أين لبنان من حقيقة الصراع الدائر في الشرق؟

بقلم سجعان قزي

 ألا يُفترض ان تكون الفتن والمعارك باتت وراءنا وان يكون لبنان في فترة استعادة صحته الوطنية كاملة؟ اسرائيل وسوريا انسحبتا، الحريات السياسية والحزبية عادت، الشعب اعترف بنهائية الوطن اللبناني والتقى في 14 آذار بعد ستة آلاف سنة على وجوده، الامم المتحدة وضعت يدها على الملف اللبناني والدول الكبرى "تحرسه" بعدما رمته ثلاثين سنة للذئاب. انها احلام اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، تتحقق. لكن المظاهر الحالية والمؤشرات المستقبلية لا تطابق، ويا للأسف، هذا الواقع.

هل يعي اللبنانيون (القادة قبل الشعب) ابعاد المرحلة التاريخية التي يجتازها لبنان والشرق الاوسط بل العالم، فيكفون عن تصغير الحدث التاريخي وتعظيم الحدث المرحلي؟ وهل يعي الشعب اللبناني ان بعض هؤلاء "القادة" يجهضون انجازاته، فينتفض عليهم كما انتفض على الاحتلالين الاسرائيلي والسوري؟

اثناء الاحتلال السوري تقصدت الدولة – نعم الدولة – اشغال الشعب اللبناني بالماء والكهرباء ولقمة العيش، فتمدد الاحتلال وطاب له المقام ثلاثين سنة. واليوم في زمن التحرير – مبدئياً - يُشغله اكثر من طرف داخلي وخارجي بتقرير ميليس (على اهميته)، بمحكمة لبنانية او دولية (قد تطول سنوات) وبوضع رئيس الجمهورية (على اشكاليته) فيما تتسلل الى لبنان مشاريع حروب وفتن جديدة وانشاء جمهوريات خاصة. لو ان تلك القضايا (ميليس والمحكمة والرئيس) كانت مصيرية لهان الامر، لكنها ليست سوى جزء متواضع من صراع كبير يمتد من الشرق الى الغرب (ذهاباً واياباً) ويخرق المجتمع اللبناني (عمودياً وافقياً) مهدداً ما بقي من صيغة تعايشه المركزية.

الصراع الكبير يدور حالياً بين غرب ديموقراطي (وبخاصة الولايات المتحدة الاميركية واوروبا) من جهة، وانظمة ديكتاتورية وحركات اصولية ومنظمات ارهابية (شرقية وآسيوية) مدعومة خلسة او علناً من دول كبيرة كالصين وروسيا وكوريا الشمالية من جهة اخرى. ويتقاطع اطراف هذا الصراع (من الفريقين) بشكل او بآخر مع تصورات اسرائيلية (قديمة وحديثة) للمنطقة. واذا لم يوضع حد لهذا الصراع قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش – وهذا امر مستبعد -، سينتقل من جيل الى جيل ومن مجتمع الى مجتمع. سينعكس حرباً في دول، وفتناً وعدم استقرار في دول اخرى. ستسقط انظمة ويتغير حكّام، ستُعدّل كيانات قائمة وتبرز اخرى نائمة. ستستفيد من هذا الصراع جماعات دينية واتنية لنيل استقلالها، وتتضرر منه اخرى فتُهمّش.

في موازاة المشروع الاميركي المتعدد الاهداف (الجيدة والسيئة، الممكنة والمستحيلة)، يستعيد الشرق الاسلامي ايضاً حروبه القديمة (الاموية/ العباسية، والعباسية/ الفاطمية، والفاطمية/ الايوبية، والايوبية/ المملوكية، والفارسية/ العربية، والاسلامية/ الصليبية)، ويستعيد الحروب الانفصالية بين السلطات المركزية (الخلافة) والامارات المناطقية (المذاهب والقبائل). لكن الامويين ينقصهم اليوم معاوية، والعباسيين هارون الرشيد، والفاطميين الخليفة المعزّ، والايوبيين صلاح الدين، والصليبيين ريكاردوس قلب الاسد، والفرس الشاه اسماعيل الصفوي، وامراء المناطق سيف الدولة الحمداني. صغارٌ كبار القوم اليوم في الشرق والغرب، صغار.

النفق الذي دخلته منطقة الشرق الاوسط (ولبنان بالطبع) منذ عقد تقريباً، ولا سيما منذ غزو اميركا العراق، لن تخرج منه قبل عقود. فالنظام الاقليمي الجديد لن يقوم على ارض الشرق الاوسط بمجرد طباعته على الورق في الدوائر الاميركية والاوروبية. سقوط الامبراطورية العثمانية استغرق حوالى تسعين سنة (1830 – 1920)، وتحقيق "وعد بلفور" احدى وثلاثين سنة (1917 – 1948)، وتنفيذ "سايكس بيكو" ثلاثين سنة (1916 – 1946)، ونشوء الوحدة الاوروبية ستا وثلاثين سنة (1957 – 1993).

هذه المرحلة الصعبة بين الشرق والغرب تشبه ايضا مخاض اوروبا بين سنتي 1850 و1914 حين تكونت دولها وكياناتها الحالية، او حرب الثلاثين سنة بين انظمة اوروبا واديانها وطوائفها (1618 – 1648)، او حرب المئة سنة بين الانكليز والفرنسيين (1337 – 1453). فلا ننسى انه اذا كنا ميلاديا سنة 2005، فهجريا لا نزال في سنة 1426. وفي هذا السياق ترجح مراكز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن بألا تتمكن الولايات المتحدة في السنوات العشر المقبلة من تحاشي حرب كبرى ضد الاصولية الاسلامية الجهادية. ومن غريب المصادفات ان منذ مئة سنة (1905)، لدى اندلاع الحرب بين اليابان وروسيا(1)، وبداية الثورة الشيوعية في روسيا(2) وازمة طنجة في المغرب(3) وصدور بيان اولي للثورة الصينية، حذرت الخارجية الاميركية وزارة الدفاع من ان اميركا ستضطر بعد عشر سنين تقريبا لخوض حروب في اوروبا وآسيا. وهكذا كان.

في هذا الصراع التاريخي الكبير، كل فريق يريد نسج خريطة الشرق والعالم حسب مصالحه (لا مبادئه) وهواجسه (لا احلامه). وكل فريق يؤكد عزمه على الانتصار على الآخر، ولاسيما الولايات المتحدة الاميركية المتفوقة عسكريا وتكنولوجيا، والمصممة، حتى إشعار آخر، على دحر الارهاب. اعتقدت اميركا انه بسقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة اصبحت قادرة على حسم اوضاع الشرق الاوسط، ففوجئت بقوى اقليمية اشد خطرا وايلاما من الاتحاد السوفياتي. اثناء الحرب الباردة، كان توازن الرعب ينقذ السلام العالمي ويحفظ خط الرجعة ويوقف اطلاق النار. اما اليوم في زمن "حرب الجنة" فلا رادع طالما الشوق الى الانتحار الجماعي اقوى من لذة الحياة والبقاء. وما يعقد الامور اكثر هو ان اميركا لا تريد – حتى الآن – بل لا تستطيع ان تفاوض هذه القوى او تعقد معها صفقات وتسويات وتبادل مناطق نفوذ كما كانت الحال مع الاتحاد السوفياتي (ازمة الصواريخ في كوبا 1961/62).

الافرقاء الاقليميون (دولا وتنظيمات) يعوّضون ضعفهم التكنولوجي والنووي (الموقت) بجهاد انتحاري، بسلاح الارهاب، برهان على عامل الوقت، باحتقار القوانين الدولية، بالالتفاف على العقوبات الاقتصادية، بالاستخفاف بمبدأ الرأي العام، بجبن الديموقراطيات الغربية، بنقمة الشعب الاميركي على حكومته (86% من الشعب الاميركي يفضلون ان تتحول اليهم الخمسة مليارات دولار المرصودة شهريا لحرب العراق). ويتوقع الافرقاء الاقليميون ان يؤدي صمودهم حتى نهاية ولاية بوش (نهاية 2008) الى مجيء ادارة اميركية جديدة (ديموقراطية) تعيد النظر بطريقة تعاطي واشنطن مع القضايا الدولية، كما يترقبون ان يتراخى الدور العسكري الاميركي سنة 2006 مع بدء التحضيرات لمعركة الرئاسة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي (قد لا يكون هذا التوقع في محله لان هذه هي الولاية الاخيرة لبوش).

رغم تصميمه العنيد، كشفت تجربة الرئيس بوش حدود القوة الاميركية في مواجهة الارهاب من جهة وفي فرض الديموقرطية من جهة اخرى. ان اميركا تقود معركتين اساسيتين الاولى ضد حلفائها (مصر والخليج) لنشر الديموقراطية، والاخرى ضد اعدائها كايران وسوريا والمنظمات الارهابية والتيارات الاصولية الجهادية. ويبدو ان الولايات المتحدة غير قادرة على ادارة المعركتين في آن، ولاسيما انها ليست دائما على موجة واحدة مع الدول الاوروبية وحتى مع اسرائيل.

في ضوء تجربة السنوات الاربع الاخيرة، تبدو واشنطن مرتبكة لا في كيفية ادارة وجودها العسكري في العراق فحسب، بل في عجزها عن تخفيفه وابقاء قواعد ثابتة ورمزية في منطقتي الخليج والشرق الاوسط كما فعلت بعدما ضربت النازية والفاشية في اوروبا واليابان. واللافت ان اميركا اضطرت، مع تعثر الاوضاع في العراق، الى تناسي تنصيب الديموقراطية في مصر والسعودية، الى القبول باجراء انتخابات نيابية في لبنان عبر قانون غير متوازن، الى ارتجال الدستور العراقي، الى التغاضي عن ديكتاتورية برويز مشرف في باكستان وتطويره سلاح نووي، الى اعادة تأهيل ليبيا في المجتمع الدولي، الى التساهل مع اسرائيل جحيال خريطة الطريق، والى ابقاء باب عودة دمشق الى "بيت الطاعة" مفتوحاً (اجتزاء تقرير ميليس)...

خلافاً للاتحاد السوفياتي، كانت الولايات المتحدة تاريخياً قوة تدخل اكثر مما كانت قوة احتلال. وغالباً ما فشلت مشاريع انتشارها العسكري بالقوة (من كوبا الى لبنان والشرق الاوسط مروراً بفيتنام). اما بقاء الجيش الاميركي في اوروبا وآسيا بعد الحرب العالمية الثانية فكان سلمياً في اطار تفاهمات حلف شمالي الاطلسي ومعاهدة يالطا. غير ان اميركا اليوم، وان كانت تعيد النظر في كيفية متابعة الصراع، فانها لا تستطيع مبدئياً ان تمنى بفشل يقضي على عظمتها الاحادية في العالم ويفتح الطريق عريضاً امام الصين والدول الاقليمية الكبيرة.

