي الفترة نفسها ظهر حزب الله الى العلن للمرة الاولى في تظاهرات جرت في بلدة جبشيت وفي ضاحية بيروت الجنوبية.

 

يقول رامي:

شاهدت صور التظاهرات في الصحف ومنها صورة لإمرأة تغطي نفسها بالكامل بعباءة سوداء، علقت الصورة في ذهني لأنني لم اكن قد شاهدت شيئاً مماثلاً من قبل، وكان لافتاً في تلك التظاهرات وجود نساء بالشادور الاسود، وشعارات تشيد بالثورة الاسلامية في ايران، الامر الذي اعتبره معظم الناس ظاهرة غريبة عن مجتمعنا اللبناني في الجنوب في تلك الفترة، كما فهمت من كلام جيراننا وبعض الاساتذة في المدرسة، وبعض رفاقي الذين رددوا ما تناقله اهاليهم.

 

التفرقة

يكتب رامي ((اثناء اللعب مع اولاد اسر شيعية مقربة من حركة امل، كنت اسمع عبارات تفيد بأن المسيحيين عملاء للاسرائيليين، كان قسم من هؤلاء الاولاد رفاق صفي في المدرسة)).

 

 ((وكان لهذا الجو الاعلامي المشحون بالتوتر وأعمال العنف والقتل والتصفية الجسدية للمتعاملين مع اسرائيل، والتي تناقلتها الالسن، ومن تظاهرات ومظاهر مسلحة لعناصر حركة امل، ان دفع بنا الى اظهار حماسة لما تمثله الحركة على الساحة الشيعية، ادت بنا عام 1984 الى اعتبار ادارة المدرسة الانجيلية واساتذتها المسيحيين عملاء لاسرائيل)).

 

انعكست هذه الثقافة البدائية على حماس دفع رامي ورفاقه عند نهاية العام الدراسي الى رشق زجاج المدرسة بالحجارة لتهشيمه وارعاب من كان داخلها، والهرب بعد ذلك لتقييم ما حدث ثم لحضور شريط عن المستضعفين يتناول حياة الامام الخميني.

 

كذبة

يعترف رامي بعد ان جاء مدير المدرسة منذر انطوان الى والده يشكو له ما فعله غير مصدق، انه كذب وانه ظل يعاني عقدة الذنب تجاه هذه الكذبة حتى الآن، ومع هذا بعد ان علم والدي بالامر وضربني صممت على تمسكي بموقفي يومها كان والداي شديدي الاعتدال، وكنت انا مشدوداً الى ما يجري من اعمال عسكرية وعنف وأصوات دوي الانفجارات والمدافع وتشنجات كلامية وفعلية ومفردات لغة الحرب والعنف، ومع هذا حافظ رامي على صداقاته مع المسيحيين.. إلا ان مظاهر التزامه الديني في الملبس وطريقة التعاطي مع الآخرين والتحدث معهم دفعت إدارة المدرسة إلى طرده بعد انتهاء امتحانات آخر السنة.

 

بلغ رامي 13 عاماً من عمره فبدأ يقضي أوقاتاً متزايدة في الجامع تأثر ببعض الاصدقاء دون أن يمنعه هذا من المحافظة على صداقته مع أهل الحارة من المسيحيين. وبدأ نفوره من ممارسات حركة أمل وتجاوزات عناصرها ومنها إطلاق أحدهم النار على شاب آخر على مسبح الغازية حيث كان رامي مع أهله.

بدأ رامي التشدد داخل منـزله بمنع المسكرات والاستماع إلى الموسيقى والاغاني بحضوره، وضرب شقيقته ابنة العاشرة بسبب ارتدائها سروالاً من ((الجينـز)).

 

تقليد الخميني

باكراً قلد رامي عليق الإمام الخميني كمبدأ شيعي في تطبيق نظرية ولاية الفقيه وكان يراجع المشايخ في أصغر التفاصيل وأدقها.

تعلم رامي في المسجد ان أهل الكتاب، مسيحيين ويهوداً، هم نجسون ويجب تطهير الجسد حالة ملامسة أحدهم.. ومع استمراره في اللعب مع زملاء مسيحيين فإنه طلب منهم مرة أن يبعدوا عنه بعد ان لمسه أحدهم وان يلعبا معه بلا ملامسة.

إلى هذا تلقى رامي في المسجد ان أموال المسيحيين واليهود وأعراضهم مباحة لنا لكونهم من غير المسلمين، فغزا أشجار الاكي دنيا لأنها في أرض المسيحيين.

 

زواج المتعة

اقترب رامي من صبايا مسيحيات بقصد زواج المتعة.. مع أي واحدة منهن تنفيساً عن كبت جنسي، ويقول ان ما تعلمه من الجامع ان زواج المتعة هو زواج مؤقت تحدد مدته قبل إجرائه.. وان المتعة حلال للرجل المسلم مع الفتيات من أهل الكتاب ومع المسلمات الأرامل أو المطلقات.. لكن هامش زواج المتعة أخذ بالاتساع شيئاً فشيئاً من أجل إشباع غريزة الجنس عند الشبان والفتيات كما شاهده رامي من تصرفات العديد من الشباب، وكان المشايخ يوسعون دائرة هذا الزواج حتى طال الفتيات المسلمات من غير الأرامل أو المطلقات أو أهل الكتاب.

