المسيحيون بين حقوقهم ودورهم وصلاحياتهم

بقلم سجعان قزي

جريدة النهار في 07 آب 2008

 

يمزج المسيحيون اللبنانيون، لاسيما الموارنة منهم، بين حقوقهم ودورهم وصلاحياتهم. حقوق المسيحيين هي نفسها التي يتمتع بها أي مواطن لبناني. ولأنها كذلك يحفظها الدستور والقانون، ولو أصبح عددهم واحداً فقط (قاعدة المساواة). غير أن دور المسيحيين هو المميز. ولأنه كذلك فلا يضمنه سواهم، ولو اعترف به ألف ميثاق وألف عُرف؛ وضمانته سلوك مسيحي خلاّق وطنياً وحضارياً وأخلاقياً (قاعدة الاستحقاق). أما صلاحياتهم فهي مُحَـصِّلة دستورية لمجموعة عناصر تاريخية ومشرقية وغربية، ولمجموعة موازين سياسية وعسكرية وديمغرافية. ولأنها كذلك فهي عرضة للتقييم حسب تطور مجموعة هذه العناصر والموازين، ولكن مهما تعدّلت هذه الصلاحيات، لا يجوز أن تمس دور المسيحيين السياسي والوطني، أو حقوقهم الإنسانية والطائفية في لبنان (قاعدة التعددية الحضارية).

 

مسؤولية ضعف الدور المسيحي

لذلك، حريّ بالمسيحيين أن يَشْكوا من ضعف دورهم لا من افتئات حقوقهم، ومن تساهل عدد من قادتهم لا من تقليص صلاحياتهم. فحقوق كل المواطنين مهضومة بحكم تقصير الدولة وعجزها البنيوي والمادي. وصلاحيات كل الطوائف معطلة مع تغييب الدولة، أو تُمارس خارج الشرعية.

 

كانت الدولة اللبنانية تشبه سيارة يقودها ماروني بصلاحيات تسمح له التحكّم بالمِقْـوَد وعُلبة السرعة والفرامل. جاء دستور الطائف فأبقى المِقْـوَد بيد الماروني، وانتزع منه السنّي علبة السرعة والشيعيّ الفرامل، فتوقفت السيارة لأن كل طرف استعمل الجزء الذي استولى عليه باتجاه معاكس للجزأين الآخرَين. واليوم الدولة اللبنانية في المرآب، وغداً قد تُباع قِطعَ غِيارٍ مستعملة لدويلات ناشئة (مشهد مبكٍ)، لكن الماروني والسني والشيعي سيحتفظون بالمقود وعلبة السرعة والفرامل من دون سيارة (مشهد مضحك).

 

من هنا، إن إثارة حقوق المسيحيين وصلاحياتهم فكرة زائفة. طارحوها ـ وهم كثر ـ يبحثون عن انتزاع نفوذ انتخابي في المجتمع المسيحي، لا عن استعادة نفوذ مسيحي في الدولة اللبنانية. وإذ يطرحونها فلتغطية تفريطهم، سابقاً وحاضراً، بدور المسيحيين (وهو يشمل الحقوق والصلاحيات)، ولتحوير الاهتمام من القضية الوطنية المصيرية إلى القضايا الطائفية الصغيرة.

 

من فَـرَّط، عبر السنين، بدور المسيحيين عن سابق معرفة هو خائن. ومن فَـرَّط به نكاية بآخر هو حاقد. ومن فـرّط به في إطار تسوية غير عادلة هو ضعيف. ومن فـرّط به لتمرير مرحلة هو مخطئ. ومن فـرّط به لمصلحة غرباء هو عميل. ومن فـرّط به في إطار صفقة عامة هو متواطئ. ومهما كان نوع التفريط، جنحة أو جناية، لا يحق لهؤلاء أن يغشّوا، بعد، الشعب المسيحي.

 

ماضياً، كان الانطباع بأن لبنان بلد المسيحيين، ويجب ـ من باب المساواة ـ تحسين شروط مشاركة المسلمين في حكمه. حاضراً، الانطباع أن لبنان يتحوّل تدريجاً بلداً إسلامياً، ويجب ـ من باب اللياقة ـ حفظ حقوق رمزية للمسيحيين الباقين فيه.

