حلف الاولويات

بقلم المحامي والكاتب الياس الزغبي

(النهار) الثلاثاء 13 كانون الثاني 2009

 

ما يواجهه لبنان والمنطقة لم يعد في حاجة الى الكثير من البحث والجهد لكشف حقيقته، ولو تعددت التسميات والتعميات مثل القول بـ "جبهة الممانعة والمقاومة" ضد "جبهة الاعتدال"، أو "الهلال الشيعي" ضد "القوس السني"، أو الفرس ضد العرب، أو المحور الايراني - السوري بملحقاته في لبنان وفلسطين والعراق ضد المحور المصري السعودي-  الاميركي... مع استخدام اسرائيل في كل حال وسجال.

 

في حقيقة الصورة أن ما كان يقال همسا بدأ يخرج الى العلن، وما كان يحصل بالمفرق بات يحصل بالجملة، وما كان محصورا في نطاق بعض الكيانات (لبنان تحديدا) خرق هذه الكيانات وتمدد على رقعة الشرق الاوسط من المتوسط الى ايران، وربما مع حلم أوسع الى عمق آسيا.

 

 انه "حلف الاقليات" الذي يعتقد أهله والمنظّرون له أنه "الضامن" لوجودهم و "المعطّل" لهيمنة الأكثرية غير " الوهمية"، ولا "الموقتة" طبعا. وهذه الاقليات ليست فقط دينية مذهبية بل عرقية ايضا. ووراءهم، في عمق النظرية والمشروع والنموذج، اسرائيل كدولة دينية تتجه أكثر فأكثر نحو الصفاء. والمثير أن هذا "التفاهم" الموضوعي يتم تحت دخان "الممانعة" وضجيج المقاومة ومحنة غزة (هي أقلية في حساب الخطة) و"انتصارات" حرب 2006 في لبنان و"هزيمة" المشروع الاميركي في المنطقة، ويتجلّى في الخطوات الواثقة للرئيس السوري بشار الاسد نحو اسرائيل تحت العين الايرانية الساهرة.

 

 مخاطر حلف الاقليات

 

لم تشهد منطقة الشرق الاوسط، في التاريخ الحديث، حالات جدّية ومعلنة لهذا التحالف، لا بين الدول والكيانات ولا داخل كل دولة أو كيان، باستثناء لبنان الذي مرّ في تجربتين خطيرتين في السبعينات والثمانينات من القرن الفائت، وهو الآن في خضم تجربة ثالثة أشد خطورة.

 

- 1976 توهّم مسيحيو لبنان بأن النظام السوري يكرّس امتيازاتهم و "يحميهم"، فعقدوا معه تحالفاً (كان في الحقيقة اضطرارا وليس خيارا) ارتد خلال بضعة اشهر كارثة عليهم من الاشرفية الى الشمال الى زحلة الى قراهم وبلداتهم في البقاع والجبل.

 

- 1982 عقدوا تحالفاً آخر مع اسرائيل (كان أيضا حالة اضطرارية)، وكانت العاقبة اقتتالا وتهجيرا وهجرة وضمورا.

 

واليوم ينزلق بعضهم بهوس ضرير الى تحالف غير محسوب العواقب مع النظام السوري نفسه (مع التشديد على "نفسه"، فماذا تغير بعد 40 عاما ؟)، مع فارق أن هناك خلفية أكثر اتساعا تمتد الى ايران، أي أن الخطر على المسيحيين سيتخطى لبنان ويشمل كل رقعة للنزاع بين الحلف السوري – الايراني وأعدائه. وهذه هي، في الجوهر، محاذير زيارتي العماد ميشال عون الى ايران وسوريا، فقد أدخل المسيحيين (مسيحييه، الى أن يستفيقوا)، من حيث يدري أو لا يدري (يتساوى هنا الجهل مع المعرفة)، في حروب الخلافة وتسديد فواتيرالتاريخ وخوض رهانات المستقبل.

 

وكانت طلائع الاثمان التي يدفعها المسيحيون على مذبح الحلف الجديد ظهرت في مخيم وسط بيروت، وفي 23 كانون الثاني 2007 (محاولة انقلاب شعبوية كادت تحرق المسيحيين)، وفي تفريغ رئاسة الجمهورية، وفي 7 أيار 2008 (محاولة انقلاب مليشيوية)، وفي تعطيل المصالحات تحت شعار "لا لزوم لها"، وفي التقريع والتشنيع كخطاب "حديث" للنيل من مرجعيات روحية وسياسية، وفي الهاء الناس بملفات افتراضية وتشويش أفكارهم بسموم اعلامية.

 

 نجاحات حلف الاولويات

 

في مقابل اخفاقات حلف الاقليات وأثمانه وشروره، خصوصا على المسيحيين، تبرز حالات ناجحة في تاريخنا الحديث، شئت أن أضعها تحت عنوان "حلف الاولويات" كحل سياسي ووطني يمكن استلهامه في بناء لبنان الدولة والوطن والرسالة. والمقصود بالاولويات مجموعة الأهداف العليا والمبادىء الاولى والقيم التي توصف بالثوابت مثل: لبنان أولا، الاستقلال والسيادة أولا، الحرية والديموقراطية أولا، الحقيقة والعدالة أولا، الحياة المشتركة والتعددية والتنوع والقبول المتبادل الحر أولا، احترام حقوق الانسان أولا... انها أولويات وفّرت استقرارا وازدهارا للبنان ومنحته الحرية والاستقلال حين تبنّاها اللبنانيون واعتنقوها. وفي كل مرة تخلوا عنها سقطوا في التنابذ والاحتراب، وراحوا يبحثون عن مظلة هنا وحماية هناك و"حلف أقليات" هنالك. ومن المفيد الاضاءة على محطات مفصلية أثبتت نجاحات "حلف الاولويات" على مر العقود الأخيرة:

 

- 1915، تحالف اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين وخارج معادلة الأكثريات والأقليات، على أولويتي الحرية والهوية (ضد الاحتلال والتتريك)، فأسسوا فوق منصات المشانق لبنان الكبير الذي أطلقه البطريرك الياس الحويك العام 1920 أمة كريمة بين الامم.