 

تعلم رامي أيضاً من المشايخ ان تغليب المصلحة السياسية على القيم الاخلاقية ممكن في إطار ولاية الحاكم الشرعي.. وشرط الحصول على ((فتوى)) أو إجازة من هؤلاء المشايخ ومنهم مسؤولون في الحزب.

 

عاشوراء

كانت عاشوراء في رأي رامي كما مارسها مشايخ حزب الله أساساً لاعتقاد لدى الشيعة بابتعاد المسلمين السنة عن طريق الاسلام الصحيح. فكان يتم شتم الخليفتين الراشدين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب لسلبهما الخلافة من الامام علي كما يروج مشايخ الحزب.

 

الالتزام بحزب الله

في مسجد حي السراي في النبطية تعرف رامي إلى مسؤول التعبئة الطلابية لحزب الله، الذي كان بدأ ينتشر في الجنوب نتيجة عملياته العسكرية ضد الاحتلال الصهيوني، ونشر مبادىء الحزب التي يقوم بها مشايخه فتم تكريس رامي مسؤول التعبئة في مدرسته بالرغم من صغر سنه (14 سنة) علماً بأن طموحه كان الالتحاق بمجموعة التعبئة العسكرية.

 

 ((أول الغيث)) تهديد مدير المدرسة

في مدرسة حبوش الدولية كان أول نشاط علني حزبي لرامي ضد مدير المدرسة الذي رفض الموافقة على معرض صور للخميني في داخلها. فأنبه رامي لأن زوجه تلبس الجينـز وهي غير محتشمة، طرد المدير رامي فلجأ إلى الحزب الذي وعده بإعادته، فكان تهديد للمدير بالسلاح دفعه إلى إقفال المدرسة لثلاثة أيام، ثم لجأ إلى حركة أمل لإنقاذه من تهديدات حزب الله، ونتج عن هذا اعتقال أمل لرامي ووالده، الذي عاد إلى منـزله بعد فترة تاركاً رامي في سجن الحركة في النبطية.

ارتفعت أسهم رامي في الحزب حتى حصل على وعد من رئيس مجلس شورى الجنوب السيد عباس الموسوي بأن يتكفل الحزب بمصاريفه حتى إنهاء دراسته الجامعية.

 

كاد رامي أن يصبح شيخاً لولا رغبته بالدراسة العلمية وحاجة الحزب إلى متعلمين وليس إلى مشايخ..

يكشف رامي عليق في طريق النحل ان حزب الله الذي كان يدافع عن المنظمات الفلسطينية أثناء حرب المخيمات مع أمل، ويسرب لهم الأسلحة إلى داخل مخيمات الضاحية كان يرسل مقاتليه للقتال إلى جانب حركة أمل في الجنوب ضد الفلسطينيين أنفسهم.

 

ويكشف أيضاً مشاهدته لجموع في الحزب تتخذ من جامع السراي في النبطية مركزاً للانطلاق للقتال ضد الجيش العراقي خلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988).

 

ويكشف رامي كيف كان الحزب يقفل جامع التعمير في النبطية في وجه المصلين كي يجروا دورات على السلاح داخله.

وكشف رامي ارتفاع شعبيته في الحزب بسبب إبلائه بلاء حسناً في مقاتلة عناصر أمل أثناء المواجهات بينها وبين حزب الله حتى أصبح بالنسبة للحزب رامبو خاصة بعد اعتقاله في منـزله في النبطية ولم يكن تجاوز الـ15 من عمره..

في معتقله تلقى رامي توكيداً من مدير عام مؤسسة الشهيد المعتقل معه أيضاً بالتكفل بمصاريفه حتى إنهاء دراسته الجامعية ليصبح لديه وعدان منفصلان من الحزب ومؤسساته.

 

ويكشف رامي أخيراً انه لم يكن يعرف ان شقيقه وداخل منـزل الأهل كان يعمل متخفياً في حزب الله دون أن يكتشف أمره.. لكن هذا الأمر لم يمر دون آثار على الأهل بعد اعتقال الشقيق ونسف سيارة الوالد وإلقاء قنابل صوتية على شرفة المنـزل العائلي ثم حصول تطورات اجتماعية وثقافية دفعت الأم والشقيقة إلى وضع غطاء الرأس واتجاه الوالد نحو التدين.

 

الأهم،

ان حرص رامي وصموده أمام التعذيب في سجن أمل كان طريق الاعجاب الشديد به في الحزب حتى فتح له باب العمل في الجهاز الأمني بعيداً عن الجهاز العسكري وبشكل متخف ليحفظ له حياته ودوره.

 

الضاحية الجنوبية والجامعة الأميركية

بعد اشتداد المعارك بين حزب الله وحركة أمل طلب الحزب من رامي التوجه إلى الضاحية الجنوبية لتبدأ فيها مرحلة جديدة في حياته.. مع بدء المعارك في إقليم التفاح ضد حركة أمل التي شارك فيها رامي وأصيب في رأسه ومع هذا ورغم تغيبه عن المدرسة امتحن لصف البكالوريا وكان الناجح الوحيد على مدرسته.

