مسؤولية الانحدار

بقلم/الياس الزغبي

 

لم يشهد التاريخ السياسي اللبناني الحديث، والقديم، هبوطا حادّا في لغة التخاطب بين السياسيين كما يحصل اليوم، وتحديدا بين رجال السياسة المسيحيين، وحصرا بين الموارنة.

عبر تاريخهم الصراعي المديد، دخل المتصدّرون من الموارنة في نزاعات مريرة لم تقتصر على التنافس السياسي والتصادم السلمي للمصالح، بل تعدّتها أحيانا الى صدامات دموية، أسوة بكل المجموعات السياسية والطائفية الأخرى. لكنّ هذه الصراعات ظلّت دائما محكومة بضوابط وتقاليد اجتماعية أخلاقية، لا تسمح بالاسفاف في التوصيف والتعبير، ولا تسوّغ التشهير والتشنيع الشخصي، بل تحسب دائما "خط الرجعة" واحتمالات المصالحة والتسويات وحفظ الكرامات.

 

في وعينا التاريخي القديم، زعماء وقادة نبلاء في الخلاف وفي المصالحة، عقلاء في ترتيب المنازعات وادارة الصراعات. وفي تاريخنا الجديد، حتى الأمس القريب، رجالات قدوة في الصراع السياسي المترفّع، ومنارات في احترام المواقع، وأخلاقيات الخطاب، وأصول الخصومة، والابقاء على نوافذ الحلول ومساحة الودّ. من آميل اده الى بشارة الخوري وكميل شمعون وحميد فرنجية، ومن بيار الجميل الى ريمون اده وفؤاد شهاب، ومن بشير الجميل الى الياس سركيس وسليمان قبلان فرنجية وأمين الجميل وسمير جعجع، الى مدرسة الأدب الوطني نصرالله صفير: كبار في الخصومة، متحفّظون في الاتهام، منضبطون في الدفاع والهجوم،  ممسكون عن الخطاب الفجّ، مقلّون في نبش قواميس القدح والردح.

 

قبل سنوات معدودة، هبطت على الموارنة، على المسيحيين عموما، على اللبنانيين بشكل أعم، على المشرقيين بصورة أشمل، لغة وافدة دخيلة طارئة طافرة، أبدلت خطابهم الراقي بهجائيات رديئة، وحوّلت منابرهم الى منصّات شتائم، وانحدرت بالنقد الى درك الزعيق.

للوهلة الأولى، قال بعضهم انها لغة الناس، يحبّونها، تعبّر عن صدق قائلها وعن عفوية سياسية، وانها لغة الاصلاح والتغيير والثورة على الفساد ... وسرعان ما ظهرت خطورتها: انها تؤسّس للفساد الأخطر، فساد العقول والنيّات، فساد القيم، فساد الكلمة، واذا فسد ملح الكلمات فبماذا يملّح!

 

ولا يتوقّف الخطر عند اللغة، بل يتعدّاها الى الحفر في أساس المرتكزات المسيحية الخمسة: الكنيسة  والسياسة والثقافة والعائلة والاقتصاد.

 

والخطورة الأشد تكمن في عدوى لغة الهدم والشتم  نراها تمتدّ الى الذين تستهدفهم فيردّون عليها بمثلها بعد أن يضيقوا ذرعا من السكوت على التشهير والتجنّي، وتبلغ بذلك غاية مطلقيها في تعميم أذاها وشرورها.

 

ولكنّ هناك قدرة حقيقية على اسقاط هذه "الظاهرة" الهابطة، تتجسّد في مناعة قادة وشخصيات مارونية كثيرة، يلتزمون فضيلة الصمت أو الردّ المدروس، فلا ينزلقون الى لعبة التهديم المنهجي للقيم، ولا يكشفون صغائر السياسة على قارعة الأمم. وهم ، بالتأكيد، الرابحون في الرأي العام المسيحي واللبناني.

 

لا يزال هناك أكثرية راجحة، في البيئة المارونية، تتمسّك بزمن النبل السياسي، وبرموزه الخالدة. وما يطمئن أنّ حالة السقَم لم تبلغ القلب والعظم، ولو نهشت بعض الأطراف.

موجات تشويه كثيرة ضربت هذه البيئة في مسارها، وقد تكون الموجة الراهنة من أخطرها. وتبقى، في النهاية، موجة، يبتلعها بحر لبنان والمشرق، ولو توهّمت ذات مرحلة، أنها "تسونامي".

 

26 آذار/2010