محكمتان + حكومة 

الياس الزغبي

الأحد 26 حزيران 2011

 

حاول السيّد حسن نصرالله التبرّؤ من وصف الحكومة الجديدة بأنّها حكومة "حزب الله"، فوقع، من حيث لا يدري، في فخّين: حكومة ومحكمة.

 

لقد أثبت أنّه القائد والموجّه لحكومة ميقاتي. هو الذي في الأساس أسقط التي قبلها، وركّب أكثريّتها، ووزّع حصصها، ووضع مقاديرها، ونوّع أسماءها، وقال لها ما قاله هارون الرشيد للغيمة المتحرّكة: اذهبي حيث تشائين، فستُمطرين في خراجي!

 

فمن هو ذاك المغوار الذي سيقول لا لما يريده نصرالله وما تفرضه وطأة سلاحه، ومن هو ذاك الانتحاري الذي يتمرّد على سطوة فجر "القمصان السود" التي جاءت به رئيسا أو وزيرا؟

 

قد يتوهّم أحدهم أنّه ناور ونجح في وضع هذه الصيغة أو تلك في مسألة المحكمة أو أيّ قرار دولي، لكنّ الكلمة الأُولى والأقوى قالها نصرالله نفسه: المحكمة لا تعنينا، انتهينا منها منذ زمن!

 

اذا، اكتبوا ما شئتم في البيان الوزاري، وحاولوا، في لعبة الكلام، المناورة والمداورة كي تتفادوا غضب "ما يُسمّى" المجتمع الدولي. نعم "ما يُسمّى"، في لغة السيّد الذي وزّع الأسلحة على جنوده، واكتفى، هو المسكين، بحقيبة واحدة ووزير دولة فقط لا غير، ومان على توأمه نبيه برّي بتوزير الشيعي السادس سُنّيا، فلماذا تضيق أعينكم بهذا الزهد، وتسمّونها حكومة "حزب الله" وبشّار الأسد، وبشّار ليس له فيها وزير واحد من البعث؟!

 

في الواقع، حاول نصرالله أن يكحّل حكومة ميقاتي فأعماها، على طريقة من سبقه في القول انّه لا يريد شيئا لنفسه، فلم يترك شيئا الاّ لنفسه.

 

لكنّ قائد دولة "حزب الله" ومجتمعه، لم يكتف بتأكيد قيادته للحكومة، بل عزّز دولته بمحكمة خاصّة لا علاقة لها لا بالمحكمة الدوليّة ولا بالمحاكم الرسميّة اللبنانيّة. انّها محكمة الضاحية، تراقب، تلاحق، تعتقل، تحقّق، تدين، تعاقب.. ولا يحقّ لأحد السؤال أو التدخّل.

 

بكلّ فوقيّة وتفرّد، أعلن نصرالله محاكمة ثلاثة "جواسيس" من صفوفه، وهم لبنانيّون اتّهمهم بالعمالة للمخابرات الأميركيّة، (المخابرات الاسرائيليّة عاجزة، وهناك "حرب كونيّة" ضدّه، على غرار غرور شريكه في الانتخابات)، ولم يرفّ له جفن في الادانة والمحاكمة، وكأنّ لا دولة ولا قضاء ولا قانون في لبنان، فحتّى حكومته لا يأمن لها، ولم ينتبه لارباك وزير عدله الجديد الذي تخبّط في اجراء الاتصالات للملمة معلومة أو خبر، كزوج مخدوع في الليلة الظلماء.

 

لم يكلّف السيّد حسن نفسه اطلاع اللبنانيّين على طريقة التحقيق والادانة واجراءات المحاكمة، وهل من حقّ المتّهمين توكيل محامين، وأمام أيّ محكمة سيُحاكمون. طمأننا فقط الى أنّه لم يعدمهم (بعد)، وأنّ "الآخرين" كانوا أعدموهم وقالوا انّهم سقطوا شهداء وعلّقوا صورهم على الجدران. تُرى من هم هؤلاء "الآخرون"، هل أعدمت "14 آذار" شهداءها، وخبّأتهم، وحين شيّعتهم قالت انّهم سقطوا في حوادث سير أو رحلة صيد؟ أليس أسلوب الاعدام سرّا وادّعاء "الاستشهاد" جهرا هو حكر على الأنظمة المغلقة والتنظيمات العسكريّة الخاصّة؟ ألم يكن "حزب الله" نفسه يشيّع كلّ أسبوع قتيلا، في مراحل هادئة، ويُعلن أنّه سقط في "ساحة الجهاد" أو لدى قيامه بواجب "المقاومة". فمن يدري أين وكيف ولماذا؟ وأين هي حدود العمالة والشهادة؟

