تخصيب التسريب

بقلم/الياس الزغبي

 

لم يسبق أن شهد تاريخ السياسة، في السلم والحرب، ما يشهده لبنان اليوم من أساليب البروبغاندا والحرب النفسيّة والترهيب المعنوي و"الوعد" المزمن بالفتنة المعلّقة فوق رؤوس أبنائه، لا في نموذج "غوبلز" القائم على تراكم الكذب، ولا في النموذج الستاليني الدموي، ولا في النموذج الصوتي السعيدي وأُمّة الأُذُن، ولا في نموذج الانتصارات الورقيّة وحرب العلوج على طريقة الصحّاف، ولا في نموذج الاعلام التمّوزي الالهي، ولا في نماذج ايل سونغ ونجاد وتشافيز وكلّ مساطر العصر.

 

ما يحصل في لبنان منذ 4 سنوات، وفي بداية الخامسة، هو خليط مدهش من كلّ هذه الأساليب والنماذج، يجمع بين بيع الأوهام، وتصنيع الشائعات وبثّها من الخارج الى الداخل، وخوض حروب طواحين الهواء، واتقان التسريب المنهجي، وتهديم الثقة العامّة، ونسف الأصول والقيم، وتزوير الأحجام والألوان والأوزان.

 

واذا شئنا تكثيف كلّ هذه الأدوات والنماذج بتعبير واحد، لما وجدنا أكثر تعبيرا ودلالة من: تخصيب التسريب، أو تخصيب الأكاذيب.

 

ليس ما يجري مجرّد مواجهة اعلاميّة دعائيّة لما تعتبره مصانع التخصيب مؤامرة عبر المحكمة الدوليّة، بل هو حرب قائمة في ذاتها، تذهب الى أبعد من المحكمة بكثير، لتصل الى ركائز الدول والأُمم وقيمها وثوابتها، بدأ، بالطبع، من لبنان.

 

يستبيح المشروع المخصّص للبنان كلّ العناوين والشعارات المثيرة، من الشراكة والديمقراطيّة التوافقيّة سنة 2006، الى "شهود الزور" وأسرلة المحكمة الدوليّة في الـ2010، مرورا بطهرانيّة المقاومة، والنصر الالهي، والفساد، والتوطين، والمال، والمعلومات، والعملاء بتصنيفاتهم الى ما فوق 5 نجوم، وفقا لموقع من قد يجرّون وراءهم.

 

وفي خطّة الانتقال من عنوان الى آخر، يستخدم المخصّبون وسيلة الدسّ عن بعد، لاعتقادهم أنّها أشدّ فاعليّة وصدقيّة من التسريب في وسائل اعلامهم المباشرة، فكانت تجربتهم الأولى والأبرز ما كتبه "سيمور هرش" في "نيويوركر" عن قضيّة الارهاب وما جرى في نهر البارد. وكانت صبغة المخصّبين واضحة في التركيب والتمويل لموضوع "هرش".

ثمّ جاء دور الاعلام الأوروبي، من "درشبيغيل" الى "فيغارو" و"الموند"، وصولا الى شبكة الـ"سي . بي . سي" الكنديّة، ولم تطُل أيديهم أخيرا الاّ مجلّة روسيّة مغمورة، فحمّلوها ابتكارا أبوكاليبتيا بتفجير الموكب بصاروخ جوّ ألماني!

 

ولم يتوان هؤلاء عن توظيف ما يرد على لسان مسؤولين اسرائيليّين وصحف اسرائيليّة، فاعتبروا التسريب من تل أبيب محطّ ثقة، وروّجوا للترويج الاسرائيلي، مع أنّ ما قاله اشكينازي وسواه ظهر زيفه، في توقيت القرار الاتّهامي ومضامينه. فمن يشكّ لحظة واحدة بعد اليوم في ضلوع اسرئيل في تخصيب التسريب، سواء كان هذا الضلوع ثمرة توافق وتقاطع، أو نتيجة ولوغ في العدائيّة المتأصّلة.

 

لكنّ فن تخصيب الأكاذيب لم يقتصر على مسائل حرب البارد والقرار الاتّهامي والمحكمة، بل بلغ في الأيّام الأخيرة المسعى السعودي السوري، فعمد أرباب هذا الفنّ الى ضخّ التسريبات بوتيرة متلاحقة، وروّجوا لتسوية تتضمّن استسلاما لرئيس الحكومة وفريق 14 آذار، وكأنّ الدولة اللبنانيّة سقطت فعلا في قبضة الانقلابيّين، أو كأنّ ذوي الشهداء تخلّوا عن حقوقهم المقدّسة.

 

وبسرعة مماثلة وبمسؤوليّة واثقة، جاء صدّ هذا التسريب الخطير من مصادر ثلاثة: السعوديّة ورئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة. بينما غرقت سوريّا في ارتباكها وتناقض مواقف قادتها بين انتظار الأدلّة واسقاط "17 أيّار جديد"، وتبيّنت بوضوح الارادة الدوليّة في اكمال مسيرة الحقيقة والعدالة.

 

ولعلّ مقاولي التسريب يعثرون على مادّة جديدة لصناعتهم المبتكرة، بعد كساد بضاعة تسريباتهم المكدّسة والمنتهية الصلاحيّة، سنة بعد سنة. فيجدون في تعيين السفير الأميركي لدى دمشق بارقة أمل في تغيير قد يخفّف ورطتهم، ويوقف هروبهم الى الأمام. ويبنون، مرّة أخرى، قصرا من رمال، أو نصرا من خيال.

 

الاحد 2 كانون الثاني 2011