ويروي رامي انه أثناء تواجده في قرية جب جنين في زيارة لعمه طلب من ابنة الجيران وكانت تجاوزت التاسعة من عمرها أن يعقد معها زواج متعة كي يتمكن من مصافحتها وملامستها.

 

نصرالله يرفض وعد الموسوي

بعد نجاحه في البكالوريا توجه رامي لدراسة الزراعة في الجامعة الأميركية سنة 1991 وواجهته عقبة القسط المرتفع فيها فطلب تنفيذ وعد أمين مجلس شورى الجنوب الذي أصبح أميناً عاماً للحزب السيد عباس الموسوي، لكن إسرائيل قتلت الموسوي وتولى حسن نصرالله الامانة العامة فرفض تنفيذ وعد الموسوي لأنه على حد قوله كان وعداً شخصياً وليس قراراً حزبياً، بما جعله يكتشف ان هناك خلافات عميقة بين السيدين نصرالله والموسوي.

تذكر وعد رئيس مؤسسة الشهيد فذهب إليه فكان الرد شبيهاً بالآخر فتحمل أهل رامي نفقات دراسته في الجامعة الأميركية.

 

إيران – سوريا

يقول رامي عليق تحت عنوان شهداء في كل مكان في الصفحة 51: ((انتهت الحرب بين أمل وحزب الله بترتيبات سياسية جاء على أثرها وزير خارجية إيران علي أكبر ولايتي ليقرأ العزاء على أرواح ضحايا الحزب والحركة)).

 

((كان الحديث يدور داخل الحزب حول ان الحرب التي حصلت ما هي إلا محاولة إيرانية للتأثير على الساحة اللبنانية بشكل مباشر من خلال حزب الله، من دون المرور بسوريا، مما دفع سوريا إلى استخدام أمل للوقوف في وجه هذه المحاولة)) لكن في النهاية تشكلت قناعة لدى إيران بأن دخول لبنان والتأثير الفاعل فيه لا يمكن أن يتم إلا من خلال البوابة السورية.

 

 رامي عليق يكشف: ضابط استخبارات ايراني قال لي: نحن نقول لنصرالله افعل هذا ولا تفعل ذاك التحق رامي عليق بالجامعة الاميركية – كلية الزراعة وشجع اخوته على الالتحاق بها، رغم العقبات المادية التي جرى تذليلها من خلال أمرين:

الأمر الاول هو اعتبار والدي رامي ان التعليم من اولى اولوياتهما.

الأمر الثاني هو حصول شقيقته رلى على منحة دراسية من مؤسسة الحريري (وهي المؤسسة التي انشأها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومكنت عشرات آلاف الطلاب من كل مناطق وطوائف لبنان من اكمال دراستهم الجامعية في ارقى جامعات العالم.. دون أي مقابل).

 

في الجامعة الاميركية تكونت لدى رامي قناعة بأن بيئة الجامعة فاسدة لكونها تشكل نموذجاً اميركياً للحياة ولوجود المنكرات ومن ضمنها قيام الشباب والصبايا بجلسات العشق الحميمة.. رغم انه كان ارتبط بعقد متعة مع فتاة اسمها فاطمة.

 

هنا يقول رامي:

((كنت ارفض ما كان يحدث في العلن في حرم الجامعة وأسعى وراءه في السر لطالما سألت نفسي فيما بعد، ولو بصمت: أي نفاق هذا، ومن أين أتى، وكيف دخل الى حياتنا ليصبح نمطاً؟

 

ممثل التعبئة التربوية

تم تعيين رامي ممثلاً للتعبئة التربوية للحزب في الجامعة الاميركية مكتشفاً  ان حزبه لا يعير اهتماماً كافياً لها كأن الامر ناتج عن شعور بالنقص لديهم تجاهها كونها اميركية.. ربما ساعد على ذلك اعلان الحرب على كل ما هو اميركي بعد وصف الإمام الخميني لأميركا بالشيطان الاكبر.

 

لتغيير هذه النظرة سعى رامي للقاء امين عام الحزب حسن نصرالله لكن الاخير كان مسافراً الى ايران فالتقى نائبه نعيم قاسم عارضاً مخططاً للتحكم بأهم المفاصل الرئيسية في الجامعة المتعلقة بالطلاب والاساتذة والادارة قائلاً له: استطيع ان اجعل الجامعة في قبضة يدنا.. شارحاً ضعف بنيتنا التنظيمية للتعبئة التربوية بسبب تفوق الاجهزة الامنية والعسكرية عليها.

 

كان رامي يسعى لإطلاق يده في الجامعة متحرراً من سيطرة الحزبيين المطلقة معتمداً رفاقاً قدماء، وكان اول امتحانين نجح فيهما وانهاهما.

 

1- منع اقفال نادي التراث العربي الذي كان محسوباً على الحزب.

 

2- دعوة السيد محمد حسين فضل الله الى محاضرة كانت ممنوعة سابقاً.. لكن هذه الدعوة الناجحة طبعت في ذهن كثيرين في الحزب ان رامي محسوباً على السيد محمد حسين فضل الله الذي بدأ الحزب يبتعد عنه شيئاً فشيئاً حتى وصل الأمر الى حد منع الصلاة خلفه، وطرد من يقلده من الحزب بعد حرمانه من كل المزايا المالية والخدماتية والصحية والتربوية.. كان السيد فضل الله حريصاً على الإستقلالية بخصوص العلاقة مع السلطات الايرانية.. على عكس الحزب.