ان كان باكراً التنبؤ بهوية المنتصر الاخير، فعدد من المؤشرات (افغانستان، السعودية، العراق، ايران، سوريا، لبنان، فلسطين) يوحي ان فترة القلاقل مستمرة في المنطقة، وان كل فريق سيستنزف الآخر. فالامن لا يرافق التغيير او يعقبه مباشرة لان التغيير المتوقع لن يتم عبر آلية ديموقراطية فترضخ الاقلية للاكثرية، كما لا يتم عبر آلية انقلابية فتسيطر الاحكام العرفية، انما عبر انتفاضات وفتن واحداث تريد تغيير الواقع السيئ (وهذا ضروري) لكن من دون ضمان بديل واقعي.

من هنا، قد تضطر اميركا لاستعمال اسلحة غير تقليدية لحسم هذا الصراع، بل هذه الحرب المعولمة كما فعلت لانهاء الحرب العالمية الثانية مع اليابان. فالانتحاريون الاسلاميون اليوم ليسوا اشد بأساً من الفدائيين اليابانيين بالامس (الكاميكاز). فعدا ان الاعمال الانتحارية هي سلاح غير تقليدي تبرر رداً غير تقليدي، قد يكون حصول عملية ارهابية كبيرة في مكان ما، او مضي ايران حتى النهاية في برنامجها النووي ذرائع لمثل هذا السيناريو الكارثي الحاسم.

قوى هذا الصراع الاقليمي والعالمي موجودة في لبنان بالاصالة او بالوكالة، تأسره، تعتبره داراً من ديار الصراع، وتحول دون عبوره الى السلام النهائي. واذا كانت كل القوى اللبنانية اعترفت بلبنان وطناً نهائياً فنضال بعضها لا يزال جزءاً من جهاد آخرين. هناك قوى لبنانية تتضرع من اجل ان تحسم اميركا حرب الشرق الاوسط في العراق ضد ايران وسوريا وتربط مصير لبنان بـ"الانتصار الاميركي المنتظر". وهناك قوى لبنانية اخرى تأمل جدياً بقدرتها (مع الآخرين) على الحاق هزيمة سياسية وعسكرية بالولايات المتحدة الاميركية على المدى الطويل وتربط ايضاً مصير لبنان بالـ"هزيمة الاميركية المفترضة". استمرار مثل هذه الرهانات يضع لبنان في "عين العاصفة" ويعطل مفاعيل تحريره من الاحتلالين الاسرائيلي والسوري ومن "صفوة" النظام الامني.

اذا لم يدرك شعب لبنان هذه الحقيقة وواصل استكشاف مصيره من خلال صراع المعارضين والموالين على السلطة والمناصب (وغالبتيهم من بقايا النظام السوري)، فقد يتعرض الكيان اللبناني لاعادة نظر رغم وجود ارادة دولية على تأمين استقرار لبنان بعدما ساعدته على استرجاع استقلاله. بيد ان هذا الارادة الدولية لا تترافق بالضرورة مع حرص مماثل على المحافظة على هوية لبنان ووجهه ومبرر منذ سنة 1920.

للتأكد من هذا المنحى الاخير تكفي متابعة ما يجري في لبنان على الصعد الآتية:مركز القرار السياسي، التعيينات الادارية، المناهج التربوية، العلاقات الديبلوماسية، تنظيمات قوى الامن الداخلي، النسبية العددية داخل الجيش اللبناني، وجهة الانفاق على الانماء، تدفق المال الخارجي، الخ... وما كانت هذه  التغييرات شبه النهائية لتحصل لولا تغاضي (وحتى تواطؤ) مسؤولين مسيحيين (موارنة تحديداً) في الحكم والحكومة ومجلس النواب والمؤسسات.

هيأت مرجعيات اسلامية (شيعية وسنية ودرزية) لهذه المتغيرات وعملت على تعزيزها، فيما غالبية السياسيين المسيحيين غافلة عن جوهر الصراع وخطورته على الدور المسيحي في لبنان والشرق، وغارقة في لعبة الوصولية والثأر والانتقام وتصفية الحسابات وكأنها امام استحقاق عائلي. وهذه مواقفها من الاستحقاقات الداخلية والخارجية، منذ سنة الى اليوم، افضل مثال على أسوأـ تصرف. السياسيون المسيحيون الذين يسير في عروقهم عصب القضية المسيحية ونبضها قليلون، واقل منهم اولئك الذين يتذكرون شهداء المقاومة المسيحية وتضحياتها في سبيل لبنان. رؤساء الدول الكبرى، قادة اوروبا وآسيا، مجلس الامن الدولي، كلهم اجتمعوا مرات ومرات من اجل لبنان، ولم نرَ لقاء مسيحياً واحداً بعد. الذريعة الجديدة – وعلى من تنطلي – انهم ضد اللقاءات الطائفية، لكن السبب الحقيقة انهم عاجزون عن الاتفاق.بغض النظر عن التقصير المسيحي والاقدام الاسلامي، وبغض النظر عن مكاسب هذه الطائفة وخسائر تلك، كشفت تجارب الماضي ان لا حياة لاي انتصار احادي في لبنان الا على حساب وحدة الارض والشعب. رغم حدة الصراع الكبير، في استطاعة اللبنانيين ان يبقوا بمنأى عن كل هذه الاخطار اذا حصنوا وحدتهم الوطنية واعلنوا حياد بلادهم – نعم حياد لبنان – ولنا في التجربة السويسرية خير مثال اذ بفضل حيادها توحدت ارضاً وتساوت شعباً ونجت من الاجتياح في الحربين الاولى والثانية. لكن من اين للبنانيين هذا القرار الانقاذي؟

اللبنانيون اليوم اشبه بشخص دفع غالياً واكثر من مرة ثمن بطاقة سفر ولا يصعد الى الطائرة. هذا آخر نداء قبل الاقلاع... ايها اللبنانيون.

هوامش:

1 – للسيطرة على كوريا والمانشوري وثرواتها المعدنية.

2 – بدء انتفاضة الشعب الروسي وفيالق من الجيش ضد الامبراطور في مدن سان بيترسبورغ وموسكو..

3 – في آذار من السنة نفسها أعلن ملك جرمانيا غيوم الثاني من مدينة طنجة ضرورة استقلال المغرب مما أثار فرنسا وتوقعت بداية تحرك عسكري الماني ضدها.

 

الحياة الجديدة لحزب الله

بقلم سجعان قزي

لم يكن "حزب الله" وحركة "أمل" يحتاجان الى احداث الضاحية ليعرفا ما يكنّ كل منهما للآخر، ولا الى انتخابات بلدية ليمتحنا حجم قوتهما وضعفهما. فمنذ عقد تقريباً مالت نحو "حزب الله" الزعامة في المجتمع الشيعي اللبناني. وتعود اسباب هذا التحول الى نضال الحزب وخدماته من جهة، والى خيبة امل من "الحركة" ومن بعض قادتها من جهة اخرى. فبينما اركان "حزب الله" يبنون (بتمويل ايراني) المستوصفات والمدارس والمستشفيات في الضاحية والجنوب والبقاع، اركان من "امل" يبنون (على مرأى من السوري) القصور الخاصة على الشواطىء والتلال والروابي.

بيدَ ان زعامة "حزب الله" - معطوفة على الانتصارات العسكرية والانتخابية والتظاهرات - تتخطى المجتمع الشيعي نظرا الى طبيعة الحزب (عقيدة اصولية) ومشروعه (مجتمع ديني) ودوره (مقاومة عسكرية) وعلاقاته الخارجية (سوريا، ايران، فلسطين، العراق، وحركات المقاومة الاسلامية في المنطقة والعالم). لذا، يهم اللبنانيين الخارجين من حروب اهلية واعتداءات خارجية واحتلال اسرائيلي والباحثين عن مصيرهم وسط التطورات، ان يعرفوا اين سيوظف "حزب الله" انتصاره في الانتخابات البلدية: أفي رصيد الجمهورية اللبنانية (العيش المشترك) ام في رصيد جمهورية اسلامية (العيش المنفرد)؟ أفي مزيد من استقلالية جغرافية تضاف الى استقلاليته السياسية والعسكرية (حالة فيدرالية) ام في توسيع سلطة الدولة في مناطق وجوده (حالة مركزية)؟ أفي مقاومة عسكرية في الجنوب ودول الشرق الاوسط (مزارع شبعا وفلسطين والعراق) ام في خيارات سياسية جديدة تحت سقف الدولة اللبنانية (رئاسة المجلس النيابي)؟

قد يسعى "حزب الله" الى استثمار انتصاراته في مختلف هذه الاتجاهات، رغم ان بعضها صار محرقا، ريثما تنقشع "المرحلة التفاوضية" التي يجتازها هو (مصيره العسكري) ولبنان (مصيره السياسي) والمنطقة (مصير انظمتها). الا ان اقتراب استحقاق رئاسة الجمهورية ربما يحفِّز "حزب الله" على ايلاء الشأن اللبناني الداخلي اهمية خاصة ويحمله على تجميد عملياته العسكرية في الجنوب بعد انتصاراته السياسية لئلا يحوّل معارضة واشنطن المبدئية للتجديد معارضة فعلية. لكن يبقى الا تستدرجه تطورات اقليمية الى جبهة الجنوب، او اطراف متضررون من وهجه الى جبهة الضاحية كما حاولوا في 27 ايار الماضي.

في مراحل سابقة وظّف "حزب الله" منجزاته اللبنانية (مقاومته في الجنوب) في قضايا اقليمية (انسحاب اسرائيل، انتفاضة الفلسطينيين، اطلاق الاسرى العرب ايضا). اما اليوم، فيوظف الاوضاع الاقليمية (حرب اميركا في العراق) في استحقاقاته اللبنانية (انتخابات البلديات، الاضراب العمالي، تغيير الحكومة). ان صح هذا المعطى الجديد، قد يتجه "حزب الله" نحو إحداث نقلة نوعية في مسيرته السياسية فيتحول في لبنان من دولة الحزب الى حزب الدولة، لا بمعنى الموالاة على طريقة حزب "الطاشناق" قديماً، بل بمعنى التحالف معها على طريقة حزب "الكتائب" القديم في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وخوض "حزب الله" معركة البلديات مؤشر لهذه الرغبة.

