الشيعة بين مفهوم اللبننة ونظرية ولاية الفقيه [1 من 3]

طموحاتهم وقوتهم تقلق شركاءهم وتفتح المستقبل على أسئلة كثيرة

أحمد الأسعد: المشكلة في ارتباط "حزب الله" بالأجندة الإيرانية – السورية

عباس الصباغ     

( يتبع جزء ثانٍ)      

النهار/ 12/6/08

حمل الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عدداً من التساؤلات بعد طرحه ان "حزب الله" يمثّل حزب ولاية الفقيه، ما دفع المراقبين الى التوقف عند اهداف نصرالله من هذا الإعلان الصريح وللمرة الأولى في تاريخ "حزب الله" منذ حوالى ربع قرن، علماً ان ولاية الفقيه التي يمثلها النظام الإسلامي في ايران ترتكز على ضرورة وجود الولي الفقيه، لأنه حسب بعض المعتقدات الشيعية فإن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر لا بد ان يكون له نائبه في الأرض يتولى ادارة شؤون الأمة حتى ظهوره.

 

في هذا التحقيق من ثلاثة اجزاء قراءة لواقع الطائفة الشيعية ومحاولة لشرح ولاية الفقيه كما يراها "حزب الله" ومعارضوه.

قبل ثلاثة عقود ونيّف علا صوت الشيعة في لبنان مطالبين برفع الغبن والحرمان عن مناطقهم اولاً، واشراكهم في العملية السياسية ثانياً. وبرز مؤسس حركة "أمل" الإمام المغيب في ليبيا منذ العام 1978 السيد موسى الصدر كأحد ابرز الوجوه الشيعية، في ظل امساك الإقطاع السياسي بمفاصل الحياة السياسية في لبنان. واستطاع الإمام الصدر مأسسة الوجود الشيعي في لبنان عبر شرعنة مؤسسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969. وجاءت الحرب الداخلية، التي اوقفها اتفاق الطائف، لتكرّس المحاصصة في الدولة على قاعدة المثالثة بين الطوائف الكبرى، وغدت "الترويكا" احد ابرز تجليات عهود ما بعد الطائف. واستطاع الشيعة فرض مشاركتهم في الحكم، كما انخرطوا في المقاومة ضد إسرائيل بعدما دفعوا مئات الشهداء لتحرير ارضهم.

 

وبعد العام 2000 ظهرت اشكالية سلاح المقاومة في ظل توازن داخلي اختل بعد خروج القوات السورية من لبنان في نيسان عام 2005. واخفق التحالف الرباعي بين "امل" و"حزب الله" و"تيار المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي في تقديم تطمينات للشيعة، ما أدى الى تفجير الأزمة في ايار الفائت.

 

استاذ العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي يعتقد انه "ليس للشيعة في لبنان مشروعهم الخاص، وهم مؤمنون بنهائية الكيان اللبناني، لكن لديهم بعض الهواجس تبدأ بالخطر الإسرائيلي عليهم في الجنوب، ولا تنتهي عند تجربة اقصائهم وتهميشهم منذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920".

ويجزم عتريسي ان ادبيات الطائفة الشيعية في لبنان ترتكز على احترام مؤسسات الدولة والإنخراط الكامل في مشروعها، وخصوصاً بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، والذي انصف الطوائف الكبرى في لبنان على قاعدة المناصفة ضمن المثالثة.

 

ويضيف: "ما حصل في بيروت والجبل الشهر الفائت لا يعني اطلاقاً ان الشيعة، ورغم قوتهم العسكرية والإقتصادية، يرغبون في تغيير النظام اللبناني او الحصول على مكاسب خاصة بحكم الأمر الواقع، والدليل ان ما طالبت به المعارضة اللبنانية وخصوصاً حركة "أمل" و"حزب الله" قبل الحوادث الأخيرة بقي على ما هو عليه بعد هذه الحوادث، وابرز مطالب المعارضة كانت ولا تزال المشاركة في السلطة".

 

من الحرمان الى السلطة

بعيد اعلان الجنرال الفرنسي غورو تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920، وجد الشيعة انفسهم داخل هذا الكيان الذي لم يستشاروا في انشائه. لكن هذا الأمر لم يثن سكان جبل عامل عن مقاومة الوجود الفرنسي تماماً كما فعلوا مع العثمانيين.