 

ثمّ اذا لم يكن الجواسيس الثلاثة في مواقع مهمّة: ليسوا من الحلقة المقرّبة للقائد، ولا علاقة لهم بالتحقيق الدولي، ولا باغتيال مغنيّة، ولا يؤثّرون في مسار "المقاومة"، ولا يملكون معلومات مهمّة، فلماذا كلّ هذا الانشغال بهم، وتخصيص السيّد وقتا "ذهبيا" لهم، وتطمينه أهلهم بعدم الانتقام؟

 

لعلّ مسألتهم ليست سوى رأس جبل الجليد، وما ظهر من مأزق "حزب الله" وما خفي، بين تأزّم علاقته ببيئته، وتأزّم مرجعيّتيه في دمشق وطهران.

 

و"سحر" قائده لم يعد يكفي لتمويه الضعف والتستّر على الخلل. فالخلل أصاب الكاريزما أيضا.

 

وهذا ما يفسّر لهفته وانكبابه على تجميع أوراقه الأخيرة: حكومة من صلبه مهما تبرّأ من أبوّتها، ومحكمة خاصّة مقفلة على الدولة ولو كانت "دولته"، ومقامرة مكشوفة مع النظام السوري المأزوم، ورهان على "انتصارات" افتراضيّة من قماشة "الانتصار" على الجواسيس، وعلى المحكمة الدوليّة، وعلى "ثورة الأرز"، وعلى ربيع العرب.. والعالم.

 

شاء نصرالله التخفّف من عبء حكومته، فزاد عبئا على أعبائه.

 

هو الآن ينوء تحت ثلاثة أثقال: حكومة ومحكمتين.

 

 

الورقة الأخيرة

الياس الزغبي

الأحد 19 حزيران 2011

 

أمضى بشّار الأسد 11 سنة في لعبة الأوراق الثلاث: لبنان، فلسطين، العراق. بعدما أراحه والده من ارث  ثقلين كبيرين هما الجولان والاسكندرون. وضع حافظ الأسد الجولان في حالة سلم موضوعي فنال سكوت اسرائيل ورضاها الضمني عن نظامه، وشطب لواء الاسكندرون من الذاكرة السوريّة وسلّم الورقة الكرديّة لتركيّا، قبل سنتين من رحيله، وفتح أمام وريثه حلفا استراتيجيا مباشرا مع أنقرة، وتطبيعا سياسيا غير مباشر مع اسرائيل.

 

ومع اطمئنان بشّار الى صداقة جارتيه الشماليّة والجنوبيّة، استمتع بالأوراق العربيّة الثلاث، متّكئا على حلف عسكري مالي سياسي متين مع طهران، ولاهيا عن حاجات الداخل وآمال السوريّين وأمانيهم. وتحت شعار "الممانعة والمقاومة" اللمّاع، ظنّ أنّه صاحب دور اقليمي مميّز، فباع واشترى في العراق، واستثمر في غزّة، واستأسد في لبنان.

 

اليوم، تتغيّر تركيّا أردوغان، وتُعيد اسرائيل حساباتها، وتتعقّد التجارة السياسيّة في العراق، ويُقفَل باب الاستثمار في غزّة مع "حماس"، وفي الجولان مع أحمد جبريل. ولا يبقى أمام النظام السوري المأزوم سوى لبنان، ورقة أخيرة من الأوراق الخمس الموروثة، وخطّ دفاع عملاني وحيد، اذا استثنينا الخطوط الدفاعيّة الخارجيّة من ايران (عسكريا) الى روسيّا والصين (دبلوماسيا).

 

ولا يُمكن استبعاد أيّ نوع من أنواع الاستخدام لهذه الورقة السوريّة الأخيرة: استخدام سياسي تمثّل في حكومة ميقاتي، واستخدام أمني في اشتباكات طرابلس، وربّما في أمكنة أخرى. فكلّ الأسلحة مباحة أمام نظام الأسد، طالما أنّه في معركة حياة أو موت، وطالما أنّ أوراقه ليست كثيرة، وطالما أنّ ضرورات التغطية على ما يجري من قمع ضدّ الشعب السوري تُبيح محظورات الفتنة في لبنان، لعلّ "المجتمع الدولي" يقايض بين الأثنين، على قاعدة الابتزاز القديم المتّبع، من الوالد الى الولد، يبيعان هنا ليشتريا هناك. يضغطان هنا ليرفعا الضغط هناك.