ما كان الحزب يبحث في الضاحية وبعلبك والجنوب عن انتصار شعبي (واثق بوجوده) بقدر ما كان يريد تظهير شعبيته ليبرر اي انعطاف سياسي يقدم عليه درءا لتطورات مقبلة. وفي هذا السياق، يأمل "حزب الله" (ما لم يتعرض في مسيرته لاصابة "فوق الخاصرة") في انتزاع رئاسة مجلس النواب اللبناني من "امل" بعد الانتخابات النيابية سنة ،2005 خصوصاً اذا حصر الترشيح للانتخابات النيابية بالمدنيين من اعضائه.

غير ان اي خيارات يأخذها "حزب الله" مرهونة بموقف اميركا منه، وهذا تحدده سياسة الحزب تجاه القضايا الساخنة في المنطقة (الجنوب اللبناني، الانتفاضة الفلسطينية، الوضع العراقي، الارهاب، والوجود الاميركي في المنطقة). من هنا يتعذر تصريف الانعطاف السلمي لـ"حزب الله" على الصعيد اللبناني الداخلي ما لم يُحدث انعطافاً مماثلا على صعيد الشرق الاوسط. والدليل ان التحفظ الاميركي عن "حزب الله" ابقاه خارج الحكومات اللبنانية المتعاقبة رغم شعبيته الواسعة ومقاومته المميزة وعدد نوابه.

الانعطاف السلمي الداخلي يستلزم ايضا ان يخفف "حزب الله" من حمولته الفائضة ما هو مناف لسلطة الدولة ولقواعد العيش المشترك. فالصيغة اللبنانية، بمركزيتها وتوازناتها، لا تتحمل دخول "حزب الله" اليها (او عليها) بسلاحه وامواله وبناه التحتية ومشروعه الديني.

خلافاً لموقف كثيرين من السنة والمسيحيين، ما اثار حفيظتي في 22 ايار 2004 ليس حجم الجموع في تظاهرة "حزب الله" بل ظاهرة الاكفان لانها جزء من جهاد ديني لم يأنسه اللبنانيون بمن فيهم الشيعة. اما الحشود التي امت التظاهرة فهي جزء لا يتجزأ من شعب لبنان وهي شريك اساسي في بناء الوطن والدولة. والقادة المسيحيون الذين راعهم حشد "حزب الله" احرى بهم ان يستتروا ويعملوا على توحيد صفوفهم ليصبحوا يوماً قادرين على تجييش الناس وتنظيم تظاهرات محترمة... الم يخجل مدّعو القيادة في المجتمع المسيحي من انفسهم ايضا وهم يشاهدون امين عام "حزب الله" يقيّم احداث الضاحية في مؤتمره الصحافي؟ قليل من الحسد يا شباب...

ان دخول الحركات الاصولية، لا "حزب الله" وحده، الحياة السياسية والاجتماعية يطرح موضوع تطوير الصيغة اللبنانية نحو لامركزية موسعة، ولاسيما ان فكرة الفيديرالية باتت مألوفة في الشرق الاوسط. وهوذا الرئيس السوري بشار الاسد، في حديثه الى قناة "الجزيرة" القطرية (اول ايار 2005)، يقول: "من ناحية المبدأ لا نقف مع الفيدرالية او ضدها اذ انها نجحت في بعض البلدان، لكن المهم الا تكون مبنية على عرق او طائفة او دين".

ابان الحرب في لبنان، وبسبب التحالف السني - الفلسطيني، غلبت الدوافع الدينية والسياسية على الطرح الفيدرالي. اما اليوم، وبسبب انتشار الاصوليات، فالدوافع الحضارية والاجتماعية هي الغالبة. فالمؤمنون بالفيدرالية يقترحونها من منطلق الاختلاف الوجودي بين العلمانيين والاصوليين لا من منطلق التمييز الديني بين المسيحيين والمسلمين. اعتماد الفيدرالية في لبنان لن يؤدي الى فرز طائفي يفوق الفرز القائم. فالانقسام الطائفي تفاقم في ظل دولة مركزية لا فيدرالية، والاستنجاد بالفيدرالية هو للمحافظة على ما بقي من وحدة وتعايش. ففي ظل الفيدرالية سيعيش في منطقة واحدة لبنانيون من كل الطوائف والمذاهب والاعراق اختاروا نمط حياة واحداً (مدنياً وعلمانياً ومنفتحاً)، وفي منطقة اخرى (موجودة دون اعلان رسمي للفيدرالية) سيبقى لبنانيون آخرون اقتبسوا نمط حياة آخر.

من زاوية مصير التعايش اللبناني انظر الى تطورات الوضع في لبنان والشرق الاوسط. اما الرسائل، اكانت موجهة الى اميركا ام الى سواها، فتفاصيل جزئية وحسابات مرحلية يجب الا تحجب عنا جوهر الامور.

__________________

 

تعليق الديموقراطية واعتماد القرعة

بقلم سجعان قزي

ما الفائدة من اجراء انتخابات بلدية او نيابية ما دام اللبنانيون لا يفيدون منها لإحداث تغيير في حياتهم السياسية والانمائية والوطنية؟

وما الفائدة من المشاركة في استحقاق انتخابي ما دام اللبنانيون يقترعون للمرشحين أنفسهم الذين قاطعوهم في انتخابات سابقة؟ فمن صاروا نواباً سنة 1992 في ظل المقاطعة اليتيمة أعيد انتخابهم في ظل المشاركة المتلُهِّفة (سنتي 1996 و2000)، ومن تغيّر منهم أتى مكانه شخص ينتمي، علناً أو سراً، الى الخط السياسي نفسه؟ وما الفائدة من التحلّي بالحرية السياسية ما دام اللبنانيون يستعملونها لنصرة الانحطاط السياسي والأخلاقي والحضاري في الحياة اليومية والمنعطفات المصيرية؟ ان الحرية اذا انفصلت عن جاذبية العقل والعاطفة ودخلت مدار الغريزة والحقد، تخسر جوهرها وتسيء الى الانسان والمواطن. فالحرية هي "وضوح الرؤية" على حد تعبير الفيلسوف الألماني كانط Kant في القرن الثامن عشر. وليست بالتالي قيمةً جماليةً، بل قدرة فكرية ونضالية في خدمة الانسان والمجتمع للارتقاء نحو الأفضل، انها الهدف والوسيلة معاً.

وحين تغيب هذه الفوائد الثلاث (الانتخابات التغييرية، المشاركة الواعية والحرية المبدعة) تتعطّل الديموقراطية وتفقد مبرِّر وجودها. فكلّ نظام يستعمل في غير وجهته الصحيحة تنتفي الحاجة اليه. وكل حق لا يُستثمر يسقط بحكم مرور الزمن. واللافت بعد التجربة، أن الديموقراطية في لبنان موجودة ولكن غير معمول بها. هي نظام زائد فشل في أن يكون النظام الأساسي لا بل أدى دوراً مناقضاً لغايته فجدَّد شباب الاقطاعية والعشائرية والطائفية.

لقد استخدم اللبنانيون الوسائل الديموقراطية لتعزيز اوضاع غير ديموقراطية كالتسلُّط واللامساواة والتبعية والتداخل بين السلطات. ولإنماء قيم غير ديموقراطية كالفساد والقمع والمحسوبية والعمالة. وظهروا كمن يتناول أدوية للانتحار وهي صنعت اساساً للشفاء أي للحياة.

والمؤسف أننا اتهمنا السلطة وحدها بانتهاك الديموقراطية والحريات (عبر سنّ قانون انتخاب لمصلحتها) ففوجئنا بالشعب ينتهكها أيضاً (عبر ممارسته حق الانتخاب ضد مصلحته). والمؤسف أكثر ان النخبة في المجتمع ضاهَت العامة من الناس في سوء الاختيار، وأن من رفعوا شعار التغيير تسببوا في افشال رواده وانجاح اخصامه (وأخصامهم؟!).

من هنا، في ضوء الممارسة الجانحة للديموقراطية في لبنان، أتساءل لماذا الانتخابات؟ ولماذا النظام الديموقراطي؟ الشهداء ماتوا في سبيل الديموقراطية، والأحياء لا يُقدِّمون لها نقطة ماء ترويها لتبقى بيننا. أليس أشرف لنا تعليق الديموقراطية وإبدال الانتخابات بالقرعة؟ في الحالتين الرهان رابح: أما يحالفنا الحظ بالقرعة فنحظى بممثلين أكفاءٍ، واما يخالفنا فنُمّنى بممثلين من النوعية الموجودة حالياً، فلا نخسر ولا نربح.

والقرعة اعتمدها الاغريق طويلاً، وتعليق الديموقراطية طالبوا به أحياناً: بين القرنين السادس والثاني قبل الميلاد، كان أهل أثينا يختارون خمسمئة شخص بالقرعة لعضوية مجلس الشيوخ La BoulE من بين المواطنين الأصليين (غير المجنسين Les mہtہques). وبالقرعة ايضاً كانا يختارون يومياً من بين الأعضاء الرئيس Epistate، مما يعني أن أي مواطن، تقع القرعة عليه، يصبح رئيساً لأربع وعشرين ساعة غير قابلة للتجديد الفوري (1).

وفي سنتي 411 و404 ق.م،. طالبت فئات اغريقية بإلغاء الديموقراطية بشكل ديموقراطي بذريعة أن بعض أسياد أثينا اساؤوا استعمالها. واعتبرت هذه الفئات أن ديموقراطية جانحة هي "طاغية شعبية" كـ"الطاغية الفردية"(2).

لبنانيون كثر يشعرون اليوم، كما بعد كل استحقاق انتخابي، بما شعر به أهل أثينا قبل ألفين وخمسمئة سنة. ولبنانيون كثر يتذكرون أن من أحشاء ديموقراطيات فاشلة ولدت ديكتاتوريات. فحين تفقد الديموقراطية صبرها وأملها في شعب لا يحترمها ترسل اليه ديكتاتورية ما.

ميزة الديموقراطية عن الديكتاتورية هي أنها تتيح - مبدئياً - للعاملين في الشأن العام خوض غمار المنافسة السياسية والانتخابيات وحتى الفكرية، وتحقيق الانتصارات بعضهم على بعض بدون حُقد وقهر. فالهزيمة حيال الآخر مسؤولية المهزوم قبل المنتصر لا تقع غالباً بسبب خلل في الأداء او البرنامج او فريق العمل. ومصدر الهزيمة الحقيقي هو الشعب الذي اختار، لا المنافس الذي ترشَّح. وبالتالي إن كان من محاسبة فللذات قبل الآخرين، وإن كان من لوم فعلى الشعب لا على الآخرين. أما في النظام الديكتاتوري، فالقهر يرافق كل عمل في الشأن العام لأن الحاكم، لا الشعب، هو الخصم الوحيد والمنتصر بالقوة عبر وسائل غير مشروعة.

