واضعو الطائف انقلبوا عليه ورافضوه يطالبون بتعديله

سجعان قزي

 

حين يدعو الرئيس أمين الجميل إلى تصويبِ اتفاق الطائف وتطويرِه يعني أنه يعترف به، فليس مَن يُصوِّب ما لا يتمنى نجاحَه، وليس مَن يطوّر ما لا يريد استمراره. لكنَّ اتفاق الطائف، كسائر الاتفاقات الميثاقـيّـةِ والدستوريّـة اللبنانية، وُضع تحت ضغطِ وضعٍ عسكريٍّ متفجِّر، وتدخُّـلٍ خارجيٍّ مؤثِّر، فأتى اعتباطياً يعالج مأزقاً ظرفـيّـاً على حساب الجوهر والمصير.

 

تَـعلّـق به السنّـةُ إذ ضاعف صلاحـيّـاتِهم.

مشى به الشيعةُ قبلَ أن يَتجاوزَه حزبُ الله ويُنشِئُ دولته.

لم يُـبالِ به الدروزُ لأن دائرةَ نفوذِهمِ قائمةٌ، ومجلسَ الشيوخ ظلّ وعداً.

تَحفّـظ عنه المسيحـيّـون لأنه سَلب صلاحـيّـاتِ رئاسةِ الجمهورية، سَدّد طعنةً نجلاءَ إلى المارونـيّـةِ السياسيّـة واستباحَ، في ما بعد، مناطقَهم.

أما الدولُ العربـيّـةُ والأجنبـيّـة، فأيّدت الاتفاقَ للتملُّصِ مرحلـيّـاً من "الهمِّ اللبناني" غيرَ عابئةٍ بمدى ملاءمتِه لبنان.

 

وعدا استمرارُ الاختلالِ الديمغرافيِّ لمصلحة المسلمين، إن الظروفَ التي فرضت الطائفَ سنةَ 1989 زالت أو تَـعدّلت أو عُكِست:

 

1 ـ داخلياً، تبعثرت وِحدةُ المسلمين أمام الصراع السنيِّ ـ الشيعي، أُسقط العنصرُ المسيحي الأساسي الذي قـبِـل الطائف (القوات اللبنانية بين سنتي 1994 و 2005) وكذلك العنصرُ المسيحي الأساسي الذي رفضه (إزاحة عون ثم نفيه سنة 1991).

 

2 ـ عربياً، تشتَّت شملُ المحورِ السوري السعودي المصري، انزوى التحالفُ السوري ـ الأميركي، وتعطلت مفاوضاتُ السلام بين سوريا وإسرائيل.

 

3 ـ دولـيّـاً، انتشرت الولاياتُ المتحدةُ الأميركية عسكرياً في المنطقة، وخاضت مباشرةً ـ حتى الآن ـ ثلاثَ حروبٍ في الكويت فأفغانستان فالعراق.

 

رغم جميع هذه المتغـيّرات لا يزال اتفاقُ الطائف ساريَ المفعول بحكمِ الأمرِ الواقع، ويَتمسَّك البعضُ به امتيازاً كما يتمسّك حزبُ الله بسلاحه. وبعد أن كان هذا الاتفاقُ "الأضحى اللبنانيَّ" المقَدّمَ حتى تتفرّغَ الولاياتُ المـتّـحدة الأميركـيّـة لملفاتِ الشرق الأوسط، حولـتّـه سوريا وإيران غطاءً لاحتلالِ لبنان وزعزعةِ استقرارِ المنطقة ومواجهةِ الولايات المـتّـحدة والعرب.

 

في ظلِّ دولة الطائف، الخاضعةِ لاحتلالٍ سوريٍّ بتكليفٍ أميركيٍّ مباشَر، نما الإرهابُ في لبنان والمنطقة، امتدت الأصولياتُ الإسلامية المسلحة، برزَ حزبُ الله وقاومَ ثم خاضَ سنةَ 2006 حرباً بطولـيّـةً دمّرت لبنان، عاد الفلسطينـيّـون يَتسلّحون داخلَ المخيمات وخارجَها، تعطّلت الديمقراطـيّـةُ اللبنانية، تَـرنّح ميثاقُ التعايش، اندثرت التقاليدُ السياسـيّـةُ العريقة، وغارَ لبنان في عهدِ انحطاطٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ وحضاريّ.

