التضامن المسيحي

بقلم/سامي فارس

1- النفس المسيحية:

التضامُن المسيحيّ (1) واجب بين مختلف القوى المسيحيّة العالميّة. فهو يقوّي أواصر الإلفة والتعاون بين مختلف الدول ذات الطابع المسيحي.

فالمسيحية في بدئها كانت حركة تبشيرية مسالمة، ولكن بعد وصول الأمبراطور قسطنطين الى الحكم، في أوائل القرن الرابع الميلادي، زادت المسيحيّة على الموضوع الإيماني الحالة النفسية الجغرافية التاريخية. وهذه الحالة أدّت الى بناء دول، واستمرار دول، وتحوّل دول، تحت راية النفس المسيحيّة.

 

2- القوّة الكنسيّة وقوّة الحكام:

وما حصل في عصر النهضة الأوروبية ثمّ في عصر الأنوار الفلسفي، وأُريد له أن يكون انفصالاً تاماً بين الحالة المسيحيّة و الحالة الدولتيّة(2)، كان فقط، وليس إلاّ، انفصالاً بين القوة الكنسية وقوّة الحكّام، أو بين قوة الكنيسة والحالة الشعبية.

وقد بقي الإحساس الشعبي النفسي مُتَكَوْتِلاً في الدين، إنما أُريد له الانمحاء والاندثار بسبب أن المفكّرين السياسيين لعصر النهضة وفلاسفة القرن الثامن عشر اعتقدوا بوضع جُمودي، هو التدخّل الكنسي من جهة في شؤون الدول ضمن الصراع بين البابويّة وحكّام الولايات أو المناطق، واستغلال الكنيسة للقوى الشعبية للطلب منها عدم التحرّك في الوضع الداخلي، وصبّ كامل جهودها للوصول الى الخلاص في العالم الآخر.

 

واذا كان هناك فعلاً تدخُّلٌ من البابوية في شؤون الدول والمقاطعات، وكان هناك فعلاً محاولات لإبعاد القوى الشعبية عن الاهتمام بأمورها الدُّنيوية، فإن كل هذه الأمور، لا تنفي الحس الشعبي التاريخي المتضامن مع الوضعيّات الإقليميّة والعالميّة لترسيخ الحالة المسيحيّة في سياسات الدول وفي ازدهارها.

 

3- القوى الشعبية المسيحيّة:

إن القوى الشعبية المسيحيّة يهمّها جداً مناخاً دَوْلياً منبعثاً من الحالة التاريخية المسيحيّة، و من تفاعُل هذه الحالة مع مجريات الأمور وتحوُّلاتها. إن الشعبي المسيحي(3) يريد الإحساس بـ التضامن المسيحي العالمي. وهو يفتخر بتاريخ الدول المسيحيّة أو ذات الطابع المسيحي، ويهمّه التقرّب بين الدول والمجموعات والمجتمعات ذات الطابع المسيحي.

صحيح أن الديموقراطيّة هي طريقة الحكم التي تحاول أن تلبّي بأفضل وسيلة ممكنة أماني الناس واحتياجاتهم؛ إلاّ أن الشكل القانوني يحتاج الى موضوع نفسي، وهذا الموضوع هو الإسقاط النفسي التاريخي لحالة الجماعة الدينية.

 

4- النفسية التاريخية:

إن مراسيم اللاهوت تفترض حالة عُلْوِيّة(4) لها طريقة اندخالها في العالم، وتفسيرات لانبثاق العالم، وواجبات وفرضيّات. إلاّ أن مجموعة هذه التراسيم(5) قد أضحت فعلاً في عقول مُتَتَبِّعيها من حيث انتشارها في المجتمعات، وتآلف هذه المجتمعات للاجتهادات والتصورات. وقد تحوّل الهمّ الإيماني الى ممارسات فعليّة وشعبيّة، و إلى قصص تاريخية، وإلى أفاعيل سلميّة أو حربيّة، وإلى صِدامات ولقاءات، وإلى اجتماعات وتصوّرات، وإلى أماني وتأمّلات، وإلى مشاريع وإعمارات، وإلى خسائر ومغانم، وإلى حروب ومصالحات. وكل هذا بنى النفسية التاريخية للشعوب التي اعتنقت الإيمان، وجهدت في سبيله، إن سلماً أو حرباً، وفي كل زوايا إشارات الدين.

 

ووصلنا إلى حالة عبَّأت نفس المؤمن، وعبّأت أيضاً نفس المنضوي في الدين كحالة اجتماعية، نفسية، تاريخية. وأصبح هناك مجالان واضحان في الدين: التعاليم التي يجهد المؤمن في إتْباعها ليصل إلى عالم الرجاء، والحالة الاجتماعية النفسية للمنضوي تحت الراية النفسية التاريخية للدين الذين أصبح أقرب إلى الحس القومي العالمي من كونه عُلْوِيّة نِفرازيّة(6) خارجيّة. وأصبح المنضوي في الإطار الديني يريد إبراز الدين كرابطة تضامنيّة لجماعة خاصة، ولجماعة عالميّة يشعر أنه ينتمي إليها ويشاطرها الكثير من الإفكار والتمنيّات والأحاسيس.

 

5- قوّة الرّمز التفسيري:

من هنا نقول: إنّ حالة التضامن الديني بصفتها الاجتماعية يجب أن تُشَجَّع لا أن تُحارَب، لأنها مفصل من مفاصل النفس الانسانية، وهي نتيجة حالة كونيّة تكوينيّة مَرَّت بشعور إنساني عام، فوجّهته نحو المطلَق، وفي الوقت نفسه تحوّلت صورة المُطلَق إلى مناخ تاريخي اجتماعي يجد جذوره في تصوّر يُفَسِّر على طريقته كامل الكونية ومندرجاتها.