 

هذه اللعبة القديمة تغيّرت ظروفها الآن. واذا كانت قد نجحت سنة 1976 وسنة 1990 وبعد أيّار 2008، فانّها اليوم محكومة بالفشل، ليس لأنّ العالم تخلّى عن سياسة المقايضة والبحث عن مصالحه، بل لأن أزمة النظام المقايض هي في عقر داره، عضويّة داخليّة وذاتيّة، وهي حالة جديدة منذ 40 سنة.

 

كان حافظ الأسد يقايض على أوراق خارجيّة: يأخذ حريّة شعبه ويُعطيه "أمجادا" عربيّة ودوليّة. جاء وريثه محافظا على النهج ذاته: يمنح السوريّين "ممانعة" ويسلبهم الحقوق، الى أن دقّت ساعة الحريّة، وعقاربها لا تعود الى الوراء.

 

لقد وضع النظام السوري معادلته الأخيرة مع لبنان، مصيرا مشتركا في السياسة والأمن. حكومة لبنانيّة من صلبه، وأمن الطوائف رهينة قراره، والفتنة سيف يلوّح به، ولو كانت الضحيّة أقلّيّة أقلّيته!

 

ولكن، فاته أنّ معادلة أهمّ وأعمق باتت تجمع لبنان وسوريّا، معادلة الحريّة هنا وهناك، معادلة الربيع المشترك. هو شاء أن يربطهما بالأمن والسياسة، وشعباهما شاءا الارتباط بالحريّة وربيع القيامة. هذا هو المسار الصحيح، وهذا هو المصير الطبيعي والواقعي. وليس صعبا أن نعرف أيّ معادلة هي الأقوى والأبقى.

 

انّ عواقب ربط لبنان بمصير الأسد ستكون ثقيلة وخطيرة، وطلائعها معبّرة في الحكومة، وفي وضع طرابلس، وفي سمّ البيان الوزاري المدسوس في عسل الصياغة الخادعة. وحلقات الربط تشمل توظيف لبنان في البازار السوري مع العرب والعالم. لكنّ النتيجة ستكون لمصلحة الناس وليس النظام.

 

وما سيجنيه لبنان من رحيل جيل الوصاية هو استرداد ذاته. كما أنّ أحرار لبنان ينتصرون لأحرار سوريّا، فانّ هؤلاء ينتصرون لحقّ لبنان في الحريّة والسيادة. ودروس التاريخ لا تُخطئ: شعوب أوروبا الشرقيّة والغربيّة لم تتلاقَ وتتوحّد الا بالحريّة، بعدما قسّمتها وأذلّتها الديكتاتوريّات.

 

وليس لأيّ لبناني أن يخاف من حريّة السوريّين. فأهل الحريّة يتكاملون ويتعاونون ويتحابّون، ويسهل عليهم وضع صيغة حياة هادئة بين شعبين، وعلاقة طبيعيّة بين دولتين.

 

أمّا أهل النظام، بأصله السوري وواجهته اللبنانيّة، فمحكومون بالسقوط، بفعل عدائهم للحريّة.

 

ومن جاء وفرض نفسه بالحديد والنار، بالحديد والنار يذهب.

 

 

لبنان بعد الأسد

الياس الزغبي

حزيران 12/2011

 

قد يستبكر كثيرون طرح السؤال عن مصير لبنان ما بعد عصر خلافة آل الأسد، أو يستنكرون السؤال في حدّ ذاته، طالما أنّ مصير النظام لم يُحسم بعد، وأنّه لا يزال يُقدّم اشارات على قوّته وثباته، وهم يحلمون بخروجه أشدّ قوّة ومناعة.

 

وليس من باب "التفكير بالأُمنيات" أن يبدأ اللبنانيّون مناقشة هادئة لمرحلة ما بعد النظام السوري الأربعيني، بل من باب التبصّر والتحسّب، ومراجعة موازين علاقاتهم التي بُنيت على أساس الارتباط الشديد بهذا النظام، على مدى ثلث قرن، وعلى أساس أنّ أيّ نظام بديل لن يكون أكثر طمعا واستتباعا للبنان، فكيف اذا كان ديمقراطيا يبني علاقات متوازنة مع جيرانه.

 

واذا كان التطوّر والتقدّم سُنّة الحياة، فانّ التمسّك بالجوامد يؤدّي حكما الى الشلل والجمود والانهيار. فالوضع السوري محكوم بالتغيير، سلما أو غلابا (والأرجح غلابا، قياسا على نهج القمع المستمر)، وليس من مصلحة أيّ لبناني ربط مصيره بنظام مترنّح بين الموت الرحيم والسقوط العظيم.