 

عبر الثلاثين سنة الأخيرة، أخفقت المراجع المسيحية في تثبيت هوية لبنان المميزة، في ترسيخ الوجود المسيحي والمحافظة على دوره السياسي في الدولة، وفي توثيق علاقات المسيحيين لبنانياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. فبدا المسيحيون منقسمين سياسياً (وكانت قوتهم بوحدتهم)، وضعفاء عسكرياً (وكانت هيبتهم بمقاومتهم)، ومتراجعين حضارياً (وكانت ميزتهم برقـيِّهم)، وهزيلي التمثيل (وكان شموخهم بممثليهم الوطنيين)، ومعزولين خارجياً (وكانت فطنتهم بتحالفاتهم الإقليمية والدولية). أدت هذه الإصابات المباشرة إلى تَوعُّك الدور المسيحي في الوطن وتقلُّص صلاحيات المسيحيين في الدولة.

 

رجاء من وحي الوقائع

الخروج من هذا القعر يستدعي إدراك المسيحيين مدى التقهقر الذي بلغوه، فلا يُحبطون وييأسون لأنهم أتباع من قال "بالإيمان تنقلون الجبل من مكان إلى آخر"؛ ولا يكابرون ويتصرفون وكأنهم غداة إعلان لبنان الكبير. وحده إدراك المأساة يحدث الصدمة، والصدمة توقظ الضمير، ويقظة الضمير تثير انتفاضة شعب. قلتُ انتفاضة شعب لا انتفاضة شعبية. الأولى تسير عادة بهدي العقل، والثانية تنقاد أحياناً للغريزة. العقل بنى لبنان والغريزة هدمته.

 

صوت العقل يدعو المسيحيين اليوم إلى اعتبار رسالتهم أسمى من حقوق افتراضية وصلاحيات نظرية. صوت العقل يناشدهم أن ينهضوا من سباتهم لأن هناك فرصة تسمح لهم باستعادة المبادرة والتموضع الجديد في لبنان والشرق الأوسط رغم ضعف يعتريهم. صوت العقل يناديهم إلى تحديث (لا تغيير) دورهم في إطار بنية دستورية لبنانية جديدة (لامركزية موسعة، حياد حقيقي، ومجتمع مدني). لكن تلبية نداء العقل (والمستقبل) تحـتّم الاعتراف بالمتغـيّرات المرحلية الحاصلة من جهة، وتخطيها بإرادة ثابتة وبمشروع تغيير من جهة أخرى. ابرز هذه المتغيرات هي:

 

الواقع المسيحي (كثافة الهجرة، تقتير النسل، تهجير داخلي، اختلال سلم القيم، حَجْر على الـنُـخب، قُحْطُ الأحزاب المسيحية، تباطؤ النهضة الكنسية، إهمال المغتربين، والتخلي القسري عن مواقع في إدارة الدولة).

 

الواقع الإسلامي (دَفق تناسلي مُتعمَّد، نمو الولاء الوطني اللبناني، مطالبة إسلامية متصاعدة بالسلطة، انقسامات مذهبية حادّة، شيوعُ الأصوليات السنية المتطرفة، وتفشّي الحالة الجهادية الشيعية).

 

الواقع اللبناني العام (انسحاب الاحتلال الإسرائيلي والجيش السوري، استمرار النفوذ السوري وتعاظم التأثير الإيراني، بروز حزب الله كدولة أمر واقع، انقباض دينامية الدور السني، تحول الوجود الفلسطيني حالة استيطانية، زعزعة كيان الدولة ومؤسساتها، تهاوي صيغة التعايش الطائفي، قناعة لبنانية عامة باعتماد اللامركزية الموسعة، تزايد الاتجاه نحو إتباع سياسة الحياد، وبقاء القرارات الدولية من دون تنفيذ حقيقي).

 

الواقع الإقليمي (وجود أميركي عسكري متعثر في الشرق الأوسط، تعرض دول المنطقة لتغيير أنظمتها أو في أنظمتها ولتعديل كياناتها أو في كياناتها، بروز دور إيراني جامح ذي آفاق نووية بموازاة دور عربي مبعثَر ودور تركي ملتبِس، تراجع مشاريع القوميات ونهوض الإتنيات والأصوليات، انتشار الإرهاب، مراوحة ملف السلام الفلسطيني مكانه، وانحسار الوجود المسيحي في المنطقة).