 

التكليف الشرعي

تنظيم صفوف الحزب في الجامعة اعتمد التكليف الشرعي كإمتداد لولاية الفقيه الممثل بولي أمر المسلمين في ايران، في اعتقاد انها تستمد حجيتها من الله، الى درجة مصادرة هامش المناقشة والنقد في سبيل تنفيذ الاوامر بشكل صارم.

 

 الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

وأول مظاهره الغاء البيت المفتوح.. (Open House) وهو تقليد سنوي يسمح بزيارات متبادلة في يوم محدد بين الطلاب والطالبات.. حضر طلاب حزب الله الى (كير هول) ومنعوا بالقوة هذا النشاط رغم حضور 300 عنصر من قوى الامن الداخلي وأمن الجامعة.

 

انتشرت شعارات الحزب الدينية في الجامعة في المناسبات خاصة في عاشوراء ما دفع اذاعة ((مونت كارلو)) الى وصف حرم الجامعة بأنه متشح بالسواد.

سير الحزب دوريات لمنع جلوس الطلاب والطالبات بشكل حميم على المقاعد، ورشينا العشب بالمبيدات لحرقه لمنع الجلوس عليه. في وقت كان فيه شبابه وفتياته يسعين سراً الى الجنس والعاطفة.. كنا نعيش ازدواجية في معايير النضج لدينا كما قال رامي.

 

يقول رامي عليق ((رأى طلاب الحزب ان حرصي على مصالحهم كان في مقدمة أولوياتي. وكنت مستعداً لفعل ما يمنع تعرضهم لأي اذى وقد ترجم هذا افعالاً وتهديدات طالت عدداً من الاساتذة والاداريين عندما وقعت ايديهم على تجاوزات لأنظمة الجامعة قام بها طلاب الحزب)).

((اعتقاداً منا بأن الشيعة هم في تعرض مستمر لمؤامرة تهميشهم)) قمنا بمحاولات اختراق انظمة امتحانات الدخول وملفاتهم من اجل تمكين اكبر عدد ممكن من الطلاب من الشيعة من الانتساب الى الجامعة، وعندما انكشفت بعض تلك المحاولات طلبت بلغة لم تخل من الترهيب، الى الادرايين المسؤولين عن ملفات الالتحاق عدم اثارة هذا الموضوع فلم يفعلوا.

 

يتابع رامي عليق كتابته فيقول:

((من المهام التي اوكلت الي كإرث أسلافي الحزبيين، ولم يكن لي شرف السبق في ابتداعها، مهمة الطلب الى الاساتذة في نهاية كل فصل دراسي زيادة علامات طلاب الحزب، الذين كانوا بحاجة الى رفع معدلاتهم.. مضطراً الى تهديد الاساتذة لتحقيقها في بعض الاحيان)).

 

قمنا بتأمين خدمة التخابر الدولي وبيعها للطلاب عبر جهاز الهاتف النقال قبل اعتماد الهاتف الخلوي في لبنان.. واستطعنا التأثير بشكل كبير على قرارات اعطاء المنح الدراسية من قبل مكتب شؤون الطلاب، والتحكم بتوزيع عدد من الغرف في مباني السكن، وفيما عجزت النائبة بهية الحريري عن توفير غرفة لأحد الطلاب الجنوبيين نجحنا نحن في توفير هذه الغرفة.

 

((صندوق الحريري السري))

بلغت قوتنا داخل الجامعة حد تـزويد اداريين واساتذة لي بمعلومات لم تكن معروفة، ومنها صندوق الحريري السري لمساعدة الطلاب المحتاجين.

وأصبحت مرجعاً داخل الجامعة لحل خلافات الاساتذة الشيعة وكان التذرع في التدخل ان هناك محاولات لاقصاء الشيعة عن الساحة الجامعية.

 

 الاستقالة

برغم كل الانجازات التي حققها رامي عليق للحزب في الجامعة.. وانطلاقاً من حسابات شخصية ضيقة وادعاءات بأني محسوب على السيد فضل الله تارة، وبأنني لا اقوم بتنفيذ العديد من التكاليف الشرعية الموجهة اليّ من قبل جهاز التعبئة تارة اخرى، اوعز هؤلاء الى اعضاء جهازي شورى القرار والتنفيذ في الحزب، افتراءً بأنني لست من اتباع الخط الاصيل في الحزب، الخط النابع من التقيد الكامل بولاية الفقيه، عملوا على حبك الموضوع بشكل متواصل، مما ادى في النهاية الى نجاحهم في تحقيق هدفهم عن طريق فتح قنوات اتصال تنظيمية مع طلاب الحزب، في الجامعة دون علمي. وتسللاً وبسرقة الانجازات وإضافتها الى أرصدتهم لدى القياديين في الحزب بعد معرفتي بما كان يحصل قادني انفعالي، وبمرارة كبيرة الى تقديم استقالتي من العمل ضمن جهاز التعبئة منتصف عام 1994.. استقلت بعد ان نجحوا في مخطط الاحراج للإخراج، دون ان يسربوا خبر الاستقالة حتى لا يتأثر الوضع الحزبي والمؤيد لي وسط الجامعة.