وخلافاً لما يظن بعضهم، ليست الديكتاتورية نظاماً بدون حريات، فكل أنواع الحريات متوافرة اجمالاً فيه إلا الحرية السياسية. لذلك، ان المواطنين الذين يُسيئون استعمال الحرية السياسية في نظام ديموقراطي يجوِّفونه مما يُميّزه عن نظام ديكتاتوري ويعطلون مفاعيله وفوائده.

اذا واصلت غالبية اللبنانيين اساءة الأمانة الى الديموقراطية وعدم الافادة من امكاناتها الجمّة لتحسين وضع البلاد وظروف الحياة ومستوى التمثيل الوطني، فلا نعجب ان أطل "حاكم عادل" وعالج برؤية نيرة ما أخفق الشعب عن القيام به عبر المؤسسات الديموقراطية. ولا نعجب ايضاً اذا صار "الحاكم العادل" مطلباً شعبياً. فاللبنانيون، الذين يعيشون منذ سنوات في ظل ديموقراطية معلنة وغير مطبقة وديكتاتورية مطبقة وغير معلنة ويجنون سلبياتهما، يفضّلون، في أقصى الحالات، اعتماد ما هو مطبَّق علهم يجنون حسناته أيضاً.

وصول اللبنانيين الى هذا المنعطف طبيعي بعد احجامهم عن تلبية نداء التاريخ والمستقبل. كل مرة حُدِّدَ للبنانيين - لنا جميعاً - موعد مع التغير تخلّفنا عنه، وكلما ندهتنا الثورة اعتذرنا. دجّنتنا العائلية والطائفية والاقطاعية، واستلطفنا الوصاية والاحتلال والاتكالية. نتذمّر رفع عتب ونرفض جَبر خاطر. نتحدّث عن التغيير كفكرة برسم غيرنا، وعن الثورة كإنتاج اجنبي لا ينبت في تربتنا. نطلب سيادةً واستقلالاً كما يطلب المدان رحمة (لا عدلاً). حين كان وطننا تحت الاحتلال كانت نفوسنا حرة ومقاومة، ولما تحرر وطننا احتُلت نفوسنا. حين كان العالم ضد القضية اللبنانية صمدنا وانتصرنا ولما أيّدها نكرناه وتكبّرنا على النعمة خشية الاستعانة بالخارج. حين كان الزمان زمن ديكتاتوريات تميَّزنا بالديموقراطية ولما هذه انتشرت أهملناها.

سقطت الامارة وبقينا في عهدة الأمراء. سقطت الاقطاعية وبقينا في حمى الاقطاعيين. سقط الاحتلال العثماني وبقينا "نُشمِلُ". سقط الانتداب الفرنسي وبقينا في عقدة الحماية. سقطت منظمة التحرير الفلسطينية وبقينا تحت خطر التوطين. سقط الاحتلال الاسرائيلي وبقينا تحت وطأته. ما بال اللبنانيين، ما بالنا نتصرّف وكأن الاحتلال واقع قائم والاستقلال وعد دائم. يريد اللبنانيون - نريد جميعاً - وطناً بدون ولاء، ودولة بدون احترام القوانين. وديموقراطية بدون أحزاب، وانتخابات بدون قانون متوازن، وجيشاً بدون مهمّات، وكرامة بدون احترام الذات، وتضامناً اجتماعياً بدون عطاء. وتغييراً بدون نخبة، وحرية بدون مسؤولة، وقضاء بدون عدالة، وانتصاراً بدون معركة. نظنُ التمني يتحوّل فعلاً بدون عمل، والكلمة تتحوّل ارادة بدون تصميم. لا شيء يعطى بدون جهد إلا الذل; أفلم نرتوِ منه بعد؟

بئس زمن نبحث فيه عن الماء العذب في المستنقعات الآسنة. وبئس زمن نحسب فيه الأمن سلاماً والتسامح كرامة والاحسان حقّا والديموقراطية خلخالاً...

(1) مراجعة الصفحات 68-72 من كتاب إيف كارلان Yves Garlan العبيد في أثينا القديمة Les Esclaves en Grece ancienne الصادر في باريس سنة .1982

(2) عن المؤرخ هانسن M.H. Hansen في دراسته الصادرة في كوبنهاغن سنة 1983 تحت عنوان The Athenian Ecclesia and the Swiss Landsgemeinde.

__________________

 

 

كان يا ما كان في قضاء الزمان

 الثلثاء 7 تشرين الاول 2003

 بقلم سجعان القزي

  في القرن الرابع قبل الميلاد، كان السياسيون في اثينا منقسمين فئتين: الاولى متمسكة باستقلال دولتها، والاخرى متعاملة مع فيليب ملك مقدونيا وبعده مع نجله الاسكندر الكبير. احتدم الصراع حتى اطاحة حدود الاخلاق وتبارى السياسيون في اقامة دعاوى ضد بعضهم البعض بتهم الفساد والخيانة. وراوحت الاحكام بين النفي عشر سنين او الموت. ومن اجل ان يحفظ اهل اثينا ديموقراطيتهم من احقاد السياسة ودولتهم من اطماع مقدونيا، حصّنوا القضاء وجعلوه ملاذ الاقوياء والضعفاء، والفقراء والاغنياء.

راقب الاثينيون قضاتهم بصرامة. ولاختبار مدى مناعتهم الاخلاقية والجسدية ازاء الرشوة والفساد والضغط السياسي والشعبي، عمدت "جمعية المدينة" LصEcclہsia الى اخضاع القضاة لتجارب عديدة Docimasie قبل ان يتسلموا مسؤولياتهم (لمدة سنة). وكانت "جمعية المدينة" - لا علاقة لها بـ"بنك المدينة" - تطرح الثقة بقضاتها عشر مرات في السنة، وتعزل القاضي الذي يصوّت اعضاء الجمعية ضده - لا ترقيه من مجلس عدلي الى مجلس دستوري او من مجلس شورى الى وزارة او من ادعاء عام الى رئاسة حكومة. وكان القاضي الاثيني، حين تنتهي ولايته، يقدم امام الشعب كشفا تفصيليا عن مهماته، فيحاسبه المواطنون ويحيلونه فورا على المحاكمة اذا ثبتت بحقه تهمة. هكذا، بفضل القضاء، نجت ديموقراطية الاغريق، وبسببه غرقت اخرى في التسلط والانتقام وفقدت جوهرها.

ان مهمة القضاء الاولى هي، قبل العدالة، وقف الانتقام وتخفيف الحقد بين المواطنين. والقضاء يخسر مبرر وجوده حين يصبح سلاحا في ايدي المنتقمين والحاقدين وفاقدي قوة الحق. وميزة القاضي الاولى هي، قبل النزاهة، الشجاعة امام الحاكم ومنع السياسة ان تهزم الحق. والقاضي يفقد احترام الناس - وهو اهم من الحصانة - حين يمسي مأمور السلطة التنفيذية أو التشريعية ورافدا لمحاضر تحقيق اجهزة المخابرات. لذلك، بعد الثورة الفرنسية عام ،1789 كان اول بند نص عليه الاصلاح القضائي هو عدم الاستناد الى تحقيقات الشرطة للحكم على متهم.

واذا الادعاء العام، في دول ديموقراطية، ارتبط اداريا بوزارة العدل، فإنه بقي ادعاء عاما قضائيا ولم يصبح ادعاء عاما سياسيا يتهم قبل التحقيق، يحكم قبل الادانة، يهدد الناس، يتحول نجما تلفزيونيا وانيسا ليليا، يخلي سبيل السارقين، يسجن المناضلين، ويتصرف بالملفات القضائية (يخترعها احيانا) حسب الاستحقاقات السياسية والانتخابية. والقضاة الذين برز نجمهم في صحافة الدول الديموقراطية، هم أولئك الذين لاحقوا سياسيين حاكمين لا معارضين. فالشجاعة فضيلة حين تطال الحاكم والرفض نزاهة حين يجبه الآمر.

عام ،1664 يوم قرر لويس الرابع عشر ملك فرنسا التخلص من وزيره الاول فوكيه Fouquet ذي النفوذ الواسع والثروة المشبوهة المصادر، امر قضاة العرش ان يصدروا حكما بإعدامه، فرفضوا رغم السلطة المطلقة لـ"الملك - الشمس"، وحكموا على فوكيه بالابعاد عن البلاد فقط.

وعام ،1941 يوم قرر الماريشال بيتان رئيس حكومة فرنسا المحتلة ان يسجن سلفه بول رينو Paul Reynaud الذي رفض تمثيله في واشنطن والدفاع امام الكونغرس الاميركي عن علاقات حكومة فيشي Vichy مع المانيا النازية، اضطر بيتان ان يسطر شخصيا مذكرة التوقيف لانه لم يجد مدعيا عاما، مدنيا او عسكريا، يقبل بإصدار الامر.

وحين رفض جورج مانديل Georges Mandel (وزير داخلية) اتفاقية استسلام فرنسا لألمانيا، اتهمه الماريشال بيتان بالتعامل مع البريطانيين والتواطؤ على امن الدولة وتعكير علاقاتهم بدولة حليفة (المانيا النازية). وتذرع بيتان في اتهامه بوصول مانديل الى المغرب يوم وصل قائد القوات البريطانية في شمال افريقيا اللورد غورت Gort. بعد سماع افادة مانديل، برّأه قاضي التحقيق العسكري المقدم لوارو Loireau رغم ان السلطات ابلغته ان ترقيته رهن بتجريم الوزير السابق. غضب الماريشال واحال الدعوى بمرسوم خاص، غير خاضع لمرور الزمن، على مدعٍ عام عسكري آخر هو لوبراتر Lepretre مضيفا تهمة جديدة هي سوء استعمال المال العام. وبدوره ابي لوبراتر  ان يحكم على مانديل، فاستشاط الماريشال غيظا واشار الى اجهزة المخابرات بأن تأتيه بقاض وديع ومطيع. اختارت الاجهزة قاضيا متدرجا في مجلس الشورى ينتمي الى تنظيم سياسي مؤيد لحكومة فيشي. لكن من سوء حظ بيتان ان هذا القاضي المتدرج ميز بين انتمائه السياسي وضميره القضائي، فأيد مطالعتي سلفيه بتبرئة مانديل. بعد فترة، اغتالت اجهزة حكومة فيشي جورج مانديل بعدما رفض القضاء اغتياله قانونيا، ارسل بيتان الى المعتقلات النازية بول رينو ولم يطلق الا بعد تحرير فرنسا عام .1945 اما القاضي لوارو، فعزل وعمل عتالا في محطات السفر ليعيل عائلته (حمل الحقائب اخف من حمل الضمير).