 

الواقع الدولي (سياسة أميركية تزاوج بصعوبة بين المبادئ والمصالح، انهماك روسيا بمحيطها المباشر وإعطاؤها الأولوية للنمو الاقتصادي والمالي، حصول شعوب صغيرة على حقوقها القومية، تراجع انطلاق الدور الآسيوي لاسيما الصيني والياباني، حركة أوروبية بدون تأثير، واستمرار ضعف دور الأمم المتحدة).

 

دراسة مختلف هذه المعطيات ممر إجباري لتحديد موقف مسيحي حديث في لبنان، لأن الدور الطليعي الذي اضطلع به المسيحيون، وبخاصة الموارنة، في بداية القرن الماضي، أتى ثمرة تلاقي الوقائع الخمسة الآنفة الذكر أو تناقضها. اليوم، وقد تعدّل مضمون هذه الوقائع، فتحديث دور المسيحيين، في إطار دستوري جديد، ربما يستوجب الحصول على مواقع وصلاحيات أخرى، من دون أن يعني ذلك إضعافاً للوجود المسيحي الوطني. التحديث ليس مرادفاً للضعف، والجمود ليس مرادفاً للقوة. إن الغاية هي إغناء الدور المسيحي لا إفقاره، تفعيله لا تهميشه، والبحث عن مردود مفيد عملياً بدل مردود برّاقٍ نظرياً وغير ذي جدوى عملياً. هكذا يبقى الدور المسيحي في لبنان مميزاً وطليعياً.

 

تحديث على أصالة

إذا كان المسيحيون يفكرون اليوم بتحديث دورهم فلأنهم قلقون على مصير لبنان، لا على مصيرهم فقط. وهم فعلوا ذلك في كل منعطف تاريخي لبناني أو مشرقي بغض النظر عن موازين القوى (راجعوا التاريخ تتأكدون). إن المسيحيين اليوم، رغم كل واقعهم الأليم والخطير، هم أقل فئة محرَجة أو مأزومة في لبنان (حلّلوا تتيقّنون). وفي كل مرة، كان تحديث دور المسيحيين يأتي منسجماً مع رسالتهم التاريخية ومع وحدة لبنان. لم يختر المسيحيون يوماً مشروعاً لهم لا يخدم الكيان اللبناني، أي كل اللبنانيين، لا بل حصل لهم أن عرّضوا (بسبب الانقسام الطائفي) مصلحة لبنان للخطر من أجل الحفاظ على وحدة لبنان (قبولهم اتفاق القاهرة سنة 1969).

 

إن الدور الذي اضطلع به المسيحيون طوال القرن الماضي تقريباً، جزء منه أصيل وغير قابلٍ تعديلٍ جوهري، والجزء الآخر منه مرحلي مارسوه بالنيابة من دون وكالة. الجزء الأصيل هو: تأسيس الدولة اللبنانية، وضع صيغة التعايش اللبناني، تحديد الدور المسيحي السياسي في السلطة المركزية، تركيز النظام الديمقراطي الضامن حريات وأمن الجماعات اللبنانية، تأكيد التعددية الثقافية والحضارية، الانفتاح على العالم العربي، ولعب دور الجسر بين الغرب والشرق. أما الجزء الآخر المرحلي فهو: استحواذهم (المبرَّر سابقاً) على غالبية المراكز الأساسية في كل مفاصل الدولة، وإدارتهم الدولة المركزية وكأنها مدنية فيما هي جسم مضاف إلى الحالة الطائفية.

 

الدور المسيحي المرحلي، وبخاصة الماروني، أفاد لبنان إذ حافظ على كيانه المستقل وأنقذه من محاولات الذوبان، لكنه أذى الدور المسيحي الأصيل إذ حسدهم عليه المسلمون فاستهدفوه، وتصارع عليه الموارنة فدمَّموه.