 

الا ان تلاشي حلم الوحدة العربية منذ العام 1936 ارخى بظلاله على شيعة لبنان، ولم يكن امامهم سوى القبول بالكيان الهجين. وبعيد استقلال لبنان انخرطوا في مؤسسات الدولة بزعامة الإقطاع السائد في تلك الفترة، ولم تبدل الجمهورية اللبنانية من احوالهم الصعبة في الجنوب والبقاع. الى ان بدأت الحرب الأهلية بعد سنوات من بدء الإعتراف الرسمي اللبناني ببعض حقوق الشيعة، وكان انشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بعد حركة السيد موسى الصدر وما تركته من اثر عميق في نفوس الشيعة وبداية شعورهم بدخول الدولة، بعد بالحرمان التاريخي من جهة والتهديد الإسرائيلي الدائم لقرى الجنوب من جهة ثانية.

 

فلسطين: نكبة وتداعيات

منذ العام 1948 وجد اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وخصوصاً في جنوبه، منطقة آمنة تقيهم شر الإحتلال الصهيوني لبلادهم.

وحضن الشيعة اخوانهم الفلسطينيين، لكن تمدد الوجود المسلح وقيام ما عرف لاحقاً بـ "فتح لاند" وممارسات بعض الفصائل الفلسطينية اوجدت هوة بين الجنوبيين والفلسطينيين، وتفجّر الصراع بين الطرفين بأشكال عدة.

 

اضافة الى الوجود الفلسطيني، كان المد اليساري بشقيه الشيوعي والبعثي يؤرق الإمام الصدر، وانعكس صدامات بين حركة "أمل" من جهة والشيوعيين والبعثيين من جهة ثانية. وتفجرت الحرب في البلاد، وحاولت الطائفة الشيعية عبر ما عرف بانتفاضة 6 شباط 1984 ان تحسّن شروط تفاوضها مع الأطراف اللبنانية الأخرى، الى ان جاء الطائف واعاد توزيع الحصص بين الطوائف الثلاث الكبرى في لبنان ودخل الشيعة بقوة في الكيان اللبناني، وسطع نجم رئيس حركة "أمل" نبيه بري الذي اضحى ولا يزال رئيساً لمجلس النواب، وعمل بري على انماء الجنوب على حساب تنازلات في السياسة احياناً. كل هذا ترافق مع ظهور منافس جديد وقوي لـ "أمل" وهو "حزب الله".

 

مقاومة وخدمات

منذ العام 1982 انخرطت الطائفة الشيعية في مقاومة اسرائيل بشكل لافت، وشكّل الشيعة العمود الفقري للأحزاب اليسارية، وخصوصاً الشيوعية، التي اطلقت المقاومة في 16 ايلول 1982. وبعد تراجع دور "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" وتسلّم المقاومة اللبنانية بقيادة "حزب الله" زمام مبادرة التحرير الذي انجز في ايار 2000، بدأ الشيعة يتطلعون الى تثبيت حضورهم في المؤسسات وادارات الدولة وكذلك محاولة تحصين موقعهم في الساحة الداخلية، وافادوا من التحالف مع سوريا والدعم الإيراني.

 

وبعد أعوام من المراوحة جاءت حرب تموز عام 2006، واستطاعت المقاومة الحاق الهزيمة الثانية بإسرائيل وكان من الطبيعي ان تثمّر انتصارها في الداخل ولو جاهرت عكس ذلك، الى ان وقعت حوادث 7 ايار الفائت واستطاع "حزب الله" و"أمل" وحلفائهما السيطرة على بيروت وقسم من الجبل بعد معارك عنيفة مع "تيار المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي.

 

وجاء اتفاق الدوحة ليكرس بعض مطالب المعارضة وشروطها. وقبل ايام وبالتزامن مع محاولات تشكيل حكومة العهد الأولى، لفتت مطالبة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بمنصب نائب رئيس الجمهورية ويتولاه شيعي، مما اثار ردة فعل من بعض اقطاب قوى 14 آذار باعتبار ان هذا الطرح يخالف الدستور اللبناني.

 

إلا ان مجرد المطالبة بهذا المنصب يضع اكثر من علامة استفهام حول حقيقة طموحات الشيعة في لبنان، علماً ان طرح قبلان جاء بعد ايام من اعلان السيد نصرالله صراحة ان "حزب الله" في لبنان هو حزب ولاية الفقيه.

 

التصرفات الاستنسابية

بعد عدوان تموز 2006 تكفل "حزب الله" بدفع التعويضات للمتضررين من العدوان، وصرف قرابة نصف مليار دولار لبدلات الايواء وغيرها، في محاولة للتخفيف عن الجنوبين واهالي الضاحية الجنوبية من ويلات حرب لم يستشاروا في اتخاذ قرارها، من دون الاقلال من عدوانية اسرائيل واطماعها الدائمة في مياه لبنان وشنها الحروب عليه على مدار العقود المنصرمة.

