الرئيس الأسد والمسيحيين

بقلم/يوسف أمين*

 

تتردد كثيرا في هذه الأيام مقولة أن النظام العلوي في سوريا، ومنذ استلام الرئيس الأسد الأب له، هو حامي الأقليات ومن ضمنها المسيحيين، وهذه المقولة ليست دقيقة. فالرئيس الأسد حكم سوريا تحت شعارات حزب البعث وهي شعارات قومية شمولية لم تتطرق إلى مشكلة الأقليات باعتبار أن الشعب واحد وأن المعتقدات الدينية مهما اختلفت لا يجب أن تشكل حاجزا بين فئات الشعب أو حافذا لأي صراع.

 

الرئيس الأسد وكل من سبقه في حكم سوريا لم يعترف أبدا باستقلال لبنان كدولة واعتبره جزء من سوريا، لا بل عمل دوما على النيل من مناعة الحكم الديمقراطي والتعددي فيه طيلة فترة ما قبل الحرب. أما الحرب التي جرت على أرضه فقد اشعلها النظام السوري نفسه؛ بدفعه الفلسطينيين للتسلح، وعمله الدؤوب لخلخلة الاستقرار اللبناني، وتصوير الديمقراطية التعددية اللبنانية، التي أعطت الحق لكل الطوائف بالتمثيل في الحكم والوظائف بنسبة أعدادها، وذلك لتأمين نوع من العدالة الاجتماعية والتوازن بين عناصر ومركبات الشعب اللبناني، بأنها المشكلة، وبأن الموارنة يسيطرون على الحكم ويحرمون الآخرين من حقوقهم.

 

هذه الهجمة على "المارونية السياسية" من قبل النظام السوري في عهد الرئيس الأسد الأب لم تكن أول هجوم على المسيحيين في لبنان بل سبقها هجومات عسكرية منذ 1968 عبر الحدود في منطقة راشيا ومن ثم قامت منظمة "الصاعقة" التي تعتبر جزء من الجيش السوري النظامي بفتح مسلسل الهجومات على القرى المسيحية في بيت ملات ودير عشاش والدامور وغيرها ما أدى إلى تحويل المشكلة بين نظام لبنان الذي تحكمه "ديمقراطية المجموعات الحضارية" وسورية التي يحكمها نظام الحزب الواحد (البعث) إلى صراع بين الطوائف في لبنان استغله النظام السوري ليحكم قبضته على البلد.

 

حسب النظرية السورية كان من المفترض أن يكون اتفاق الطائف، الذي عدّل الصلاحيات والحقوق بين الطوائف، هو الحل المنشود، ما لم نره يحدث بالرغم من سيطرة سوريا الكاملة على لبنان في 1990 وادعائها رعاية تنفيذ هذا الاتفاق مدة خمس عشرة سنة أي حتى 2005. فالاحتلال البعثي السوري الأسدي عينه وبعد الانتهاء من عرفات وثورته في مسلسل لم يخلو من الدماء، خلق تعددية الفصائل الفلسطينية الرافضة أولا، ثم انتقل إلى تجيير طائفة بكاملها لحليفه الإيراني تحت مسميات تتناقض كليا مع شعاراته القومية لتكون حجر العثرة أمام أي اتفاق بين اللبنانيين يمكنهم من المضي في تمتين صيغة للتعاون وتثبيت أركان الدولة والقانون وحقوق المواطنين في العيش بكرامة وبدون تهديد كلما تغيّرت التركيبة الديمغرافية أو تفتقت العقول عن نظرية جديدة في علوم السياسة والاجتماع.

 

إن حكم الأسد الأب لم يأخذ بعين الاعتبار حقوق الأقليات ولا حقوق الأكثرية لا في سوريا ولا في لبنان، وهو لم يمارس سياسة تثبيت العدالة الاجتماعية والمساواة بين كافة أطياف المجتمع، بل حكم سوريا في ظل نظرية المؤامرة وتحت التهديد والارهاب في ما أسماه قانون الطواريء، ثم صدّر هذا التهديد إلى جاره الأقرب لبنان بواسطة عرفات وجماعته وتحت شعار تحرير فلسطين، فجعل اللبنانيين يخافون من بعضهم ويخافون كل على مصيره، وعندما شعر بأن هذه الوسيلة ناجحة وقد مكنته من السيطرة على لبنان، اخترع ودعم كل أنواع المنظمات التخريبية والارهابية ليقلق بواسطتها جيرانه ومن ثم دول العرب الثرية فيتمكن من ابتزازها وبالتالي دولا كثيرة في العالم عاملها بنفس الطريقة الابتزازية حيث يخلق المشكلة التي تتمحور دوما حول الارهاب ويعرض نفسه كمساعد لحلها.

 

إن الرئيس الأسد وحزب البعث لم يطورا العلاقات بين مركبات الشعب السوري ولا حاولا حلحلة التراكمات التاريخية التي تفرق بين هذا الشعب بل حاولا تجاهل الموضوع وكأنه غير موجود في سوريا ولكن في نفس الوقت شددا على وجوده في لبنان واستعملاه للنيل من الاستقرار فيه واظهار حاجته إلى التظلل المستمر بمظلة البعث السوري.