 

لذلك، من صالح المسيحيين اليوم أن يزيلوا الأورام العالقة بدورهم الأصيل (مديرية الأمن العام لم تكن وَرَماً ويجب استعادتها)، وأن يتحرروا من عقدة الامتيازات (إنها شيكات من دون رصيد). ومن صالحهم أن يتقبلوا، بجرأة الواثق من نفسه، حصول مسلمين يؤمنون بلبنان أولاً، على صلاحيات جديدة (الدور المسيحي المرحلي السابق). إذا نجح المسلمون في التجربة الجديدة ينتصر الجميع، وإذا فشلوا فلا بد من خيارات دستورية أخرى. وبانتظار نتيجة التجربة، أجدى بالمسيحيين، لكي يحافظوا على دورهم في السلطة المركزية والشأن السياسي، أن يعززوا دورهم أيضاً في السلطة اللامركزية المناطقية فيحوِّلوا مناطقهم أقاليمَ مزدهرة، منيعة، متمتعة باكتفاء عام ومتفاعلة مع سائر أقاليم الوطن. وأَولى بهم أن يزيدوا تأثيرهم في المجتمع والإدارة، في الثقافة والعلم، في الجيش والأمن، في الزراعة والإسكان، في البيئة والسياحة، في التكنولوجية والمهن الجديدة. وأجدى بهم أيضاً أن يؤكدوا حضورهم الفاعل في مجلسي النواب والوزراء لا في رئاسة الجمهورية فقط، وفي حل صراعات الآخرين من دون المشاركة فيها.

 

هكذا يلعب المسيحيون دور ناظم الحكم عوض دور القابض على الحكم، ودور المرجعية الموقَّرة والنافذة عوض دور الوالي المـتَّهم والعاجز. لكن هذا الدور المسيحي المحدَّث والمترفِّع لا يستوي ما لم يستوعب المسيحيون أبعاده، وما لم يَسمُ الشركاء اللبنانيون الآخرون إلى نفس المستوى، فلا يستغلوه ليقبضوا على السلطة ويهيمنوا على الدولة.

 

في وطن كلبنان، حيث الدولة ضعيفة، والقرارات تؤخذ بالتوافق ـ لئلا نقول بالتعطيل ـ الصلاحيات الدستورية الفائضة عبء يحمله صاحبها بالسخرة. بعد الطائف، وحتى قبله، لم تنفذ الدولة قراراً إدارياً (تغيير مدير عام)، أو أمنياً (تدخل الجيش)، أو سياسياً (إقالة وزير)، أو دستورياً (انتخاب عسكري رئيساً)، أو مصيرياً (السلام مع إسرائيل) بدون توافق طائفي.

 

الصلاحيات الإفتراضية والدور الفعلي

لقد سُرَّ من سُر حين حوّلوا في الطائف جزءاً أساسياً من صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلسي النواب والوزراء. لكن، ماذا فعل مجلس الوزراء بسلطاته الجديدة؟ أكلها الصدأ... هل استطاعت الحكومة أن تستعمل صلاحياتها الضخمة في غياب وفاق وطني طائفي؟ هل استطاعت أن تعين وزراء بدلاء بعد استقالة وزراء أمل وحزب الله سنة 2006؟ إن انتقال الصلاحيات كان انتقال الوجاهة، لا النفوذ، من طائفة إلى أخرى.

 

وحدها قوى الأمر الواقع المسيحية والإسلامية، أكانت مقاومة أم أحزاب أم ميليشيات عسكرية أم ميليشيات مالية، قادرة على استعمال صلاحياتها غير الشرعية وتنفيذ قراراتها الأحادية بدون وفاق (أحداث الحروب اللبنانية من 13 نيسان 1975 إلى 7 ايار 2008 مروراً بـ 12 تموز 2006). من هنا إن جوهر الموضوع ليس حجم صلاحيات رئاسة الجمهورية بالنسبة إلى رئاستي مجلسي النواب والوزراء، بل هو حجم صلاحيات الدولة (لا رئيسها) بالنسبة إلى الطوائف عموماً، وحجم الدولة الشرعية بحد ذاتها بالنسبة إلى الدويلات غير الشرعية. بكلمة، لا قيمة تنفيذية لصلاحيات مسؤولي الدولة في غياب التداول الديمقراطي على السلطة، ولا قيمة لسلطة في غياب الدولة. نحن نعيش في دولة اللادولة.

 

رغم أن الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية أساء إلى توازن السلطات الدستورية ـ ولا بد من تصحيحه ـ فإنه حرّر رئاسة الجمهورية المارونية، وبالتالي الموارنة، من اللعبة الطائفية ومن تهمة الهيمنة والاستئثار، انتشل رئيس الجمهورية من موقع الفريق، حصّن موقعه ووضعه خارج مرمى السهام.