من هنا، اذا احترم القضاء نفسه وتحلى بالنزاهة والشجاعة، كان اقوى من كل الانظمة، ديموقراطية كانت او ديكتاتورية، ملكية او جمهورية. كل شيء يتغير حسب الزمان والمكان والظروف الا القضاء. رسالته ثابتة قبل الميلاد وبعده، في الشرق كما في الغرب. هو الجزء الذي يحمي الكل، ولا احد يحميه الا نفسه. كلما اقتربت السلطة منه اضعفته وكلما ابتعد هو عنها قواها. هناك وزراء ونواب وموظفون يأتون مع الحكام ويذهبون معهم. وهناك حكام يأتون مع الاحتلال ويذهبون معه. وحدهم القضاة يأتون مع الضمير ويذهبون معه. هناك مسؤولون يجيزون لانفسهم التصرف بمنطق الغالب والمغلوب. وحدهم القضاة يتصرفون من مبدأ الحق والباطل. في كل دولة، يقسم رئيس الجمهورية اليمين مرة واحدة بالحفاظ على السيادة والاستقلال: حين يتولى مسؤولياته. اما القاضي فكل يوم يعتلي فيه قوس المحكمة يقسم على العدل والحق والحياد.

كلمة اخيرة: في لبنان، اذا سافرت، عزيزي القارئ، فلا تبحث عن عتال في محطات السفر اللبنانية، واذا ظلمت، ثق ان عام 1789 وعام 1945 آتيان.

قاوم ولا "تميز" ان الماضي لمستقبل قريب

 

صورة أشعة لعقل المسيحيين

بقلم سجعان قزي

مأساة المسيحيين في لبنان انهم كلما فكروا في ما آلت اليه خياراتهم السياسية شككوا فيها وارتدوا عليها وفقدوا تحالفاتهم. من بداية الحرب الى اليوم، وحتى اللحظة، لم يثبتوا على مشروع وطني يسيرون فيه حتى النهاية. وطرح الـ10452 كلم مربعا الذي اجمع عليه اللبنانيون، لا يزال شعارا ينقصه المضمون الدستوري والقومي.

هذا التأرجح، هل يعني ان المسيحيين معقدون "لا يعجبهم عجب"، او تراهم عانوا الامرين بسبب رهانات ظنوا انها خلاص من ويلاتهم فكانت هلاكا جديدا وباتوا يتحفظون عن كل شيء؟

يشعر المسيحيون ان غالبية صيغ الحلول التي عرضت لمعالجة "القضية اللبنانية" (الوجود المسيحي الحر والتعايش المسيحي/ الاسلامي) ارتطمت بتعقيدات تكوين لبنان وتاريخه وموقعه: اذا اعتمد المسيحيون وحدة مركزية جبهتهم الفوارق الحضارية المتفاقمة في المجتمع. واذا اقترحوا الفيديرالية واجهتهم تعقيدات تطبيقها. واذا ناداهم التقسيم وبّخهم التاريخ وعبست بهم الديموغرافا. واذا طالبوا بالعلمنة علاجا للطائفية زجرتهم الاديان واتهمتهم بالالحاد.

هذه "الاستحالات" ولّدت عند المسيحيين حالتين نفسيتين: الاولى، "شعور بالذنب" من جراء تشكيك الآخرين عمدا بطروحاتهم (وحدة لبنان امتيازات، الفيديرالية تقسيم، التقسيم خيانة)، والثانية "شعور بالقلق من جراء تشكيكهم الذاتي في صواب خياراتهم وجدوى تضحياتهم. هكذا، يعتقد المسيحيون ان قبولهم لبنان الكبير كان صحيحا ويظنون احيانا انه خطأ. يعتقدون ان المطالبة بالاستقلال كانت محقة، ويندمون احيانا على انتهاء الانتداب الفرنسي. يعتقدون ان الديموقراطية فخر لبنان، ويتمنون احيانا ديكتاتورية تفرض القانون والنظام. يعتقدون ان التصدي للمؤامرة عام 1975 كانت الموقف المثالي، ويتحسرون احيانا على شهداء سقطوا في حرب عبثية. يعتقدون ان الوجود السوري احتلال لا بد من مقاومته، ويجدون فيه احيانا مصدر امن وتوازن. يعتقدون ان "اتفاق 17 ايار"، لو وقّع، لأدخل لبنان النعيم، ويشعرون احيانا ان الغاءه انقذ البلاد. يعتقدون ان "اتفاق الطائف" اطفأ الحريق وثبّت لبنان وطنا نهائيا، ويتنبهون احيانا الى انه صادر السيادة والاستقلال وشلّ الدولة. يعتقدون ان الهجرة في زمن العولمة افضل من العذاب في وطن محفوف بالاخطار الدورية، ويرفضونها احيانا ويتشبثون بأرض الآباء والاجداد. يعتقدون ان الثنائية المارونية السنية اجدى من المارونية - الشيعية، ويؤثرون عليهما احيانا ثنائية مارونية - درزية. ويعتقدون ان الاحزاب مستقبل الحياة السياسية، ويترحّمون احيانا على ايام العائلية والاقطاعية.

اذا ربح المسيحيون معركة شغفوا بلبنان الـ10452 كلم مربعا، واذا هُزموا اقتنعوا بما تيسّر. إذا تأزمت اوضاعهم طالبوا بحماية اجنبية، واذا فرجت رفعوا راية السيادة والاستقلال. اذا وقعت "حرب الجبل" فقدوا ثقتهم بالدروز، واذا عاد المهجرون الى الشوف تناسوا كل المذابح والمجازر. اذا اعتدى فريق سني اصولي في طرابلس على حاجز سوري توهموا ان العملية جزء من مقاومة لبنانية، واذا تغنى سُنّة آخرون بالعروبة اعتبروهم حركة ضد كيان لبنان. اذا تصدى الشيعة في الجنوب للمنظمات الفلسطينية افتخروا بهم وعدّوهم وطنيين، واذا تعاطفوا مع ايران شككوا في وطنيتهم رغم مقاومتهم اسرائيل.

طالب المسيحيون باستعادة كيان لبنان التاريخي (لبنان الكبير)، وحكموه كأنه لبنان الصغير. اشاعوا ان الطائفة الدرزية اساس كيان الجبل، وتحالفوا مع السنة في دولة الاستقلال. تقبّلوا عام 1969 "اتفاقية القاهرة" مع منظمة "فتح"، وتساءلوا عام 1975 كيف اصبح الفلسطينيون دولة في قلب الدولة اللبنانية. ارسوا عام 1976 حلفا مع "سوريا الاسد"، وبعد فترة عززوا علاقاتهم باسرائيل. انخرطوا عام 1982 في محور اميركي/ اسرائيلي حمل حزب الكتائب اللبنانية مرتين الى رئاسة الجمهورية، وصاروا "يتذاكون" على اسرائيل ويضعون عليها شروطا عدائية. رفضوا عام 1985 "الاتفاق الثلاثي"، وقبلوا عام 1989 اتفاقا اسوأ منه هو "اتفاق الطائف".

لا يعود هذا التأرجح الى غياب الموقف لدى المسيحيين، بل الى اصطدام اهدافهم بالواقع. ان المسيحيين هنا لا يعيدون النظر في ثوابتهم الوطنية التاريخية لكنهم يكتشفون فشل (او افشال) خياراتهم الصحيحة نتيجة سوء التطبيق، او انحراف بعض القيادات المسيحية، او عدم تجاوب الفريق الآخر، او التدخلات الغريبة. وبخلاف ما يتراءى لبعضهم، يعرف المسيحيون، منذ قديم الزمان، ان ما يريدون هو: وجود مسيحي حر، وطن لبناني مستقل، مجتمع معدد راق، علاقات وطيدة بمحيطهم العربي/ الاسلامي، وانفتاح حضاري على العالم الغربي/ المسيحي. وحافظ المسيحيون في لبنان على هذه الثوابت في كل الظروف ولفظوا (وسيلفظون) كل قيادة جنحت عنها وساومت على الحرية والسيادة والاستقلال. غير ان المسيحيين لم يحصنوا ثوابتهم العامة بمشروع واستراتيجية وخطة عمل، فضاعوا في التفاصيل واليوميات والمصالح، وبين قياداتهم سيطر الحقد على المحبة، والانانية على الخير العام، والحاضر على المستقبل، والاعتباط على التخطيط.

وفي غياب هذا المثلث (المشروع/ الاستراتيجيا/ خطة العمل) تطورت حالة الحيرة الى حالة ضياع طالت الوسائل (شكل الدولة، حدود التعايش، خيار الحلفاء...) لكنها لم تمس بالثوابت (حرية، امن، سيادة، استقلال وانفتاح...) وما زاد ضياع المسيحيين حيال الوسائل والخيارات انهم مروا بأزمات ومآس كيانية وامنية في ظل جميع اشكال الدولة اللبنانية (من الامارة الى الجمهورية مرورا بالقائمقاميتين)، وفي ظل جميع التسويات الطائفية (من "عامية انطلياس" الى "وثيقة الطائف" مرورا بالميثاق الوطني)، وفي ظل جميع التحالفات (من الفرنسيين الى السوريين مرورا بالاسرائيليين والاميركيين). من هنا، اختلط على المسيحيين العلاج المفيد بالمضر، وشعروا ان كل دواء يتناولونه - للشفاء من ازمة - ينطوي على مفعول سلبي يولد ازمة اخرى. ولذا اصبح الاطباء يصفون لمرضاهم دواء اضافيا يعطل المفعول السلبي للدواء الاساسي (العلاج المركب). وفي هذا السياق، جرَّب اللبنانيون كل الصيغ الدستورية سوى واحدة: الفيديرالية (الصيغة المركبة)، فلمَ لا تكون مادة حوار ونقاش بين اهل الاختصاص - لا السياسيين - لمعرفة مدى ملاءمتها الامراض اللبنانية البنيوية؟