 

ولكن الرئيس الأسد الذي لم يرغب في البدء أن يكون حاكما علويا لسوريا استعمل عُقد القهر التاريخية عند الطائفة العلوية لحمايته من أي نوع من التغيير بالقوة التي كانت سائدة في سوريا حينها، والتي أوصلته في من أوصلت إلى الحكم، وبالتالي خلق طبقة من المهيمنين على الحكم والادارة ومصير الناس قبضت، وتحت شعار حماية النظام، على أنفاس الناس وخلقت أجواء من الاستبداد والعنف التي تدور في دائرة مفرغة فتزيد من الحقد في صفوف الشعب، ومن الخوف في صفوف طبقة الحكام، وتعظّم الهوة بين الأثنين ليسكن كل منهما في نفقه المغلق الذي يسير بشكل متواز بعيدا كل البعد عن النفق الآخر.

 

الرئيس السوري وبالرغم من محاولاته مع حزب البعث الحاكم خلق بعض المشاريع التطويرية كمشروع سد طبقة على العاصي وما نشأ حوله من مشاريع زراعية وكذلك بحيرة الأسد على الفرات التي تعد بمستقبل زاهر لمنطقة كانت تعتبر قاحلة نوعا وفي الشبكة الطويلة من الطرق الحديثة التي تربط المدن السورية وحتى المشاريع السياحية على المتوسط وغيرها من المشاريع ذات الطابع الوطني، لم يستطع أن يصبح أبا للشعب السوري ولا مصلحا لأمراضه الموروثة لأنه اعتمد، كما كل الديكتاتوريين، على رؤيته الفردية وأصبح لا يلتذ إلا لسماع المديح ما جعل الحزب كله يشكل قطيعا يتبع لقائد لا مجموعة من قادة الرأي تبرز متقدما بين كثيرين، والتاريخ حافل بمثل هؤلاء الديكتاتوريين ومنهم العباقرة كنابليون وهتلر وغيرهما ممن شكّل نقلة نوعية في مجال الرؤية التنظيمية في مرحلة قاتمة من تاريخ بلدانهم حتى اغتر بمنجزاته وانغلق باستعلائه ففصل بينه وبين شعبه ليقود البلاد إلى الدمار لأن الفكرة عنده تصبح أهم من احاسيس الشعب وتطلعاته.

 

اليوم وكما ورث الرئاسة، بدأ الرئيس الأسد الأبن يعاني من مشكلة وراثته، وهي المغالاة في التعظيم ما أجهض محاولاته للتقرب من الشعب، تماشيا مع ما كان رآه في ممارسة الديمقراطية الغربية، فزادت الهوة بينه وبين الشعب. وبالرغم من تصاريحه حول التغيير والاصلاحات منذ استلامه الحكم، لم يتمكن من وضع اي خطة واضحة تعطي الشعب أملا بهذا التغيير القادم. وما كان زرعه نظام والده في كل البلدان المجاورة من تطرف وعنف وإرهاب لا بد له من أن يتذوق طعمه. وها هي الساحة السورية بدأت بالغليان، وها هو الشعب، الذي امتنع عن التعبير عن مشاكله والمطالبة بحقوقه مدة نصف قرن خوفا من العنف الذي قد يواجهه من قبل السلطة، ينزع عنه هذا الخوف وينطلق في الشوارع مطالبا بالتغيير. وكلما زاد عدد القتلى خفّ مفعول الخوف وزادت النقمة وكبرت المطالب وهذا طبيعي. ولكن الرئيس الأسد بمنعه التظاهر ورفضه العمل السريع بمبدأ التغيير ليمتص النقمة، ثم محاولته صبغ الحالة الاعتراضية بصبغة دينية ضيقة؛ حيث يسمح للمظاهرات أن تنطلق فقط من المساجد وتحديدا بعد صلاة الجمعة ليخيف الطوائف الأخرى وفئات الشعب الغير متدينة من تأييد هذه التحركات، فإنه كرأس للنظام يغلط بحق نفسه وبحق شعبه ويتحمل مسؤولية الفشل في قيادة السفينة إلى شاطئ الأمان. وهذا العدد من الضحايا الأبرياء الذين يسقطون في مختلف أنحاء سوريا وهم ينادون بالتغيير ويواجهون بالعنف سوف يكون له نتائج سلبية على النظام وعلى حزب البعث وعلى كل من يقف بجانبهم.

 

الرئيس الأسد لم يحم المسيحيين في سوريا لأنهم جزء أساسي من الشعب السوري وهم ليسوا دخلاء ولا غرباء عن بيئتهم ومجتمعهم، ولا هو يحمي العلويين بل ربما يولّد حقدا عليهم بتصرفاته، ونحن نقول لكل من يدّعي بأن التغيير في طريقة الحكم أو في من يجلس على الكراسي يجب أن يؤدي إلى انشقاق داخل المجتمعات وتقاتل وحقد ودماء، بأن هذا الكلام هو نفسه إدانة للنظام البعثي الذي حكم سوريا منذ الستينات أي حوالي النصف قرن، فأين شعارات البعث القومية؟ وأين التربية التي تحضّر الشعب على نظريات العدالة والأخوة والمساواة؟ وأين الادعاء بالحرية والاشتراكية التي دوّخنا العالم بها؟ وكيف يمكن أن نفهم أن يتحول جزء من المواطنين إلى ضحايا وجزء آخر إلى جلادين عند أول تجربة أو تغيير؟ إن هذا المفهوم الذي يعتمد التخويف والتقسيم هو ما برع به البعثيون منذ تجربتهم في لبنان وهم يحاولون اليوم تنفيذ هذه التجربة في بيوتهم فهل بعد من عتب على ما فعلوه عندنا وهل من أسف عليهم إذا ما رذلهم التاريخ وبصقهم الشعب السوري؟

 

*المركز الماروني للدراسات الستراتيجية

تورونتو – كندا

11- أيار- 2011