 

- 1943، تعاقد اللبنانيون على أولوية جديدة، وأيضا خارج عقدة الاقليات، هي الاستقلال، فحققوا استقلالهم الاول، ولم يبق في أرضهم الحرة أي قوة غريبة وأي جندي أجنبي (سقط هذا المكسب حين سقطوا في الانقسام على الاولويات مرة أخرى).

 

- في الستينات انخرطوا بنجاح في أولوية بناء الدولة ومؤسساتها وكرّسوا كرامتهم الوطنية في خيمة وادي الحرير(قمة فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر) وانصرفوا الى تطوير شؤونهم الاجتماعية والادارية والحياتية.

 

- 1989، جدّدوا عقدهم الوطني بعد ندوب الحروب وخرجوا من سباق العدد الى ثابتتي الوطن النهائي والانتماء العربي (لم يفكروا بأي انتماء اخر: تركي أو ايراني مثلا).

 

- 2005، فرضوا بجدارة موصوفة استقلالهم الثاني (الثابت) وقدّموا نموذجا رائعا لحلف الاولويات (حرية وسيادة واستقلال وديموقراطية وحقيقة وعدالة). انه الحلف الأصدق تعبيرا عن حقيقة لبنان، يتعاهد أطرافه على الاهداف العليا، في مواجهة مشروع يؤدي الى تدمير الاولويتين: النهائية والانتماء.

 

" اوريكا ": رأس الحلول

 

منذ عشرات السنين يبحث اللبنانيون عن أساس لحل مشكلاتهم الوطنية، وهو توافر بين أيديهم في المحطات التي ذكرناها، وليس عليهم سوى التزام أولوياتهم فهي وحدها الكفيلة بخلق ظروف العيش المشترك وفتح أبواب الاتفاق على بناء الدولة وتوزيع المسؤوليات والصلاحيات. تحت وفاق الاولويات يسهل أي وفاق اخر، وتصبح كل الخلافات قابلة للحل حتى الأشد تعقيدا مثل تحييد لبنان عسكريا، وشكل الدولة (مركزية، لامركزية، اتحادية)، والطائفية السياسية والاجتماعية (مجتمع أهلي أو مدني أو علماني)، ونظام الحكم (رئاسي، برلماني، ديموقراطي توافقي أو عددي)، وطريقة انتاج السلطات وتوزيعها (قوانين الانتخاب والتعيينات)، فعبثا نبحث عن حلول لهذه المشكلات ونحن منقسمون على الاولويات. ما يؤكّد هذه الحقيقة هو التلاقي العفوي التلقائي الطوعي لأهل 14 آذار والحالة المدنية المنسابة بين مكوّناتها وخصوصا الشبابية منها. وليس خافيا أن ما يجمع بين هؤلاء أعمق وأبقى مما التقى عليه أطراف 8 آذار، فحالة ساحة الحرية مستمرة ومتفاعلة بينما لا نكاد نجد أثرا لـ "حالة" ساحة الاعتصام و "تفاهمها"، خصوصا بين نصفي المجتمع: الشاب والفتاة. سر الفرق يكمن بين الثابت في الوطن والمتغيّر في السياسة، بين نسيج الاولويات هنا ومركّب الأقليات هناك. ولا وجوب ليأس دعاة المجتمع المدني (وأهل العلمانية ايضا) بعد اليوم، لأن المدخل الى تحقيق هدفهم بات أمامهم وعليهم تطوير سعيهم الى ترسيخ الاولويات وتعميمها فتصبح قبّة حامية لمجتمع حديث ودولة عصرية.

 

ومع أن نجاحات حلف الاولويات تعرّضت لانتكاسات طوال نصف قرن أبرزها حوادث 1958 و1975 و1990 و2006 و2008، فان مصير لبنان محكوم بحتمية انتصار هذا الحلف وليس بأي حلف آخر. ولا بد من تنامي وعي اللبنانيين لادراك الأهمية التاريخية لحدث 14 آذار 2005 في ساحة الشهداء بمقدار وعيهم التاريخي لرسالة شهداء المشانق الذين منحوا الساحة اسمها.

 

ان قرنا كاملا من التجربة والمعاناة والشهادات يجب أن يفتح أبصار اللبنانيين وبصائرهم، وخصوصا معظم الشيعة وبعض المسيحيين، على جدول الاولويات التي ترسم خلاصهم، فيتخلون عن وهم الاحلاف الصدامية، وينتبهون الى أن الضحية الكبرى لحلف الاقليات هي الاقليات نفسها، لأنها خاضعة بدورها، وفي داخلها، لدورة الدم بين أقلية وأكثرية، في لعبة العدد القاتلة.