شهود زور13  تشرين

بقلم/الياس الزغبي

 

شهود الزور هم نتاج القاتل وليس القتيل. في كلّ جريمة، أو قضيّة جنائيّة، شاهد زور أو أكثر. منذ عمليّة الاغتيال الأولى، في فجر التاريخ (جريمة قابيل، لو كان عنده من يشهد)، الى آخر اغتيال (هل هناك آخر اغتيال على الجدول، في لبنان؟)، يبحث القاتل وفريقه عن شهود يضلّلون التحقيق، ولا يصحّ ذلك على أهل الضحيّة الذين يريدون الحقيقة فقط، ولا مصلحة لهم أو رغبة، في طمس هذه الحقيقة.

 

هذا في الاغتيالات الفردية، السياسيّة أو الجنائيّة. ولكن، أن يكون هناك شهود زور على التاريخ وأحداثه الكبرى واغتيالاته الجماعيّة، فهذه بدعة لم نشهد لها مثيلا، الاّ في لبنان.

حدث 13 تشرين الأوّل 1990، معروف ومدوّن، بوقائعه وحقائقه، بدمائه ودموعه وآلامه، في التاريخ السياسي والعسكري اللبناني المعاصر. عمليّة اغتيال جماعيّة، ضحاياها مئات القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، نجا منها مسبّبها بصفقة موصوفة. والمذهل أنّ الناطقين من بطانته كشفوا بكل صفاقة أنّه قرّر المواجهة، أي قرّر سقوط من وما سقط مع علمه المسبق بالنتائج الكارثيّة، بحجّة الحفاظ على الحقّ التاريخي  للبنان! فأيّ حق يحافظ عليه هؤلاء، اليوم، بتجيير وتزوير أساس هذا الحق؟

 

وظلّ أهل هذا الحدث، بين بيروت وباريس، 15 سنة، يُحيون ذكراه، بشهدائه وجرحاه ومفقوديه، ويدينون مرتكبه (النظام السوري وحلفاءه)، في صلواتهم ودعاءاتهم وأُمنيات قداديسهم وبياناتهم وحراكهم النضالي المدني، و... تصريحات قائدهم في المنفى المرفّه.

 

15 سنة، حفروا في قلوب ذوي الشهداء والمفقودين نقمة ولعنة على القاتل والخاطف، وحين حانت ساعة الرجوع السياسي، بعقد ابليسي خطير، مسحوا خطابهم وبلعوا لسانهم، وحوّلوا الجلاّد الى ملاك رحمة، وبحثوا عن قاتل وخاطف بين حلفاء الأمس، الأبرياء من دم الصدّيق، فـ"طلع معهم" أنّ المرتكب والمجرم من "ثورة الأرز"، من تيّار "المستقبل" ومسيحيّي "14 آذار"!

 

نعم، منذ 5 سنوات الى اليوم، يحتفل العائد من منفاه الفاخر، بذكرى 13 تشرين، بعدما أدار مدفعه الى الوراء، تماما كما فعل بعد "حرب التحرير" المبرمجة، ويوظّف هذه المناسبة الانسانيّة والوطنيّة في القنص والقصف على أخصامه اليوم، مبرّئا من اتّهمهم وأصلاهم نارا من لسانه وبياناته عبر البحار على مدى 15 سنة، محاولا جرّ الذكرى الى موقع ليس موقعها.

 

والمثير أنّه يُقيم احتفاله قبل أو بعد اليوم الصحيح، وكأنّه يخشى وطأة الذكرى في يومها، لئلاّ تحدّق به عين هابيل من وراء دخان تلك الصبيحة السوداء.

 

زار مرتكبي مجزرة 13 تشرين مرارا، وتحالف و"تفاهم" مع من شاركوهم وغطّوهم في مواقع الرئاسة والوزارة والقيادة والأحزاب الرديفة، ولم يسأل سؤالا واحدا عن شهيد أو معتقل أو مفقود. برّأ ذمّة القاتل الحقيقي، وبحث عن قاتل مفترض، فلم يجده الاّ في قوى 14 آذار، مثل ذاك الذئب، في أقصوصة لافونتين، حين افترس الحمل بحجّة تعكيره مجرى الماء، قبل أن يولد البريء المسكين.

 

ومع التمادي في تشويه معنى هذه الذكرى الموجعة، يتنادى أهلها الأصحّاء الى وضعها في سياقها الصحيح، واحياء جوهرها ومعناها، في لقاء صلاة وايمان مساء 13 الجاري  في كنيسة مار الياس انطلياس، كي يُزيلوا الغبار الذي لوّث وجهها، ويفضحوا التشويه الذي لحق بها، في البازار الموصوف.

 

في غمرة الضجيج عن "الشهود الزور" في التحقيق الدولي حول الاغتيالات، لا بدّ من فتح الملف الأشدّ خطرا، وهو التزوير التاريخي الكبير في حقائق 13 تشرين.

 

القضيّة المزوّرة قضيّة وطن، وتاريخ لم يمرّ عليه الزمن، والمزوّرون معروفون بالأسماء والألقاب والرتب و"نبل" الخطاب و"أخلاقيّة" التعبير و"سموّ" الاهداف.

 

قبل أن تبحثوا عن شهادات زور افتراضيّة لا تأخذ بها ولا تأبه لها محكمة لاهاي، تعالوا نفضح "شهادات" واقعيّة محسوسة تحاول تضليل وطن بكامله، وشطب ذاكرة وتاريخ، وتجويف معاني الشهادة والتضحية والشرف والوفاء، وتسميم أذهان قسم من اللبنانيّين.

 

تعالوا نُنقذ أجيالنا من جاحديّ ماضيهم، ومزوّريّ حاضرهم، ومفخّخيّ مستقبلهم.

 

قد ينجو المزوّر في القضايا الجنائيّة، بنفسه، وينال أسبابا تخفيفيّة ويستفيد من رحمة القانون والقضاء.

 

أمّا مزوّر القضايا العامّة وحقائق التاريخ وعطاءات الشعوب والجيوش والشهداء، فليس أمامه باب خلاص ولا سبيل رحمة.

 

لا مفرّ من حساب الأبرياء والشهداء، ولا مناص من حكم الأزمان والأوطان.

 

السبت 9 تشرين الأول 2010