المأزومان

بقلم/الياس الزغبي

 

معاينة دقيقة للوضع السياسي اللبناني تكشف المأزق الذي بدأ يعانيه الحلفاء الجدد والمتجدّدون لسوريا، مقابل استقرار نسبي لحلفائها القدماء الثابتين، "الأوفياء" لها صعودا أو هبوطا، وحالة استقرار أكثر ثباتا للقوى السياسية التي تحتفظ بمسافة موضوعية ومنطقية عن دمشق وطهران، وتخوض معهما تجربة علاقة ندّية.

 

فئات لبنانية ثلاث تتوزّع المشهد السياسي العام: الثانية والثالثة قابلتان لامتصاص الأزمات الطارئة والتكيّف مع التحوّلات، بينما تقع الأولى في حال احراج، وهي مدعوّة لحسم وجهتها السياسية وتموضعها الاقليمي في الأسابيع المقبلة.

 

الواضح أنّ الفئة الثالثة التي تتمتّع بوضع مستقرّ سياسيا، تضمّ القوى التي لا تزال منضوية في مشروع 14 آذار، وتحديدا "المستقبل" و"القوات" و"الكتائب" و"الوطنيين الأحرار" و"الكتلة الوطنية" والشخصيات ذات الحيثية يمينا أو يسارا. هؤلاء جميعا تحرّروا من عقدة العلاقة مع الخارج، كل الخارج، بدءا بسوريا، وصولا الى ايران والعرب والغرب. وقد أدّى التزامهم بناء الدولة بشرعياتها الثلاث الداخلية والعربية والدولية الى ارتياح عام على مستوى القيادات والقواعد برغم كل المؤثّرات والمؤشّرات والضغوط وقعقعة السلاح ومنطق الغلبة ولغة القوة، وقد جاءت صناديق البلديات بعد صناديق النيابيات والنقابات والجامعات بما يعزّز هذا الواقع.

 

الفئة الثانية، المستقرّة على ارتباطها بالنظام السوري منذ عقود، تطمئنّ الى واقعها وتتفيّأ المظلّة التي تحميها في كل حال ومآل، الى أن يحصل تبدّل جذري في مصدر الحماية، وهو تبدّل لا يمكن استشرافه في المدى المنظور، مع أنّه غير مستحيل في منطق التطوّر السياسي. هذه الفئة تضم مجموعة قوى أبرزها الرئيس نبيه بري والنائبان سليمان فرنجية وطلال ارسلان والحزب السوري القومي الاجتماعي وشخصيات ذات حضور جزئي في الشمال والجبل وبيروت وصيدا وزحله، وقد حظيت بعطف مرجعيتها في الاستحقاق الأخير وحافظت على حجمها. والثابت لدى هذه الفئة أنّها لم تقترب من طهران و"حزب الله" الاّ بمقدار المسافة التي سمحت بها دمشق.

 

أمّا الفئة الأولى، التي تعاني مأزق الانتساب والخيار، ويصحّ وصفها بأنّها لا تزال مأزومة بين مرجعيتين، فهي التي تضم القوى العائدة حديثا الى المرجعية السورية، ويمثّلها بامتياز النائبان وليد جنبلاط وميشال عون.

 

أين يكمن مأزق هذين الزعيمين اللذين جمعتهما، في لحظة عابرة، مصيبة الانفكاك عن بيئتهما السياسية الطبيعية والانغماس في تحالف باهظ الكلفة مع دمشق، دفعا ثمنه على مستويين: هبوط شعبيتهما والتباس علاقتهما بايران عبر "حزب الله".

 

جنبلاط وعون أجريا حسابات طولية أفقية حين بدّلا تحالفاتهما، ولم يقيما وزنا للحساب السياسي العمودي، أو الاستراتيجي البعيد المدى، فغرقا في قراءة اللحظة وغابت عنهما قراءة الزمن.

 

لقد ظنّا أنّ حلف سوريا وايران تام شامل نهائي أبدي سرمدي، وأنّ "حزب الله" هو الثابت وكل ما عداه متحوّل، ولم يلتفتا الى احتمال حصول تناقض بين الدولتين، والى خطر اهتزاز الثابت وارتخاء قبضته الحديدية عن الطائفة الشيعية، كما حصل أخيرا في ساحته المقفلة.

 

انتظر جنبلاط شهورا القرار السوري باستقباله، ولم تتم الزيارة الاّ على خلفية انتسابه الحصري والصافي للسياسة السورية بدون اشراك مع ايران، واستطرادا مع "حزب الله"، ولو تمّ تلزيم ترتيبها الى السيّد حسن نصرالله، لضرورات الشكل والمناورة.

 

زيارتان اضافيتان قام بهما جنبلاط الى دمشق، وبينهما واحدة الى الرياض، ولم يقم بأيّ زيارة، بعد انعطافه في 2 آب 2009، الى طهران. هل في الامر صدفة أم سرّ بليغ؟ أليست سوريا الحليفة التوأم لايران، فلماذا لم تكتمل استدارته بخطوة نحو التوأم الثاني؟ أليس في ذلك ما يدفع الى تقدير الشروط التي خضع لها زعيم المختاره، سواء في المدى المسموح به للتقرّب من ايران، أو الذهاب بعيدا في العلاقة مع "حزب الله"؟

 

أمّا مأزق عون فأكثر وضوحا: بعد تحوّله المشهود سنة 2005، قام بزيارات علنية ثلاث الى سوريا وزيارة يتيمة الى ايران. في المرحلة الاولى التي رافقت "تفاهمه" مع ذراعها سنة 2006، أغدقت عليه طهران المنح والعطايا والدعم والمطايا، وحجّ الى رابيته سفيرها وموفدوها ووفود "حزب الله" وكل من يدور في فلك الولي الفقيه.

وبعد التصاقه بدمشق في نهاية 2008، ظنّا منه أنّه في موقع الالتصاق نفسه مع طهران، بدأت تنهال عليه الاشارات و"النصائح" بوجوب التزام التحفّظ، وعدم التمادي في اقتباس الحالة الايرانية وفي التماهي المطلق مع "حزب الله".

 

والأرجح أنّه لم يكن نبيها في التقاط الاشارات السورية، وظلّ على ارتباطه الكامل بالأجندا الايرانية المنوطة بـ"حزب الله"، فكان لا بدّ من تطوير الاشارات الى تنبيهات بليغة عبر بعض المواقع: الياس سكاف وسليمان فرنجيه وطلال ارسلان والقوميين، والمكلّفين ابلاغ الرسائل على الشاشات، والناصحين تحت جنح الظلام... ولم تنحصر التحذيرات بهؤلاء بل كانت عبر "حزب الله" نفسه في غير دائرة انتخابية، وفي أكثر من موقع سياسي، فبدا "التفاهم" مترنّحا على مذبح التمايز في حسابات المرجعيتين الاقليميتين. وليس تباطؤ السفير الايراني الجديد في زيارة عون الاّ مؤشّرا على الحساسية المربكة في تموضعه.

 

وخارج التصنيفات السياسية، يبقى "حزب الله" هو الوحيد صاحب اللهفة والحرص الوجودي على الحلف الايراني السوري، وبقاء جناحيه متماسكين، لئلاّ ينكسر أحدهما فيعجز عن التحليق ويواجه بئس المصير.

 

ولكن، في السياسة، جنبلاط وعون هما الشخصيتان المأزومتان أكثر من سواهما بين جناحي التحالف، فهل يحسمان أمرهما وينضمّان الى الفئة السياسية الثانية، المستقرّة في الصحن السوري، بعيدا عن مشروع ايران وفروعها؟

الاحد 30 أيار 2010