 

إلا أن أداء بعض المسؤولين لـ "حزب الله" في بعض القرى والبلدات الجنوبية ترك اكثر من علامة استفهام. ورغم الشكوى من اعتماد الاستنساب في توزيع المساعدات وصرف التعويضات، الا ان قيادة الحزب لم تعالج هذا الامر وتركت مصير بعض المتضررين من عدوان تموز لما يعرف بـ "الرابط"، اي المسؤول المباشر للحزب في البلدة.

 

ولم تقتصر الشكوى على توزيع التعويضات، بل وصلت الى حد وصف توزيع المساعدات الغذائية بالاستنسابية. ففي بلدان حدودية عدة كانت الشكوى واحدة: "ناس بسمنة وناس بزيت". ففي احدى القرى الحدودية، وزع "حزب الله" التعويضات على اصحاب المزروعات، ولكن كما جرت العادة، جاءت التعويضات استنسابية للمقربين من الحزب. وتشكو (ر. ق.) من بلدة بنت جبيل من عدم دفع التعويض لها عن اشجار اللوز والزيتون ودوالي العنب التي احرقتها الصواريخ الاسرائيلية، في المقابل هناك من قبض التعويضات عن مزروعات وليس لديه حقل او شجرة.

 

والأمر ينسحب على توزيع خزانات المياه في بلدة عيناتا وكونين وعيترون وغيرها من القرى الجنوبية.

إلا ان احد مسؤولي الحزب في المنطقة ينفي ما يردده الأهالي ويضعه في خانة الطمع. لكن "النهار" تأكدت من صحة ما يقوله الأهالي في قرى جنوبية عدة. هذه التصرفات دفعت احدى المسنات في بنت جبيل الى الرد على احد مسؤولي الحزب الذي طلب منها الصمت: "عندما تأخذوننا الى المسيرات في وسط بيروت، لا تطلبون منا ان نصمت".

 

لكن هذه الثغر لا تغطي المد الجماهيري الواسع للحزب في اوساط الجنوبيين. حتى هؤلاء الذين يشعرون بالغبن، تجدهم في مقدمة المتظاهرين عند دعوة السيد نصرالله لهم للنزول الى الشارع.

 

الاسعد: ارتهان للمحور الايراني

رئيس لقاء "الإنتماء اللبناني" احمد الأسعد يعتبر ان اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، لا يزالون محرومين نظراً الى "سياسات المحور الإقليمي الذي لا يناسبه ان تقوم دولة في لبنان، لأن هذا المحور يريد استعمال لبنان كورقة وايران تريد تحقيق امبراطوريتها في المنطقة، وسوريا تسعى للمساومة على المحكمة الدولية، وبالتالي فإن لبنان محروم الإستقرار والهدوء".

 

ويعتقد الأسعد ان الهاجس الأوحد لدى الشيعة "ان يكون هناك افق للجيل الطالع، وخصوصاً في ظل الأحوال الإقتصادية السيئة، ولكن للأسف هناك قوى سياسية شيعية، وفي طليعتها "حزب الله"، يناسبها بقاء الأمور على ما هي عليه كي تقبض على مصير الناس".

 

ويرى الأسعد ان اتفاق الطائف حصّن موقع الطائفة الشيعية "لكن الممارسة ادت الى تشويه الطائف وخصوصاً ان الطبقة السياسية التي تحاصصت السلطة اساءت الى اتفاق الطائف وبالتالي منعت قيام الدولة القادرة".

 

اما عن المرحلة التي تلي حوادث ايار الفائت، فيعلق: "لقد اساءت تلك الحوادث الى الطائفة الشيعية، وتتحمل ايران مسؤولية ما آلت اليه الأمور.

من جهة ثانية لا يمكن الشيعة ان يعيشوا تحت ثقل الحروب المتتالية، ويجب معالجة موضوع سلاح "حزب الله" عبر مواجهة سياسية شاملة تضعف هذا الحزب وتقنعه بمشروع الدولة، اضافة الى ضرورة اضعاف المشروع الإيراني في المنطقة".

 

ويجزم الأسعد ان ولاية الفقيه بدعة اوجدتها الدولة الصفوية في ايران (بعيد القرن الرابع عشر ميلادي) و"الدليل ان هناك علماء دين شيعة يرفضون هذه النظرية لأن الله لم يمنح احداً "ولاية" مطلقة على الأمة، الا ان "حزب الله" المرتبط بالأجندة الإيرانية - السورية الى ابد الآبدين يعمل ضمن سياسة هذا المحور، مما يعقد الأمور في لبنان، وخصوصاً ان "حزب الله" فريق فاعل على الساحة الداخلية".

 

ويختم: "ان بقاء الوضع على حاله وسط الحرب الباردة بين ايران واميركا يدفع في اتجاه ضرورة بلورة مواجهة داخلية تضغط على "حزب الله" وتقنعه باللبننة".

عباس الصباغ     

( يتبع جزء ثانٍ)