 

 تساؤلات عابرة

اثر جو الجامعة المنفتح على منهج رامي لجهة التحفيز على الاختلاط بين اصحاب المشارب المختلفة، مع المحافظة على الالتـزام الديني متسائلاً عن جدوى هذا التعصب والانغلاق الديـني.

 

كانت هذه التساؤلات المقدمة الطبيعية لعمل ديموقراطي بين الطلاب بعيداً عن الحزبية والتعصب الديـني. ولإطلاق تحرك طلابي واسع مستغلين قرار الجامعة بزيادة على الاقساط السنوية.

 

بعد اعتقال احد الطلاب اثر خطبة ضد الزيادة دعوت الى الاضراب المفتوح وامهلت الادارة ساعة لاطلاق سراح الطالب.. استفحل الامر مما دعا الجامعة لتدخل قوى الامن.. ولم تفعل شيئاً فحضر العقيد جهاد عن الاستخبارات السورية ورفضت مخاطبته بحجة انشغالي فانسحب غاضباً مرسلاً مخبريه لإعتقالي، مما دفعني لاطلاق شعارات تلقفها الطلاب مرددة ضد أي تدخل سوري.

 

بعدها حضر مسؤول الامن في حزب الله وفيق صفا ومعه النائبان محمد برجاوي ونجاح واكيم طالبين مني وقف الاعتصام والتحرك والانسحاب منه.. بناء على تكليف شرعي صادر عن الامين العام حسن نصرالله، طالباً مني الاتصال به مع تعليمات بألا اعود إلا وأنت معي حتى لا يضع السوريون يدهم عليك.. أبلغته بعدم نيتي مخالفة التكليف الشرعي لكن من الخطأ الانسحاب لأن فيه انقلاباً غير اخلاقي على الطلاب المعتصمين من غير الحزبيين.

استمع إلي النائب برجاوي بشيء من التفهم، عاد واتصل بالسيد نصرالله شارحاً موقفي، ثم أخبرني في الخلاصة بأن الأمر يعود إليّ.

 

 سقوط تقديس التكليف الشرعي يقول رامي عليق بعد هذه الواقعة:

تعزز لدي تساؤل في الأيام التي تلت عن مغزى تقديس التكليف الشرعي إذا كان بصدد نتيجة عوامل سياسية أو اجتماعية غالباً ما ترتبط بمزاج من يصدره، كذلك ما الذي يمنع المشاركة في إصداره، أو إمكانية تغييره إذا تم إخضاعه للنقاش.. بما يمنع عنه صفة القدسية.

 

 استئثار

يقول رامي انعكست طريقة مقاربة أحداث الجامعة (التي استدعت تدخلات سياسية وأمنية لبنانية وسورية وأميركية) بشكل جلي على الكثير من المعالجات لقضايا طالبية تلت أحداث 10/10/1994 – كانت قضية عمل فيها رامي مع حسين الخليل ومصطفى ناصر (مستشار الرئيس الحريري) على تجنيب عدد من الطلاب الفصل وكان الحل ان تكفل الحريري بدفع 40 ألف دولار.. تسلمت المبلغ وقمت بتوزيعه على الطلاب المحتاجين، دون تمييز بين أولئك المنتمين للحزب وبين غيرهم، مما أثار حفيظة بعض المسؤولين في التعبئة التربوية لرغبتهم في ان توزع المبالغ على طلاب الحزب وحدهم.

 

المهم،

ان أحداث 10/10/1994 في الجامعة مثلت لرامي عليق نقطة تحول على صعيد حياته الخاصة لجهة بداية الخروج من الاطار الحزبي الضيق.. واللهفة إلى مد الجسور مع الغير.

جماعة التعبئة التربوية في الحزب حاولوا استدراك الأمر لاستيعابي فلم يفلحوا، حتى انهم اعتبروني متفرغاً معهم مخصصين لي مبلغاً من المال.. لتغطية المصاريف.. لكن هذا لم يمنع أثناء لقاء رامي أمين عام الحزب نصرالله أن يشهر له استقالته المقبولة ولن يكون جزءاً من أي خطة جرى الحديث بها أمام نصرالله.. ومع هذا فإن الاستقالة التي قيل له عليك أن تنساها.. رفضت أيضاً على مضض من جانب جماعة التعبئة التربوية.. ولكن الخلاف التنظيمي مع جهاز التعبئة لم يتم تجاوزه حتى كانت الاستقالة الفعلية من الجهاز سنة 1995.

 

مواجهة مع نصرالله

تطور الاوضاع سلبياً داخل الجامعة دفع عدداً من مديريها في مقدمتهم رئيس الجامعة إلى زيارة نصرالله للطلب إليه كما اختصره بالقول على لسانهم ((نرجوك أن تخلصنا من رامي عليق)).

 

في لقاء لاحق أبلغ نصرالله طلاب الحزب في الجامعة عن طلب سوري بتهدئة الأمور على ساحة الجامعة..