 

إنّ قوّة الرمز التفسيري العُلْوي تُؤثّر حتماً على النفسية الفردية والجماعيّة. وهذا يُشكِّل توازناً نفسياً بين متطلبات التفسير الماورائي الكوني وبين المسيرة الاجتماعية الأرضية. ولا يمكن بتاتاً الفصل بين الإرهاصات الدينية وبين التشكيل الاجتماعي الموضوعي لأن الجذور التفسيريّة الشموليّة تَتَبَرَّكُ(7) في النفس الإنسانية، وفي النفس الاجتماعية العامة. وتواصِلُ الميزة الكونية التأثير في اللاوعي وفي نصف الوعي(8) لكي يشعر الإنسان بتقارب وتآلف مع من يشترك معه في التفسير الجذوري أو الماورائي.

 

6- التشارك في نظام المؤسسات، والذاتيّة في النّظرة الإطلاقيّة وفي المسار التاريخي:

فـ المتطلبات العُلْوِيّة المرسومة بحاجة إلى متطلّبات اجتماعية متفاعلة مع بعضها البعض لكي ينبني وضع تاريخي سليم. وإنّ الجماعات المتأثرة بالوضعين العُلْوي والتاريخي تتقرّب في الموضوع الشكلي النِظامي من جماعات لها عُلْوِيّة ومسار تاريخي آخر، ولكن تبقى كل واحدة منهما ضمن مسارها التاريخي الخاص في موضوع التفاعل الجَماعي الداخلي والتصّور الشمولي النظري والتطبيقي.

 

فالتوافق في شكل المؤسسات العامّة بين مختلف الدول هو آلية للحكم. فالناس لكثرتها تفوّض غيرها للحكم بإسمها. وتنظيم الحكم يسهّل المعاملات والنمو والتحسّن الاجتماعي. وهو موضوع مشترك بين المجتمعات وطريقة بنائها. أما التصوّر التاريخي للذاتيّة الاجتماعية، فهو متأثّر بخط بياني تَشَكَّل من نظرة شُمولية أدّت إلى التأثير في الاعتبارات النفسية. وشكّلت الحركة التاريخية للمجتمعات ذات النظرة الإطلاقيّة الواحدة مساراً متقارباً من حيث الطموحات والتأمّلات العامة. فكان الفعل الديني الموضوع الأساسي في تحرّك الدول في فترة التأثير الواضح للـفرضيات اللاهوتية. أما في مرحلة الخروج الظاهري من تأثير المفاعيل الدينية، فقد مكث تأثير الرسم الإطلاقي في الاتجاهات اللاواعية للمجتمعات، وأثَّر في الخيارات على مستوى التضامُن والتفاعُل و الانبراك(9).

 

2/12/2007

سامي فارس

ــــــــــ

(1)   وقد تكلمنا عن موضوع التضامن المسيحي في العام 1976.

(2)   اصطلاح أنشأناه في السبعينات للتكلُّم عن وضع الدولة في الداخل، عبر إضافة نسبة "الياء" و "التاء" على الكلمة. فـ "الياء" تعني ضمناً المُنْدَرج الألفبائي، أي عملية تحرُّك في الداخل، أو في داخل الدولة. أما حرف "التاء" الأخير فيعيني تثبيت الكلمة في وضع معيَّن في المندرَج الألفبائي.

دَوْلي= International

  دَوْلَتي = Etatique

أو دَوْلَتلي أو دَوْلَنتي

القوى الدولَتيّة= القوى التي من ضمن الدولة= Les Forces Etatiques

الحركة الدَوليّة = بين الدول.  الحركة الدَولتيّة = داخل الدول.

(3)   Le populiste chrétien

(4)   عُلْوِيّة: Transcendantale. العُلْوِيَّة هي حالة من الأقصى إلى الأقصى.

العِلالِيُّ: له صفة العُلُوّ. الاعتِلالِيُّ: مَنْ أصابَ عُلُوَّه شيءٌ أو كَدَر.

(5) التراسيم: المراسيم من حيث تثبيتها.

التاء البدئيّة تعني تثبيت الشيء. المفرَد: ترسوم و تَرْسَمَة.

(6) نِفرازِيّة: مِنْ نَفَرَ، أي خَرَجَ بقوّة بسبب ضغط داخلي.

(7) تَتَبَرَّكُ: وفق المعنى الأصلي: تُجْلُسُ.

(8) نصف الوعي: الوعي المؤتَلِفُ من نُتَفٍ شعوريّة.

(9) بَرَكَ: جَلَسَ مكانه. الانبراك: الجلوس في المكان. وفي موضوع المجتمعات، كيفيّة التعبير عن مكنوناتها الحضاريّة.


Resume d'Idees
Figuratif :
1- Nécessité de la solidarité chrétienne en raison de la pesanteur historico-sociale déterminante de l’évolution des sociétés chrétiennes.
2- La scission entre l’Eglise et les Etats n’implique pas la disparition du sentiment de solidarité chrétienne.
3- L’appartenance au christianisme se situe à 2 niveaux déterminants :
a- L’appartenance à la croyance.
b-Et/ou l’appartenance à un sentiment historique de solidarité.
3/1/2008
Sami Pharès