 

وفي الوقائع، لم يشكّل اللقاء الاستعراضي بين الأسد وجنبلاط حاجة لبنانيّة بل حاجة للأسد نفسه، خلافا للمعادلة السابقة، فلماذا التبرّع بخدمات متأخّرة لا تُنقذ غريقا ولا تُطيل عمرا، بل تُربك المتبرّع وتُعرّضه مع مؤيّديه لأثمان في سوريّا نفسها، وفي لبنان. فكم من غريق ذهب ضحّية غريق آخر.

 

ومع الأخذ في الاعتبار أنّ جنبلاط موهوب في براعة الاحتفاظ لنفسه بنوافذ خلفيّة وسلالم نجاة متحرّكة، فانّ الركّاب اللبنانيّين الآخرين في القارب المتخبّط، وعلى رأسهم "حزب الله"، مدعوون الى البحث عن وسيلة نجاة عبر الاجابة الملحّة عن السؤال المصيري: ماذا بعد الأسد؟

 

لم يفت أوان الاجابة بعد. ولا يُمكن الظنّ أنّ قيادة "حزب الله" غافلة عن حتميّة التغيير في سوريّا. ولعلّ الاشارات الأولى ظهرت في المقاربة الأخيرة التي قدّمها السيّد حسن نصرالله حول المؤسّسات والدولة والمربّعات الأمنيّة ونبذ الغلبة في الحوار على تطوير النظام، وكأنّه أجرى نقدا ذاتيّا غير مباشر، متفاديا ما ألزم حزبه به في خطاب سابق لجهة دعم نظام الأسد والالتصاق المصيري به.

 

قد تكون قيادة "حزب الله" بدأت تقرأ في حقيقة التطوّرات السوريّة وتمادي العجز الايراني، وعكفت على البحث عن سبل التملّص من الالتزام الخطير، أو، على الأقلّ، التخفّف من بعض أثقاله، بعدما سبقتها قيادة "حماس" الى التمايز.

 

لا شكّ في أنّ استدارة "حزب الله" أصعب وأقسى بكثير من انعطافة "حماس"، بسبب ارتباطه الى حدّ الانصهار بمرجعيّتي طهران ودمشق.

 

وقدرته على التكيّف مع الحقائق هي الآن على المحكّ: لم يعترف علنا بعد بعجزه السياسي وفشل انقلابه اللبناني، لم يُقرّ بعد بخطأ حساباته العربيّة بين البحرين ومصر وليبيا وفلسطين، لم يعترف بعد بخطورة ربط مصيره بمصير نظام الأسد، لم يخرج بعد من وهم الانتصار على العالم والقرارات الدوليّة، لم يع بعد كرتونيّة "جبهة المواجهة العالميّة"، لم ينتبه بعد الى هوائيّة "جبهة مقاومة الشعوب" النجاديّة، لم يشفَ بعد من صدمة انفكاك "جبهة المقاومة والممانعة" الممتدّة من كاراكاس الى حارة حريك مرورا بطهران وأنقرة والدوحة وغزّة ودمشق.

 

وحين يُفيق من كلّ هذه الكوابيس، يستعيد حجمه الطبيعي ويدخل في الحالة اللبنانيّة الصحيحة، مدركا لاجدوى سلاحه.

 

وتبقى يومذاك مصائر فروعه الداخليّة: مصير زعيم مجلس نوّاب عقدين من الزمن لم يعد قادرا على جمع نصاب، مصير "زعيم مسيحيّي الشرق" بدون سند بعد رحيل من خلع عليه اللقب، مصير المجموعات الصغيرة المنتشرة أو المزروعة هنا وهناك.

 

ومع تحديد المصائر والأحجام، وتوقّف النفخ الخارجي، ينعقد الحوار اللبناني بالأوزان الواقعيّة لأطرافه، للبحث في تطوير النظام والاجابة العلميّة والعمليّة عن السؤال: أيّ لبنان بعد سلالة الأسد؟

 

 

ما بعد بكركي

الياس الزغبي

حزيران 5/2011

 

أمّا وقد انتهت "العامّيّة" المارونيّة في بكركي الى لجنة كيل ومساحة ودائرة تسجيل وظائف، فلنناقشها في همّها واهتمامها أوّلا، قبل أن نطرح عليها همّنا المختلف، أو على الأقلّ، المنتمي الى الأصل والرسالة.

 

بالتأكيد، هناك أولويّة للحاجات البيولوجيّة: المكان، المساحة، الأرض، العمل والوظيفة، على قاعدة المعادلة المعروفة: "عش أوّلا ثمّ تفلسف".