دافعت عن موقفي في الأطر التنظيمية وكنت حاداً مع نصرالله مما دفع المسؤول المركزي للتعبئة المركزية لمخاطبتي بالقول: ((لا يمكنك التكلم مع سماحة الأمين العام بهذه النبرة العالية)). وأحدهم نعتني بالوقح بسبب جرأتي في إثارة مسألة معينة (لم يشرح رامي ما هي).. أخذ نصرالله برأي بعض المسؤولين في جهاز التعبئة وأهمل رأيي على الدوام، وهذا ما بدا على الأقل من خلال نمط العمل مما دفع بي إلى رفض حضور اجتماع دعا إليه يوماً.

 

 تعمق في شؤون الحزب

نشاطي واجتهاداتي دفعت كثيرين داخل الحزب للتعرف عليّ وكونت من خلال احتكاكي بهؤلاء وتبادل الآراء وتداول المعلومات صورة جلية عن توزع مواقع القوى والنفوذ بين التيارات والمجموعات والافراد المختلفين، من معتدلين نسبياً أرادوا خلق هامش محلي لأخذ القرار مع الالتزام بمؤسسة ولاية الفقيه، ومتطرفين نسبياً لم يبغوا الاحتفاظ بهذا الهامش، بل اعتقدوا بضرورة ترك شأن القرار للقيمين على المؤسسة في إيران، كما تكونت لدي قناعة بوجود توازن قوي يحكم علاقات ذوي النفوذ ببعضهم البعض فضلاً عن التأثير الحاسم للأجهزة الإيرانية ولاحقاً السورية.

 

يقول رامي: كنت مستمعاً خلال لقاءات كثيرة.. عندما سألت أحدهم مرة عن سر الاحترام الكبير الذي لقيه شخص ما، أجابني بأن له ارتباطاً وثيقاً بمكتب القائد (خامنئي) وبالحرس (الثوري).

 

في لقاء آخر كان اثنان من الإيرانيين حاضرين، والكل يستمع إليهما باهتمام بالغ، سألت عنهما فقيل لي: ((انهما يتبعان لوزارة الأمن، صاحبة النفوذ الأبرز على الحزب هذه الأيام، بعد ان ضعف نفوذ وزارة الخارجية)).

 

ان ارتباط المجموعات النافذة بمراكز القرار في إيران أعطاها أفضلية في السيطرة على الاجهزة الحيوية الأساسية في الحزب، كجهازي الاستخبارات أو الأمن والعسكر، تلقى معظم أفرادها تعليمهم واعدادهم مباشرة من إيران، ان عبر الحوزة الدينية في قم أو عبر أجهزة رسمية أخرى منهم حسن نصرالله على سبيل المثال.

أما الجماعات الأخرى التي عولت على الحوار كطريق لإيصال أفكارها واكتساب النفوذ فكانت أقل حظاً، وإن تبوأ أفرادها مناصب بدت مهمة في الظاهر، لكنها لم ترق إلى حد التأثير في القرارات المركزية المهمة التي تتخذ في حلقات ضيقة. كان هؤلاء منتمين إلى أحزاب وتجمعات، كحزب الدعوة الإسلامية وحركة أمل وبعض أتباع الإمام موسى الصدر، أتوا إلى حزب الله مع أفكارهم، وكانوا يبحثون لها عن منبر أفضل. تفرقوا بين خطوط مختلفة، منها ما هو قريب من السيد محمد حسين فضل الله، ومنها ما هو بعيد عنه. اتصفوا بالاعتدال إجمالاً، وبسلوك النقد البناء الهادىء. كانوا يدعون إلى إشراك القواعد الحزبية في آلية اتخاذ القرارات وإلى اعتماد البنى المؤسساتية داخل الحزب في مقابل طغيان نفوذ بعض الأفراد.

 

كانت مشكلة الجماعات المعتدلة تكمن في تشرذمها وتفرقها، مما ساهم في استيعاب أفرادها من قبل المجموعات النافذة، كل على حدة. كما كان لهذه الجماعات نظرة مختلفة إلى طبيعة العلاقة مع الاجهزة الإيرانية لجهة التنسيق معها بدل الذوبان فيها، مع المحافظة على حد أدنى من الطابع المحلي اللبناني لروزنامة الأنشطة في الحزب.

 

شاركت هؤلاء الأشخاص نظرتهم، خصوصاً بعد تعلقي بمفهوم ((المجتمع اللبناني)) وشعوري بأهمية الانضواء تحت لواء الوطن بفضل تجربة العمل الطالبي في الجامعة. لم أكتف بهذه المشاركة النظرية، بل تعديتها إلى صياغة خطة عمل إصلاحية لم أوفر جهداً في محاولة تطبيقها بالاشتراك مع المعتدلين في الحزب.

 

إصلاح

كانت أهم عناوين هذه الخطة على الشكل التالي: أولاً ان يتخلص الحزبيون في الجماعات المعتدلة من حال التفرق والشرذمة ويستبدلوها بالتعاون في ما بينهم، بغية التمكن من خلق جبهة متراصة في وجه الحزبيين المتطرفين لاقتسام النفوذ معهم. ثانياً، أن يتم العمل على طرح برامج حزبية تقرّب الحزب أكثر من محيطه ومن واقعه اللبناني. ثالثاً، أن يتم الدفع باتجاه إرساء واقع مؤسساتي في الحزب على صعيد الهيكلية التنظيمية.