حان وقت خروج المسيحيين من حالة القلق والحيرة، والانطلاق في مشروع وطني متكامل يحدد الاهداف والوسائل والآليات، يرفضون على اساسه طروحات، ولو اجمع العالم عليها، ويقبلون اخرى، ولو رفضتها المعمورة. حان وقت تشكيل "مجلس حكماء" للطوائف المسيحية مهمته: صياغة المشروع الكبير وتصويب المسيرة، رعاية مصالح المسيحيين اللبنانيين في الوطن والمهاجر، التنسيق بين مختلف التيارات والاتجاهات، منع تقاتلها، وابقاؤها في خدمة المصالح العليا وفي اطار دولة لبنانية حرة. منذ مطلع القرن المنصرم اتخذ قادة مسيحيون قرارات وخيارات تاريخية ووقعوا مواثيق واتفاقات ومعاهدات تحت وطأة الاحداث ودهمها قبل التيقن من انسجامها مع مصلحة المسيحيين ولبنان على المديين المتوسط والبعيد. ومرت مراحل، وبخاصة في العقدين الاخيرين، تصرف قادة مسيحيون على نقيض ما اختاروا وما به التزموا، بل تصرفوا خلافا لمصلحة شعبهم. صحيح ان كل استراتيجيا اساسية تحتاج الى اخرى انكفائية (للظروف احكام). لكن الاستراتيجيا الانكفائية هي اختصار للاستراتيجيا الاساسية وليست نقيضا لها. كما ان الظروف، وهي موقتة، لا يجوز ان تصبح غطاء وذريعة لانتهاج سياسة استسلامية. هناك قادة مسيحيون تحركوا (ولا يزالون يتحركون) من خلال استراتيجيات سواهم وعلى حساب الثوابت الوطنية. ان الدول الثلاث الوحيدة، في الشرق الاوسط، التي تخضع قراراتها السياسية والعسكرية لاستراتيجيا ثابتة وانكفائية هي: اسرائيل، سوريا الاسد، وايران، والبقية تتمايل على هوى استراتيجيات القوى الاقليمية والدولية.

والمسيحيون، اثناء الحرب، كادوا يتوصلون الى وضع مشروع تغيير يعقب مشروع الصمود، لكن استشهاد بشير الجميل، والانتفاضات المتلاحقة، وتقاتل عون/ جعجع عطلت المشروع وادخلت المسيحيين حالة الخيبة والاحباط والتقاتل والتخوين.

آن للمسيحيين ان يقطعوا الاجازة الوطنية التي يمضونها، منذ اكثر من عشر سنوات، في منتجعات الاحباط والمرارة والانكفاء والتقوقع. الوطن يناديهم والمستقبل. والتطورات الجارية تفتح امامهم باب التغيير. فهل يلجونه هذه المرة متضامنين بعضهم مع بعض فيبنون مع شركائهم في الوطن دولة سيدة في محيط مشرقي جديد؟

 

المحلل السياسي اللبناني أكد أن التركيبة الطائفية  تعيق ثورة شعبية تسقط الرئيس على غرار أوكرانيا

 سجعان قزي لـ "السياسة": تغيير رئيس الجمهورية لا يجب أن يؤدي إلى تغيير هوية الحكم في لبنان

السياسة 26/2/2006:  بيروت : من سوسن بوكروم: راى الكاتب والمحلل السياسي سجعان قزي ان لبنان, وان كان مقبلا على احتمالات امنية واستحقاقات سياسية, فان الخطأبات التصعيدية من كل الجهات دليل احراج اصحابها اكثر منه دليل قوة. مضيفا ان تفاهم عون-نصر الله سيواجه تجارب عديدة قبل ان يثبت استمراريته, فيما اصبح تحالف قوى 14 آذار اشبه ب¯"ديوانية" سياسية يدخلها من يشاء ويخرج منها من يشاء وان قواه الجدية, ذات القاعدة الشعبية, تتألف من تياري المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي.

واشار قزي الى ان الادارتين الاميركية والفرنسية تدخلتا اكثر من مرة لرأب الصدع بين بعض اركانه. وفي هذا الحوار يطرح قزي موضوع القرار الدولي »1559« وفرص تطبيقه ومسالة اقالة الرئيس لحود وغيرها من النقاط.

وفيما يلي نص الحوار:

* ما مصير الحكومة بعد هذه الخطأبات والخطأبات المضادة بين قوى 14 آذار من جهة وأمين عام »حزب الله« حسن نصرالله من جهة اخرى?

- اظن ان المطروح من خلال هذه التصاريح هو مصير رئيس الجمهورية اكثر من مصير الحكومة. لن يصبح الموضوع الحكومي مطروحا الا اذا فشلت "المعارضة الحاكمة" في اقالة رئيس الجمهورية او انتزاع استقالته. حينئذ ستدخل البلاد في ازمة حكم تعجز فيه الحكومة الحالية عن الاستمرار فتتغير او تُعدَّل, هذا اذا لم تحصل تطورات دستورية اكبر من الحكم والحكومة...

* بين هذه الخطأبات النارية من كافة الاطراف اين هو دور »»تيار المستقبل«« الذي لا يشهر نفس التصريحات التي يطلقها وليد جنبلاط وسمير جعجع وغيرهما وهل هذا الدور هو الذي حافظ على وجود الحكومة?

¯ داخل كل تحالف قائم في لبنان يوجد سياسات مختلفة وحسابات مختلفة بين المتحالفين مع بعضها البعض. فغالبية التحالفات قائمة ضد اخرين لا من اجل مشروع وطني موحد.

يوجد الان في لبنان تحالفان اساسيان: الاول يضم »تيار المستقبل« و»الحزب الاشتراكي« و»القوات اللبنانية« و»حزب الكتائب« وبقايا لقاء »قرنة شهوان«, والثاني يضم التيار الوطني الحر (العماد عون) و»حزب الله« »وحركة امل« استطرادا الى قوى سياسية اخرى سنية, شيعية, درزية ومسيحية. لكن داخل كل من هذين التحالفين توجد فوارق في الستراتيجيات والتكتيك والمصالح الشخصية والاهداف النهائية.

في تحالف 14 آذار, على سبيل المثال, هناك اطراف يتمسكون بدولة مركزية واخرون يفكرون بالحل اللامركزي والفيدرالية. هناك اطراف قريبون من الاميركيين اكثر من الاوروبيين وبالعكس, وهناك اطراف قريبون من السعودية واخرون من مصر, وغيرها. كما هناك اطراف لا قضية لهم سوى سيادة لبنان. من هنا نرى التمايز الشكلي والنوعي احيانا بين مواقف سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع. واضح ان التفاهم بينهم على الامور المرحلية لا يلغي اختلافهم لاحقا على الامور المصيرية (دستور لبنان وهويته, شكل الدولة وتنظيم المشاركة في السلطة).

من هنا نرى ان نقطة الضعف الاساسية عند "المعارضة الحاكمة" او ما يسمى ب¯14 آذار, هي انها متفقة على التغيير السياسي لكنها مختلفة على التغيير الدستوري. فالمسيحيون في 14 آذار يريدون انعاش الدور المسيحي في الدولة اللبنانية, والسنة يريدون ان "يُسَنِّنوا" السلطة اكثر فاكثر, والدروز (وليد جنبلاط) ياملون لطائفتهم بحصة بحجم دورها التاريخي لا بحجم عددها فقط. وشخصيا, طالما دعوت الى توطيد العلاقات الدرزية-المسيحية بحكم التركيبة السكانية في جبل لبنان تنفتح على سائر الطوائف لبناء وحدة وطنية شاملة.

* واين مكامن الضعف على صعيد تحالف "التيار الوطني الحر" و»حزب الله«?

- التحالف بين التيار الوطني الحر و»حزب الله« يؤسس في حال نجاحه ¯ حالة لبنانية جديدة اذ طالما كانت القوة المسيحية الاساسية متحالفة مع الطائفة السُنية منذ سنة 1943. لكن على هذا التحالف الجديد ان يجتاز اكثر من تجربة حتى يتعمَّد ويقوى عوده, فالبيان الصادر عن لقاء كنيسة مار مخايل بين عون ونصر الله عام وشامل ويحتاج الى اتفاق عملي على التفاصيل. انه بيان يمكن ان يتبناه مبدئيا اي طرف لبناني لدى اتفاقه على العموميات مع طرف لبناني اخر. بتعبير اخر ان البيان هو تغطية للقاء عوض ان يكون اللقاء تتويجا للبيان. على حال, يجب ان ننظر بايجابية الى هذا اللقاء بانتظار نتائج "الامتحانات", فقيمة هذا اللقاء هو التالي: الى اي مدى يستطيع العماد عون ان يتحمل في المرحلة المقبلة مواقف نصرالله الجنوبية والاقليمية والى مدى يستطيع نصرالله ان يتحمل مواقف العماد عون الداخلية والدولية. وسنرى كيف سيتصرف الرجلان قريبا جدا تجاه استحقاقين اساسيين هما: انتخابات دائرة بعبدا-عالية الفرعية, واستحقاق رئاسة الجمهورية في حال تم اختصار مدة الرئيس الحالي اميل لحود.

* الى اي مدى خسر العماد عون دعم الاكثرية النيابية بتحالفه مع »حزب الله«?

- اذا كانت الضاحية الجنوبية هي الطريق الاقرب جغرافيا الى بعبدا, فانها الطريق الابعد سياسيا الى رئاسة الجمهورية. من هنا اعتقد ان تحالف العماد عون والامين العام ل»حزب الله« ليس افضل وسيلة لوصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية, ولكنه, في مرحلة اولى, يعطل وصول شخص اخر, او على الاقل, يوصل الى الرئاسة شخص يوافق عليه العماد عون و»حزب الله«. والمشكلة ان الذين يريدون تغيير رئيس الجمهورية لا يحبذون ضمنيا وصول العماد عون, وبالمقابل لا يستطيعون مبدئيا بدون العماد عون تغيير الرئيس.

* هل يعني ان اتفاق العماد عون مع »حزب الله« جاء كردة فعل متسرعة او لفقدان الثقة بقوى 14 آذار?