 

ولكنّ هذه الحاجات، والنواقص، والاختلالات، لم تكن تتطلّب "مؤتمرا عاما" اختلط فيه الجدّ بالهزل والغثّ بالسمين والفولكلور بالرصانة.

 

قبل هذا "المؤتمر"، نجح بعض التحالف السياسي في تصحيح بعض الخلل، في 3 ادارات (على الأقلّ) هي قوى الأمن الداخلي وبلديّة بيروت ووزارة المال. وفشل تحالف آخر في تحقيق أيّ تصحيح في 4 ادارات أُخرى (على الأقلّ) هي دوائرمجلس النوّاب والضمان ووزارة الخارجيّة والجامعة اللبنانيّة.

 

اذا، المشكلة  في أساسها، هي حسن أو سوء الخيارات والتحالفات السياسيّة، وليست معضلة عضويّة كيانيّة أو قدريّة، ولا تتطلّب دبّ الصوت والتفجّع الوجودي، بل ثقة وشفافيّة في التعامل بين الحلفاء تكفلان التوازن والمناصفة، ولا يجوز التسليم التلقائي بوجود "مؤامرة اسلاميّة مبرمجة" لاستلاب الأرض والوظيفة من أمام المسيحيّين.

 

واذا كان لبكركي دور حاسم في تصحيح الاختلال، فهو في ترشيد بعض تحالفات الموارنة وتوعية أصحابها على الاستئثار المتمادي الذي يسبّبه حلفاؤهم، في الأرض والادارة والقرار، والكفّ عن تبرير الأخطاء والانحرافات العامّة لقاء المنافع الخاصّة، وعدم افتعال الضجيج حول استعادة حقوق المسيحيّين في الحقائب والحصص الوزاريّة من فوق للتغطية على الخلل الخطير في المراتب التي تحت الحقائب. الحقائب حقوق مكتسبة فوق مراتب مستلبة.

 

والسؤال المحوري الذي يجب أن تسأله بكركي: ماذا فعلتم في الادارات التي تولّيتم مسؤوليّتها منذ 3 سنوات، وأيّ خلل وظيفي صحّحتم، وأيّ عقار حميتم، وأيّ بيوعات مريبة سمسرتم؟

 

أمّا همّ الجماعة المارونيّة المتنوّرة الذي أغفلته "عاميّة بكركي"، أو أجّلته خوفا من التصادم، فهو جوهر رسالة الموارنة ومسيحيّي المشرق، عبر انخراطهم الفعّال في صنع المستقبل العربي، كما فعلوا في النهضة الأولى، وعدم التفرّج على النهضة الجديدة، وانتظار جلاء غبارها ثمّ الالتحاق أو الانغلاق.

 

بعض "أئمّة" الموارنة يضخّون اليوم حالة خوف على المسيحيّين من سقوط نظام الخلافة في سوريّا، الأمر الذي فعل أجدادهم عكسه قبل 100 عام ضدّ الخلافة العثمانيّة. لم يرتعب آنذاك الموارنة من النظام البديل، وكانوا روّادا للتجديد والتحديث، وصنعوا نموذجا حضاريا ظلّ يتفاعل عقودا حتّى تجسّد حالة متقدّمة قبل 6 سنوات، تستلهمه الآن الثورات العربيّة.

 

فما بالهم اليوم يخيّبون تاريخهم ورياديّة أجدادهم، وينكفئون الى حاجاتهم البيولوجيّة، ويلوذ بعضهم الى أنظمة صنميّة بحجّة الحماية؟

 

انّ ربيع العرب يقدّم فرصة ذهبيّة للموارنة، وسائر المسيحيّين، لاستعادة الدور التأسيسي للحريّات والديمقراطيّة، وخوض غمار النهضة الثانية، بالخروج من عقدة الأقليّات الى رحاب الأولويّات. وعليهم الادراك بعمق أن تحالف الأقليّات لم يسبّب لهم سوى الخراب: هجّرهم من الأطراف، قتل وشرّد مئات الآلاف منهم، وسلبهم الدور والصلاحيّات. فالأقليّة الأقوى تستبيح الأقليّة الأضعف بحجّة حمايتها من الأكثريّة. هكذا حدث للمسيحيّين في تاريخهم  المعاصر، مرّتين على الأقلّ، فهل يسقطون في الثالثة "الثابتة"!

هنا يجب أن يكمن المعنى الحقيقي للعاميّة المارونيّة في بكركي.

 

جيّد أن تهتمّ بضرورات العيش، ولكن "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان".

 

لا يشبع الموارنة من خبز لم يشاركوا في صنعه. فليذهبوا الى معاجن العرب وليس الى موائدهم فقط