 

كان همي الدائم دفع الحزبيين المعتدلين إلى التلاقي والتفاهم من أجل خلق جبهة موحدة في ما بينهم. حاولت كثيراً، وبإصرار حتى الملل، بالأخص مع محمد ح. ومحمود ق. وحسين أ. وعامر ش. وحسين ك. ومحمد ر. ومحمد ف. وغيرهم. وجدت لديهم آذاناً صاغية، لكنني وجدت أيضاً ضعفاً وخوفاً من صقور الاجهزة المتحكمة، شكلا عاملاً معوقاً بالنسبة إليهم. دأبت على المحاولة طوال العام 1995 وخلال قسم من العام 1996. لكن، للأسف كانت الغلبة دائماً لصقور الأمن والعسكر، وكان نصيبـي مزيداً من الإحباط.

 

في النهاية، وجدت نفسي أمام واقع صعب تمثل بأمرين: الأول اصطدامي بجبهة مضادة من الحزبيين المتطرفين، يملكون الأدوات والوسائل الفعالة اللازمة والكافية لترهيب من اتفقت معهم في الرأي على ضرورة تطبيق الخطة التي طرحت والذين وافقوا نظرياً على الاقل، غذى وصولي الى هذه النتيجة تجربتي في الجامعة الاميركية، اما الامر الثاني فتمثل بمحاولة استمالتي من قبل بعض الاشخاص التابعين لأجهزة ايرانية نافذة.

 

رحمة الله!

في خضم انشغالي بفكرة الاصلاح الداخلي، عرفني صديق لي حسين أ، على احد الايرانيين ويدعى ((رحمة الله)) قال لي هذا الاخير بعد ان التقيته للمرة الاولى انه يعمل لصالح وزارة الامن في ايران، بعد ان اتصلت به، اقترح عليّ ان نلتقي في السفارة الايرانية في بيروت، حضرت الى هناك، وكان موعدنا الاول ظهيرة احد الايام في غرفة في الطابق الرابع كما اذكر.

 

بدا ((رحمة الله)) متواضعاً خجولاً، حاد النظر، حسن الاستماع، اخبرني حسين في وقت سابق انه من الاشخاص الذين ((يملكون القدرة على الحل والربط)) كان اللقاء اقرب الى التعارف، اردته ان يكون محاولة مني لطرق باب لم اطرقه بعد ((باب الابواب)) تكلمنا في مواضيع حزبية ودينية عامة، وركزت في سياق الكلام على احداث الجامعة.

 

عرض عليّ رحمة الله ان نلتقي مجدداً في الجامعة الاميركية، حضر الى هناك في موعد حددناه، تمشينا في ارجاء المكان، وكنت اخبره عن المباني، والاقسام التي كنا نمر بقربها، وسردت له قصص الانشطة والتحركات الطالبية، اتفقنا على موعد آخر في السفارة وتركز الكلام هذه المرة على شؤون الحزب، كنا وقتها بصحبة شاب آخر لم اعد اذكر اسمه، شارك في الحديث اردت ان ارى الى أي مدى يمكنه التأثير في القرارات الصادرة عن اصحاب النفوذ في الحزب، فسألته عن ذلك، لا انسى ابتسامته وجوابه: ((نحن نقول للأمين العام افعل هذا ولا تفعل ذاك)).

 

عندها، عرضت فكرتي عن الاصلاج الداخلي، شددت على ضرورة اعتماد الشفافية وأنظمة محاسبة تطبّق على الجميع، بمن فيهم المسؤولون في مناصب رفيعة، وأصحاب التجاوزات من جهازي الامن والعسكر، تحدثت عن الحاجة الى وضوح الانظمة الحزبية بالنسبة الى افراد الحزب جميعاً، وضرورة انسجام الخطاب السياسي المعلن مع القرارات الداخلية لتجنب استغلال الحزبيين والمؤيدين للحزب، طلب اليّ الاثنان صياغة افكاري وربطها بممارسات حصلت، بشكل خطي، ففعلت بعد بضعة ايام.

 

احضرت لهما مسودة مؤلفة من احدى عشرة صفحة، سلمتها اليهما بانفعال واضح، متسائلاً عن مدى قدرتهما على المبادرة، كنا في شهر ايار/مايو 1996، ان لم تخني الذاكرة، ونصحاني بزيارة ترفيهية الى إيران في ذكرى رحيل الامام الخميني ووجها اليّ دعوة سياحية مدفوعة التكاليف، بدت الدعوة محاولة للتخفيف مما ظهر لدي من توتر وانفعال.

 

سياحة

في اوائل شهر حزيران/يونيو، سافرت الى ايران برفقة آخرين كنت طلبت من ((رحمة الله)) ختم تأشيرة الدخول على ورقة مستقلة لئلا يشكل وجودها على جواز سفري عائقاً امام حصولي على تأشيرة دخول الى بلد آخر، فلبى الطلب بتفهم، استقبلنا على ارض المطار رجل يعتمر عمامة سوادء يدعى سيد ابطحي، استمرت الزيارة اسبوعاً، جلنا خلالها على مدن ايرانية مختلفة منها طهران وقم ومشهد، وعلى اجملها اصفهان.