- لا يوجد سياسيون كثر في لبنان يستطيعون اعطاء شهادات ثقة للاخرين, ولا اعتبر ان مبادرة العماد عون -اكنا نؤيدها او نعارضها- هي عمل متسرع. العلاقة بين عون و»حزب الله« فرضتها التبدلات الديمغرافية في لبنان والتطورات السياسية والصراعات في منطقة الشرق الاوسط. صحيح ان هذا التحالف الثنائي يعيد النظر بالثنائية المسيحية-السنية منذ الاستقلال اللبناني, لكن العماد عون اخذ مكان الرئيس اميل لحود في المعادلة العلوية-الشيعية-المسيحية. وبحلول عون استعاد هذا المحور زخما وطنيا بحكم شعبيته المسيحية. ولكن هذا المحور لا يستطيع ان يذهب بعيدا اذ لم يجد حلا حقيقيا لوضع سلاح »حزب الله« واذا استمرت سورية بالتدخل في الشؤون اللبنانية ومضايقة السلطة والحكومة اللبنانية واذكاء الصراعات بين اللبنانيين, علما ان الاعتداء على الاشرفية (المنطقة المسيحية من بيروت) اتى من اطراف محسوبة على »تيار المستقبل« ودار الافتاء وليس على »حزب الله«.

بتعبير اخر ان مطبات امنية تواجه تحالف عون نصرالله فيما مطبات سياسية تواجه تحالف 14 آذار. واظن ان هذا التحالف الاخير يحتاج الى ازالة الفائض من حمولته, اذ اصبح اشبه ب¯"ديوانية" سياسية يدخل اليها من يشاء ويخرج منها من يشاء, في حين يفترض بتحالفٍ سياسيٍّ وطني كتحالف 14 آذار ان يتمتع بهيكلية قيادة محصورة. من جهة اخرى, بقدر ما تحالف 14 آذار على حق في مطالبه الوطنية وتجاه سورية, لا يستطيع ان يذهب بعيدا بها من دون التفاهم مع سائر الطوائف اللبنانية, فلبنان ليس اوكرانيا او اسبانيا او البرتغال او التشيلي حيث تنطلق الثورة الشعبية من الشارع وتدخل قصر الرئاسة او مجلس النواب ثم تطيح برئيس البلاد وسائر اركان السلطة. مع الاسف ان تركيبة لبنان الطوائفية خاصة ومميزة. ولقد حالت هذه الخصائص, حتى الان, دون حصول ثورة حقيقية شاملة وطنية. لقد انحصرت "الثورات" او بالاحرى الانتفاضات داخل كل طائفة ومنطقة. فراينا حركة امل و»حزب الله« يستوليان على زعامة ال الاسعد وال عسيران وال حمادة وال الخليل في الطائفة الشيعية, وراينا ايلي حبيقه ثم ميشال عون فسمير جعجع يتقدمون على ال شمعون وال الجميل وال اده... وراينا رفيق الحريري يحل مكان ال سلام وال اليافي, الخ.

* هل تتوقع انفراط عقد تحالف 14 آذار عند اول استحقاق مقبل?

- لا اعتقد ان تحالف 14 آذار عرضة للسقوط في المرحلة القريبة. هناك مصالح سياسية وغير سياسية تجمع بين اطرافه, ولا مصلحة حاليا لاي من اطرافه الاساسيين بالابتعاد عن موقعه رغم التمايز في المواقف. لقد اجتاز هذا التجمع صعوبات جمة كادت ان تطيح به. واكثر من مرة كاد ان يُذكر في صفحات الوفيات في الجرائد, لكن الاحداث الاخيرة انعشته واعادته الى الواجهة. ولا بد من الاشارة الى انه في السابق كان السفيران الاميركي والفرنسي يعطيان جرعات "الفيتامين" لهذا التحالف (الموافقة على قانون انتخابات الالفين, توحيد اللوائح, تاليف الحكومة, الخ..). اما اليوم, فتحالف 14 آذار استنبط ديناميكية جديدة مع خروج الدكتور سمير جعجع من السجن القسري وعودته الى حمل مشعل القضية اللبنانية الى جانب القوى الوطنية الاخرى.

لذا اتوقع استمرار هذا التحالف ما دام وضع الحكم في لبنان لم يتغير, لكن بعد التغيير, لكل حادث حديث نظرا الى وجود اختلافات بين تكويناته حيال النظرة الى شكل الدولة اللبنانية وهويتها وسلطتها ودستورها والصلاحيات. كادت القوات اللبنانية ان تسحب وزيرها احتجاجا على ممارسات ومسلكيات الحكومة. وسبق للدكتور سمير جعجع في اكثر من حديث اعلامي ان انتقد تصرف الحكومة واستئثار »تيار المستقبل« بالتعيينات في كل مرافق الدولة.

استنادا الى كل ذلك اقول ان التحالفات القائمة حاليا في لبنان هي تحالفات مرحلية, والتحالفات الحقيقية ستنشا بعد التغيير الشامل للسلطة في لبنان وبعد معرفة مصير القرار 1559 وبعد معرفة كل نتائج التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري وبعد بدء الانسحاب الاميركي من العراق ومعرفة مصير النزاع القائم بين الغرب وايران وسورية.

* هذا يعني ان الطريق طويل جدا?

- لا اعتقد ان لبنان انتقل من حالة الاحتلال السوري الى حالة الاستقلال الناجز او من حالة الامن العسكري الى حالة السلام التام, بل دخل مجددا في حالة ازموية خطيرة جدا لا يستطيع احد تحديد مسارها ونوعية ترجمتها على الارض. مَن كان يتصور ان احداثا كالتي تعرضت لها الاشرفية يوم 5 فبراير 2006 يمكن ان تحصل بعد? ما جرى لم نره طوال ثلاثين سنة حرب. ومن كان يتصور مسلسل الاغتيالات يعود بهذا الزخم منذ 2004 الى اليوم? من كان يتصور ان القاعدة ستتبنى عمليات في لبنان, وان السلاح الفلسطيني يعود وكان اتفاق القاهرة لم يلغ بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية? كل هذه التطورات لا تلغ العناصر الايجابية التي شهدها لبنان منذ سنة ونصف كالانسحاب السوري والتحالفات السياسية بين الطوائف والصحوة الوطنية لعدد من القادة الذين كانوا اركان حرب الاخرين على لبنان طوال 25 سنة. لكن الحالة اللبنانية لا تزال مع الاسف مفتوحة على كل الاحتمالات السياسية والامنية والعسكرية لانها مفتوحة على الصراعات الاقليمية والدولية.

في مرحلة معينة ظن اللبنانيون ان ازمة لبنان ناشئة عن ارتباطها بالنزاع الاسرائيلي-الفلسطيني فقط, واذ بهم يفاجاون بارتباط لبنان بازمات عديدة اخرى. غير ان الموضوعية تقضي بالاشارة الى انه اذا كانت القضية الفلسطينية فرضت نفسها علينا بحكم وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وبحكم اتفاق القاهرة وبحكم قيام دويلة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية, فالقضايا التي تورط بها لبنان مجددا اقحمه فيها اطراف لبنانيون ربطوا انفسهم بمحور سوري-ايراني, وبصراع شيعي-سني, وبسياسات عربية سعودية او مصرية, ودولية اميركية او فرنسية او بريطانية...

* كما استطاعت الولايات المتحدة الحفاظ على قوى 14 آذار مجتمعين فماذا سيكون دورها في التهدئة او اشعال البلد?

- لا شك ان واشنطن تريد للبنان السيادة والاستقلال والاستقرار, وتريد له ان يكون بلدا موحدا من دون الدخول في تفاصيل هذه الوحدة (مركزية او لامركزية, حصرية او فدرالية). النيات الاميركية تجاه لبنان هي نيات ايجابية, لكن المشكلة ان لبنان بالنسبة لاميركا هو جزء من ستراتيجيتها في المنطقة. وبالتالي, معيار المواقف الاميركية تجاه لبنان مرتبط بمصير السياسة الاميركية تجاه اسرائيل وسورية وبتطورات الوضع العسكري في العراق.

لقد حاولت اميركا منذ سنة ونصف تقريبا ان تحصن لبنان ضد انعكاسات احداث الشرق الاوسط, لكن هذا الاتجاه يتلاشى تدريجيا بسبب التعثر الاميركي في العراق وبسبب تباطؤ قادة لبنانيين, هم اصدقاء اميركا واوروبا, في عملية التغيير وتنفيذ القرارات الدولية. لا تستطيع اميركا وحدها ان تفصل قضية لبنان عن قضايا المنطقة ما دام افرقاء لبنانيون يزجون بانفسهم في محاور خارجية. لذا بقدر ما يحتاج لبنان الى دعم اميركا للتخلص من رواسب الحرب, لا يستطيع ان يتحمل ايضا انعكاسات السياسات والحروب الاميركية في المنطقة والعالم. من دون التقليل من وقع اغتيال الرئيس الشهيد الحريري وسائر الشهداء, ومن انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005, ومع الاعتراف بان هذه الاحداث المأساوية والسعيدة سرعت الانسحاب السوري من لبنان, ان هذا الانسحاب هو نتيجة قرار اميركي ودولي ساهم في بلورته نضال اللبنانيين وصمودهم ونشاطاتهم في المحافل الدولية طوال سنوات وسنوات.

* هذا يعني ان الاغتيالات وغيرها من الاحداث جاءت في مصلحة فرض الانسحاب وربما من مصلحة اميركا وقد حصلت على الذريعة?

- ان يجد المرء ذريعة شيء, وان يخترعها هو شيء اخر. لا اظن ان الاميركيين لهم يد في هذه الامور وليس صحيحا دائما ان صانع الجريمة هو المستفيد منها. وحتى لو كان هذا الامر صحيحا فلكل قاعدة استثناءات. ان الاميركيين وجدوا في اغتيال الرئيس الحريري وفي بعض الاحداث الامنية فرصة لتسريع تنفيذ قرار متخذ سلفا وكان سينفذ عاجلا ام مع بعض التأخير, احصلت تلك الاغتيالات ام لم تحصل.

* أليس واردا الان حرب الاخرين على ارضنا نظرا لما يجري في العراق والملف الايراني وغيرها من الاحداث في المنطقة?

- لا اظن ان اميركا تأمل خلق بؤر توتر جديدة في المنطقة بقصد تخفيف الاعتداءات على قواتها في العراق بل ارى العكس. ان اميركا اعادت النظر في مسالة التغيير الشامل للنظام السوري وفي مسألة تسريع الديمقراطية في الخليج وفي مصر بسبب تورطها في العراق. فهي تريد الان تهدئة الاوضاع في منطقة الشرق الاوسط لانها لا تستطيع ان تدير اكثر من ملف ساخن في ان معا. لا اقول ان اميركا هي الملاك الحارس لكنها ليست الشيطان الاكبر.