 

تنـبّـهت أميركا متأخرةً للواقع، فأخرجَت سوريا من لبنان سنةَ 2005 بسببِ سوءِ سلوكِها في حربِ "تحرير العراق" سنةَ 2003 وكانت هي التي أدخلَتها إليه لِـ "حسنِ سلوكِها" في حربِ تحرير الكويت سنةَ 1991. وأهملت أميركا المسارَ السوريَّ بعدما عمِلت في تسعيناتِ القرنِ الماضي على إشراكِ دمشق في مفاوضاتِ سلامٍ مباشرةٍ ومنفردةٍ مع إسرائيل.

 

انسحابُ السوريين من لبنان لم يحسِّنُ حظوظَ اتفاقِ الطائف، بل ظهرت نواقصُ دستورِ الطائف الـبُنـيَويّـةِ وعيوبُـه القانونية؛ وتبـيَّـنَت استحالةُ تطبيقِه لأنه أقامَ اختلالاً دستورياً وسياسياً بين السلطتين التشريعـيّـةِ والتنفيذيّـة من جهة، وبين موقِـعَيْ السلطةِ التنفيذيّـة من جهةٍ أخرى (رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء).

 

وعبثاً نحاول تحسينَ سلوكِ دولة الطائف وأدائها بدون تغييرٍ في نظام الطائف. إن اتفاقاً لم يَتِم تطبيقُـه طَوالَ عشَرينَ عاماً، لا في ظلِّ دولةٍ محتلةٍ ولا في ظلِّ دولةٍ مستقلة، ورغم تَـبَدُّلِ المسؤولين والظروفِ والعهودِ والحكومات، هو اتفاقٌ يحمِل في جيناتِه بُذورَ سوءِ تطبيقه.

 

قد تكونُ مرحلةُ ما قبلَ الانتخاباتِ النيابـيّـة غيرَ ملائِمةٍ لتعديلِ اتفاقِ الطائف، لكن طرحَ الفكرة مناسبٌ جداً لوضعها على جدولِ أعمال طاولةِ الحوار وتحضيرِ الرأي العام للتغيير. وفَضْلُ الرئيس أمين الجميل أنه هزَّ شجرةَ "جَـوْزِ الهِند" وفتحَ مساحة حوارٍ بين اللبنانيين لإعادةِ تقويمِ اتفاقِ الطائف بعد عشرين عاماً على إصداره وسوءِ تطبيقه.

 

لكَثرةِ ما استباح النظامُ اللبناني ـ السوري السابق اتفاقَ الطائف، فقدَ الدستورُ حرمتَه وبكارتَه وكرامتَـه، وصار دستوراً لا يُشرِّف واضعيه ولا يُـغري معارضيه. لم يَـعد الطائفُ "كتاباً" محترَماً، بل ورقةً تتلاعب بها مصالـحُ الحكّام ونزواتِ الأطراف السياسيين وأهواءِ الدول الخارجية.

 

والمفارقةُ الكبرى هي أن كلَّ رؤساء الجمهورية الذين بلغوا سُـدَّة الحكمِ على أساسِ اتفاقِ الطائف وأدّوا القسَمَ على دستوره، هم الذين طالبوا بتعديلِه أو تصويبِه، من الياس الهراوي مروراً بإميل لحود وصولاً إلى ميشال سليمان. والمفارقة المعـبِّرة أيضاً أن الرؤساءَ الثلاثةَ طالبوا بتعديلِ ذاتِ البنودِ التي اختبروا شوائـبَها العملية (صلاحـيّـةُ رئيسِ الجمهورية في حلِّ المجلسِ النيابي، في المشاركةِ في وضعِ جدولِ أعمالِ مجلس الوزراء، في مُـهَلِ توقيعِ المراسيم وإعادتِها بين المؤسستين التنفيذيّـة والتشريعـيّـة، في سلطته في إقرار المعاهدات الدولـيّـة، ودوره في حماية تكوين السلطة القضائـيّـة).

 

ما خلا المسؤولين السُـنّـةَ الذين يعتبرون الطائفَ سلاحَهم الدستوري (وهم مخطئون بعد اعتمادِ "ثلثِ حزب الله" المعطِّل)، غالِبيةُ الأطراف الأخرى تطالب بأشكالٍ شـتّـى بتصويبِ أو تطويرِ أو تعديلِ اتفاقِ الطائف. لكن الغايةَ من هذه المطالبةِ متباينة، لا بل متناقضةٌ أحياناً. فأطراف، غالِبيتُهم مسيحية، يطالبون بتصويب الطائف لتحقيق مساواةٍ بين مكـوِّنات الوطن الطائفـيّـة ومؤسَّساتِه الدستوريّـة؛ وأطرافٌ، غالبيتُهم مسلمة، وبخاصةِ شيعـيّـة، يطالبون بتعديله لاستكمالِ الهيمنةِ على مفاصلِ الدولة (المثالثةُ، انتخابُ نائبٍ لرئيس الجمهورية، الثلثُ المعطل، والقراراتُ التوافقية).