 

كان لنا في احدى المحطات لقاء جمعنا ووفداً ايرانياً مع الولي الفقيه علي الخامنئي الذي القى فينا خطبة قصيرة، عند الاحتفال بذكرى رحيل الامام الخميني، حضرنا المناسبة وسط حشد كبير من الناس، وكنا نجلس في الصف الاول – كان طويلاً – امام المنبر.

 

اطل الخامنئي وسط هتافات عالية بحياته كالعادة وبدأ الكلام بالفارسية، لم اشعر باهتمام للاستماع الى لغة لا افهمها، ففتحت كتاباً من كتب منهج الحقوق للسنة الرابعة كان معي طوال الوقت، وصرت اطالعه، نهاني بعض الموجودين عن الاستمرار في القراءة لما يظهر في الامر من عدم اكتراث للخطبة، لكنني لم آبه، ربما لأن فكري كان في مكان آخر، الجامعة، الطلاب، الامتحانات القادمة، الاصحاب الجدد، شؤون اخرى..

 

بعد عودتي من الرحلة بقليل، التقينا مجدداً في السفارة، افتتح رحمة الله ورفيقه الحديث بالتركيز على اهمية التمسك بالاسلام ((الاصيل)) اسلام الائمة الاثني عشر، وتجسده في هذا الزمن على يدي الامام الخميني بإقامة الجمهورية الاسلامية، التي اخذت على عاتقها دعم ثورات المستضعفين في ارجاء الارض، وأهمها ثورة حزب الله، قالا بأن الاخطاء والتجاوزات تحدث هنا وهناك، لكن الله يسدد المسيرة، لا سيما في ظل وجود قادة حريصين على الاسلام كالسيد الخامنئي والسيد نصر الله ثم اضافا بأنهما قرآ باهتمام ما كتبته ولا ينكران وجهة نظري فيه، وبأنهما على دراية بالكثير من الممارسات التي ذكرت، لكن، كما اكملا، فكرتي حول الاصلاح لا تتلاءم مع طبيعة المهام الجهادية التي اعد لها الحزب ولا ضرورة لأن احمل هم الاصلاح بحدة وانفعال، فهناك امور اهم وطرق عديدة لخدمة الاسلام.

 

سألاني اخيراً: ((ما رأيك بمشروع مختلف؟ ثم عرضا عليّ العمل معهما من ضمن اقتراحات اقدمها اليهما، يكون لي فيها هامش الابتكار والتأثير والتميز، وأعربا عن استعدادهما لتقديم الدعم المادي والمعنوي اللازم، شعرت بالصدمة.

 

كان همي في واد آخر، لكي اكون منصفاً لا انكر انني لقيت تقديراً واهتماماً بالغين من قبلهما، لكن هذا كان لقاءنا الاخير، خرجت من الاجتماع بغصة منعتني من متابعة الحديث، وفي داخلي خيبة كبيرة، وحسرة لا ابالغ اذا قلت ان عيني دمعت بسببها بعد ان وصلت الى سيارتي، اعتبرت عرضهما ارضاء لخاطري والتفافاً على ما اتيت اليهما من أجله.

 

لا اخفي ان ما حملته من نظرة للاصلاح نتج من انطباعات وكلام وشكاوى عبّر عنها آخرون وتبنيت انا مضامينها، فالكل كان يخبرني عما يحتقن في داخله من معاناة مصحوبة بقلة الحيلة في التأثير، بالرغم من تقلد المناصب الرفيعة، كلام كثير وغزير، اجج في فكرة الاصلاح من جهة وفكرة لوم من كان في تلك المناصب والغضب منهم، لاستسلامهم للضعف، من جهة اخرى، ربما دار في خاطر هؤلاء الشاكين انه يمكنني ان انجز ما لم يستطيعوا انجازه، فأولوني ثقتهم، في مآل الامور، باتت عناوين ومقدسات تتهاوى امامي كأوراق الخريف، وهي امور كنت استشرس في الدفاع عنها سابقاً.

 

في هذه المرحلة، لا اخفي وجود شيء من التناقض بين تبدل الافكار لدي، انعكس سلوكاً تمثل بالنـزعة نحو الابتعاد عن الاجواء الحزبية، وبين الاستمرار في اللقاءات مع الايرانيين، لعل الجواب يكمن في محاولتي دق هذا الباب الاخير، كما اسلفت لتتأكد لدي فناعاتي المستجدة، قبل ان ادير ظهري للحزب، خصوصاً ان من اجتمعت بهم يشكلون اعلى مواقع القرار، ما يتوج مشواري الطويل والمتشعب في صفوف الحزب.

 

لو سنحت لي هذه الفرصة من قبل، لما كنت ترددت في تلقفها. أما أن تتاح لي الآن في ظل اهتزاز قناعاتي والتقلب الحاد في أفكاري، فهذا لم يعن لي أكثر من الاطمئنان إلى بلوغ آخر المشوار. أردت حينذاك أن أكون أقرب إلى أصدقاء جدد، أشخاص يشبهونني أكثر، أشخاص يعنيهم الصدق وتعنيهم الأخلاق أكثر.