اميركا دولة عظمى لها مصالحها الذاتية, وعلى الاطراف اللبنانيين واصدقاء اميركا في المنطقة الاستفادة من استعداد اميركا لمساعدتهم لتحقيق اهدافهم من دون التورط في مخططات اميركا العسكرية والنفطية. وفي هذا الاطار على القادة اللبنانيين, الذين هللوا للتدويل ولقرارات الامم المتحدة, التي لولاها ما كان تغير شيء في لبنان, ان يكونوا على مستوى هذه القرارت. لا نستطيع ان نتوسل الامم المتحدة بان تصدر القرار 1559 ثم نهرول الى ابواب السفارات والعواصم الاميركية والاوروبية نطالبها باجتزاء فقرات منه. ولا نستطيع مطالبة الامم المتحدة بتثبيت وتجديد قوات الطوارئ في الجنوب وبالمقابل لا نرسل الجيش اللبناني الى هناك. لا نستطيع ان نناشد المجتمع الدولي دعم مشروع بناء دولة سيدة حرة مستقلة وان نزيد انقساماتنا الداخلية. الحرب الماضية كانت لبنانية- فلسطينية ولبنانية- سورية بديكور لبناني او بواجهة لبنانية, اما ازمة اليوم في لبنان فتبدو اكثر فاكثر صراعا بين اللبنانيين بواجهة اقليمية ودولية. هذا هو الخطر الكبير.

* أليست الخطأبات النارية الصادرة عن كل الاطراف ان كانت تلك في 14 فبراير او لقاء البريستول الاخير او خطأبات امين عام »حزب الله« مسببا لهذا الاحتقان ومن الاجدر بالسياسيين التقليل من حدتها?

- التصاريح النارية والمواقف المتطرفة ليست دائما دليل قوة بل هي احيانا دليل ضعف ومازق. التطرف الحاصل ناتج عن شعور كل القوى بانها "في الزاوية". منها من يخاف القرار 1559 ومنها من يخاف عليه. منها من يخشى انتشار اصولية متطرفة ومنها من يخشى الحد من انتشارها. منها من يبحث عن سلاح ومنها من يفاوض للابقاء على سلاحه. منها من خاب امله من مشروع التغيير ومنها من اسعده تباطؤ التغيير. كل هذا تعبير عن حرج القادة امام قواعدهم وامام حلفائهم في الداخل والخارج. من هو قوي سياسيا ضعيف عسكريا ومن هو قوي عسكريا ضعيف سياسيا. على كل حال ستكشف الاسابيع القليلة المقبلة واقع كل طرف.

* أليس هذا الامر ايجابيا لانه يشكل توازن قوى?

- كل الاطراف السياسية محكومة بمعطيات معينة. لا يستطيع تحالف 14 آذار الذهاب بمشروع التغيير ابعد مما تسمح به مستلزمات التوافق الطوائفي. ولا يستطيع تحالف »حزب الله« والتيار الوطني الحر تعطيل التغيير الكامل الى ما شاء الله. ولا يستطيع محور »حزب الله« وسورية وايران مواصلة معاندة المجتمع الدولي لانه مهدد بقرارت دولية. من هذه الزاوية هناك حدود معينة لكل الاطراف مما يحد من طموحاتها او اطماعها, لكن هذا الواقع من شأنه ان يُبقي لبنان في حالة لا حرب ولا سلم فيما يوجد امام اللبنانيين فرصة تاريخية لتحقيق الانقاذ الحقيقي والسلام الدائم. واتمنى في مرحلة كهذه ان نضع جانبا سياسة المحاور والاحلاف وتشكيل هيئة انقاذ وطني تضم تحالفي 14 آذار ومار مخايل.

* النائب سعد الحريري في زيارته الى اميركا ولقائه الرئيس بوش وكما يقال طلب تأجيل تنفيذ القرار 1559 وبالمقابل نشهد حاليا خطأبات مطالبة بتنفيذ هذا القرار من قبل اطراف متحالفة معه, كما كان موضوع شاحنة الاسلحة التي استلمها »حزب الله« سببا اضافيا لعودة هذا القرار الى الواجهة فكيف تقرا هذه التناقضات?

- قد يكون النائب سعد الحريري طالب في الاجتماعات المغلقة بما صرح به وقد يكون العكس. هذ امر ستكشفه التطورات المقبلة والمعلومات الدقيقة. اما بالنسبة الى تمرير السلاح الى »حزب الله« او الى منظمات فلسطينية او اطراف اخرى فهو خطأ مزدوج: اولا من قبل الحكومة لانه يبدو انها اشارت في بيانها الوزاري الى ضرورة استمرار دعم المقاومة. وثانيا خطأ من قبل الجيش اللبناني الذي كان عليه منع هذا الامر او على الاقل سؤال الحكومة قبل السماح بمرور الشحنة. واعتقد ان هذا خطأ كبير سيكون له مضاعفاته الصامتة وهو يضاف الى خطأ قيادة قوى الامن الداخلي التي تركت المتظاهرين يعتدون في الخامس من فبراير الحالي على منطقة الاشرفية في بيروت رغم علمها المسبق بما سيحصل.

اما من ناحية القرار 1559 فان المجتمع الدولي وجد عوائق امام تطبيقه. اذ لا يوجد في القرار لا الية واضحة لنزع سلاح »حزب الله« ولا مهلة زمنية محددة. وتبين للمجتمع الدولي ايضا ان موضوع »حزب الله« ليس متعلقا فقط بالحدود اللبنانية ¯ الاسرائيلية بل بحدود العلاقات بين الطوائف اللبنانية. ووجد ايضا ان مصير »حزب الله« لا يرتبط فقط بالانسحاب السوري من لبنان بل بالدور الايراني في منطقة الشرق الاوسط. بالاضافة الى ذلك هناك ثلاث طرق لنزع سلاح »حزب الله«: اما عمل عسكري اسرائيلي, واما عملية عسكرية اميركية, واما عملية عسكرية يقوم الجيش اللبناني. ولا اعتقد ان اللبنانيين, بمن فيهم المطالبين بنزع هذا السلاح, يؤيدون اي عمل عسكري خارجي ضد فئة لبنانية. كما ليس في وارد الجيش اللبناني, بهيكليته الحالية, التفكير بمثل هذا الامر لالف سبب وسبب. لذلك لا يبقى من وسيلة متوافرة حاليا سوى التفاوض والحوار. لكن الذين يمسكون بزمام الحوار في لبنان هم تقليديا ورسميا الرؤساء الثلاثة. اليوم, رئيس الجمهورية غير قادر على اتخاذ المبادرة بحكم المقاطعة التي يتعرض لها من قبل المعارضة الحاكمة. رئيس مجلس النواب, وان دعا اخيرا الى الحوار, فهو حليف »حزب الله« ولا يمكنه, ولو اراد في سره, ان يسمح للحوار بالوصول الى قرار بنزع سلاح »حزب الله«. اما رئيس الحكومة فمحرج بحكم الصراع السني-الشيعي في المنطقة والذي بلغ العتبات اللبنانية. لذلك يبدو الوضع في لبنان معقدا: لا حل ولا وحدة لبنانية مركزية بدون نزع سلاح »حزب الله«, ولا نزع لسلاح »حزب الله« بدون تعكير السلم الوطني وتهديد الوحدة الوطنية. وكان كل الحلول تؤدي الى اعادة النظر بصيغة الدولة اللبنانية المركزية وتسير بلبنان نحو فيدرالية ما.

* ماذا تتوقع لقرار قوى 14 آذار باقالة الرئيس لحود خلال شهر او اجباره على الاستقالة?

- مع دستور الطائف اصبح موضوع اقالة اي رئيس للجمهورية او للمجلس النيابي او لمجلس الوزراء من رابع المستحيلات تقريبا. وهذا امر يؤكد مرة اخرى النواقص الدستورية التي تعتري الطائف كاتفاق وكدستور. بعد الطائف ما عادت هذه المناصب مسؤوليات دستورية فحسب بل صارت اكثر فاكثر معاقل طائفية. وصار المس بصاحب المركز مسا بطائفته. وعلى صعيد المواد الدستورية توجد مادة وحيدة تسمح باقالة رئيس الجمهورية من دون اجتهاد واختلاف هي تهمة الخيانة العظمى. وفي هذا المجال لا اعرف من هو بريء لكي يرجم الاخر بحجر بعد ثلاثين سنة حرب شاهدنا فيها الاجرام والمجازر والفساد والتواطؤ مع الخارج.

* يتحدثون عن التصويت باكثرية ال¯¯ 85 نائبا لاختصار ولاية الرئيس?

- الحديث عن تغيير الرئيس من خلال الية دستورية لا تحظى باجماع قانوني حيالها سابقة خطيرة. اولا لان هناك تشكيكا بقانون الانتخابات الذي انتج الاكثرية النيابية الحالية. ثانيا لان الاكثرية الحالية علقت عمل المجلس الدستوري الذي هو المؤهل للطعن او عدم الطعن بنتائج الانتخابات الاخيرة (صيف 2005). كما انه السلطة الدستورية المخولة الحكم على شرعية اي تعديل دستوري. لذا, مع تاييدي لمبدا حسم موضوع رئاسة الجمهورية في اقرب فرصة, ان لجوء الاكثرية النيابية الحالية الى تصويت ما مسالة فيها نظر خاصة حين يتعلق الامر برئاسة الجمهورية. بالمقابل, على رئيس الجمهورية ان يستخلص العبر مما يحصل. فاما ان يكون قادرا على استعادة المبادرة وعلى لعب دوره كرئيس للجمهورية وعلى حفظ كرامته وكرامة المنصب الذي يشغل والطائفة التي يمثل واما ان يتصرف وفق ما تمليه مصلحة البلاد العليا. واعتقد بكل اخلاص ان مصلحة لبنان تقضي باستقالة الرئيس شرط ان يتم الاتفاق على بديل اخر لديه سياسة اخرى, وان يحظى هذا البديل بمباركة البطريرك الماروني. وبصراحة, ومع ايماني المطلق بنية بعض المطالبين باستقالة الرئيس لحود وفي طليعتهم الدكتور سمير جعجع, المؤتمن على ارث شهداء القضية اللبنانية, اخشى ان يكون هدف المطالبين الاخرين باستقالة رئيس الجمهورية تغيير هوية الحكم في لبنان وليس فقط تغيير رئيس الجمهورية. ولكي لا نعود الى سنة 1992, بدانا نلاحظ هذا الامر منذ الانتخابات النيابية وبعد تاليف حكومة الرئيس السنيورة والطريقة التي يضع فيها فريق من الاكثرية يده على كل مراكز السلطة الامنية والسياسية والاقتصادية والمالية والادارية والسلكية واللاسلكية في البلاد. لا نريد ان ننتقل من احتلال غريب الى هيمنة طائفية جديدة.