 

وسواءٌ رفضنا اتفاقَ الطائف أم أيّـدناه، يسجّل المسيحيون أنه أُبرِمَ في غيابِ قادتِهم البارزين ومعارضتِهم إياه. فأمين الجميل وميشال عون وريمون إده وداني شمعون وسواهم رفضوا الاتفاق آنذاك، فيما تقـبَّـله البطريرك صفير لإنهاءِ الحرب، وتَعـثّر به سمير جعجع ليتخلَّصَ سلمياً من عون، لكن الصراعَ بينهما حسمه السلاحُ والدمُّ الطاهرُ البريء، فأُخرجَ عونُ من القصرِ وأُدخلَ جعجع إلى السجن لاحقاً.

 

إن اتفاقَ الطائف في ذاكرة المسيحيين اللبنانيين هو اتفاقُ الغالبِ والمغلوب، واتفاقُ الإذعان المسيحي، وهو، خصوصاً، الاتفاقُ الذي جـمّـد الحربَ بين الجيشين اللبناني والسوري، وفتحَ حرباً أخويّـةً بين ألويةِ الجيش اللبناني التابعةِ للجنرال عون والقواتِ اللبنانية التابعةِ لسمير جعجع.

 

إثرَ تحويلِ اتفاقِ الطائف دستوراً ونظاماً، وافق عليه القادةُ المسيحيون تباعاً على أملِ تحسينِه تدريجاً حسب متطلباتِ الحكمِ ومقتضيات الظروف. لكن الاحتلالَ السوري الذي جَثَم على صدرِ الدولةِ اللبنانـيّـة أرضاً وشعباً ومؤسسات، جمّد تطبيقَ الطائفِ السعودي ـ الأميركي، وطـبّـقَ طائفاً سورياً ـ إيرانياً (ثَـبَّـتَه اتفاقُ الدوحة) وسطَ زغردةِ المتعاملين مع سوريا وإحباطِ غالِبيّـة المسيحيين.

 

البنودُ التي يطالبُ المسيحيون، اليوم، بتعديلِها في اتفاقِ الطائف، إجرائـيّـةٌ لا ميثاقـيّـة، تتعلّق بالدولةِ لا بالوطن. وهي تعديلاتٌ تهدفُ إلى تأمينِ حسنِ سير أعمالِ الدولة لكي تتمكنَ من تقويةِ دعائمِ الوطن وثَباتِ الميثاق. أما البنودُ التي يَخرقُـها الآخرون يومياً، فهي ميثاقـيّـة لا إجرائـيّـة وتمنع قيامَ الدولةِ وتَـألقَ الميثاق.

 

بعد اتفاقِ الطائف تصدّعت الوِحدةُ الوطنية، مع أن الولاءَ صار لـ"لبنان أَوّلاً" والاعترافَ به صار نهائياً، أكثرَ مَـمّـا قَـبْـلَ الطائف زمنَ كان الولاءُ للبنان ناقصاً والاعترافُ به مرحلـيّـاً.

 

وحين يطالبُ قادةٌ مسيحـيّـون في 8 و 14 آذار بتصويبِ أو تطوير أو تعديل البنودِ الإجرائـيّـةِ في اتفاق الطائف، لا يجوز أن يَشهَرَ المسلمون ضِدَّهم، وضُمناً ضِدَّ رئيسِ الجمهورية، سيفَ تعديلِ البنود الميثاقـيّـة كإعادةِ النظرِ بنهائـيّـة الوطنِ والمناصفة. مثلُ هذه الردودِ تكشفُ ضُعفَ الروحِ الميثاقـيّـة بين اللبنانيين، كأنَّ ولاءَ البعضِ للبنان مرهونٌ بصلاحياتٍ طائفيةٍ لا بإيمانٍ ثابت بالوطن، وبالسيطرةِ على الدولة لا بالمشاركةِ والمساواة. إن تهديدَ بعضِ القادةِ المسلمين بالرجوعِ عن مبدأِ المناصفةِ بين المسيحيّين والمسلمين يترك، بصراحة، شعوراً لدى المسيحيّين بأن مسلمين يـتّـخذون منهم رهينةً لمنعِ تطويرِ النظام.