 

إن حسن أداء صلاحيات محدودة والقدرة على تنفيذها أفضل من سوء أداء صلاحيات واسعة والعجز عن تنفيذها. وإذا أحدنا سأل: لماذا لا يُحسن الرئيس إدارة صلاحيات واسعة ما دام يحسن إدارة صلاحيات محدودة؟ الجواب هو: إن تطبيق الصلاحيات الواسعة، ولو بشكل حسن، هو مشروع صدام مع الطوائف الأخرى؛ وتجربة الحياة السياسية بين سنوات 1943 و 1989 تُـقدِّم ألف مثل ومثل على ذلك. غير أن تجربة "صلاحيات الطائف" من سنة 1989 إلى اليوم، تُـقدِّم بالمقابل ألف مثل آخر على أن التوزيع الاعتباطي (لا الطائفي فقط) للصلاحيات على المؤسسات الدستورية عطّل دور الدولة ـ لا سلطة رئيس الجمهورية حصراً ـ وأطلق أدوار الطوائف، فتزعزعت الدولة وارتج الكيان واستفاقت الفتنة.

 

وضع تصور حديث للدور المسيحي سهل على الورق، لكن الصعوبة تكمن في توفير ظروف ملائمة لتطبيقه في المجتمع المسيحي والدولة اللبنانية وفي المشرق المتوسطي. فإذا لم تلتق كل مكونات الوطن والمحيط على مفهوم الحداثة، يصبح مشروع التحديث فذلكة ترف، ورقص على فوهة بركان، ويعرض المسيحيين للخطر. إن تحديث الدور المسيحي مرتبط عضوياً بتحديث الدولة اللبنانية.

 

الواقع أن النظام اللبناني لم يعد قادراً على استيعاب مطالب أي طائفة، وهو غير قادر بالتالي على إعطاء إدوار لأحد ما لم يُصحَّح دستورياً، وما لم يخضع لإعادة تحديد وتأهيل. لقد فقد النظام اللبناني هويته وتوازنه ومناعته بعدما انتُهكت دولته بمؤسساتها كافة. إنه مصرف بحالة إفلاس دستوري. هذا النظام أنشئ لإعطاء المسيحيين حق الحكم، والمسلمين حق المشاركة فيه. المسيحيون فقدوا جزءاً من الحكم، وما حصل عليه المسلمون تحوّل في ما بينهم قميص عثمان جديد.

 

لقد خسر المسيحيون في الطائف الصلاحيات البيانية لا الدور التاريخي، وربح المسلمون صلاحيات نظرية وفقدوا وحدتهم الإسلامية. وبقدر ما هو مطلوب جلاء المنطق الطائفي والمذهبي، مُلِحٌّ أكثر الإطاحة بمنطق الخاسر والمنتصر. هذا دور أضافي برسم المسيحيين.

 

رسالة الوحدة والصمود

دور المسيحيين التاريخي لم يكن خاطئاً لينقضوه، وسيئاً ليخجلوا به، وكبيراً عليهم ليحجّموه. وفي هذا السياق، يفترض بالمسيحيين، وهم يحدثون دورهم، أن يشمخوا بدورهم الأصيل عوض أن يحجّموه ليصبح على قياس من تحجَّم منهم. إن الأقليات حين تطأ عتبة التنازلات يصعب عليها التراجع، فحينئذ تكسر عليها الأكثريات.

 

منذ ألفي سنة يصمد المسيحيون في لبنان بين الشرق والغرب؛ تجذروا في الأول فاضطهدهم دورياً، وانفتحوا على الثاني فساوم عليهم أحياناً. ومنذ نحو عقدين يقف المسيحيون في لبنان على خط تماس بين ميثاق 1943 الذي لم يتمكنوا من صَونه وميثاق الطائف الذي لم يصُـنْهم؛ يحنّون إلى امتيازات الأول ويتآنسون بالمناصفة في الثاني. ومنذ نحو ثلاث سنوات توزع المسيحيون في لبنان على خيام 8 و 14 آذار وهجروا دار الوحدة المسيحية. إن البقاء في لبنان والشرق، والانسحاب من خط التماس، والعودة إلى دار الوحدة تشكل مدخل أي دور حديث ومادة نضال لصمود جديد.