 

ومن سخرياتِ القدَر أنَّ الذين رفضوا اتفاق الطائف في البداية، يطالبون اليوم بتطويرِه فقط، بينما الذين وضعوه وأيّـدوه واستغلّوه انقلبوا عليه منذ صدورِه:

*ألم يُـعَـدَّل اتفاقُ الطائف برفعِ عدد النواب إلى 128 نائباً؟

*ألم يُـعَـدَّل بتعيينِ نوابٍ بدلَ انتخابِهم؟

*ألم يُـعَـدَّل سنةَ 1992 بإجراءِ انتخاباتٍ نيابـيّـةٍ قاطعها نحو 90% من الشعب المسيحي؟

*ألم يُـعَـدَّل بتقسيمِ الدوائر الانتخابية حسبَ مصالحِ الاحتلال السوري؟

*ألم يُـعَـدَّل بالتمديدِ القسريِّ للرئيسين الهراوي ولحود؟

*ألم يُـعَـدَّل بجمعِ السلاحِ بشكلٍّ انتقائيٍّ من فئات دونَ أخرى وباحتفاظِ حزبِ الله بجيش كامل؟

*ألم يُـعَـدَّل حين امتَـنَـعَت الدولةُ اللبنانية عن مطالبةِ سوريا بإعادةِ انتشارِ جيشِها إلى البقاع بعد سنتين من توقيع الطائف؟

*ألم يُـعَـدَّل باستمرارِ الاحتلالِ السوري واستيلائِه على القرار الوطني؟

*ألم يُـعَـدَّل حين تم سنةَ 1994 تجنيسُ ربعِ مليون غريب غالِبيتُـهم الساحقةُ من غيرِ المسيحيين ومن غير مُستحقّي الهويّةِ اللبنانية؟

*ألم يُـعَـدَّل حين تجاوز رؤساءُ الحكوماتِ والمجالسِ النيابـيّـة صلاحـيّـاتِهم واختصروا بشخصِهم دورَ المؤسسات؟

*ألم يُـعَـدَّل حين حصلَ تطاولٌ في التسعينات على ما بقي من صلاحيات لرئيس الجمهورية ؟

*ألم يُـعَـدَّل حين حصرَ المؤتمِرون في الدوحة (21 أيار 2008) حِـصّـةَ رئيسِ الجمهوريةِ بثلاثةِ وزراء فقط لا غير؟

 

وفي نفسِ السياق، مطالبةُ نائبُ رئيسِ المجلسِ الشيعيِّ الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، قبل نحو شهرين، بتعيينِ نائبٍ لرئيس الجمهورية، أليست نقضاً لاتفاقِ الطائف؟ وقولُـه في مطلع هذا الشهر "إننا مع سوريا شعبٌ واحدٌ في دولتين" أليس انقلاباً على الاعترافِ بنهائـيّـةِ الوطن اللبناني؟ وطرْحُ الجنرالِ ميشال عون موضوعَ صلاحياتِ نائبِ رئيس مجلس الوزراء أليس مطالبةً بتعديلِ اتفاقِ الطائف؟ وفرضُ حزبِ الله التوافقَ عوضَ التصويتِ في مجلسِ الوزراء أليس تعديلاً جوهريّاً وميثاقـيّـاً في اتفاقِ الطائف؟

 

والمؤسف، أن حملاتٍ إعلاميةً وسياسيةً وتخوينـيّـة تُـنظَّم ضد الذين يَنشدون المساواة، في حين لا يعلو صوتٌ ضد المجاهدين للهيمنة، وضِد الذين نحروا الطائفَ طَوال عشرين عاماً.

 

إن المسيحيّين يطالبون بتعديلِ اتفاقٍ لم يُطـبَّق مرةً واحدة، والمسلمون يدافعون عن اتفاقٍ عُدِّل مراراً. ما يستحقُّه لبنان اليوم، ليس أن يختلفَ اللبنانيون حول اتفاقِ الطائف، بل أن يـتّـفِقوا على نظامٍ جديد. ففي الاتحادِ وحدةٌ، وفي الوحدةِ قوة.

 

* جريدة النهار في 19 كانون الأول 2008