ثلاث سنوات على تحالف نصرالله - عون: حسابات حقل "التفاهم" على بيدر المسيحيين

بقلم/الياس الزغبي

(النهار) ، الخميس 5 شباط 2009

    

في روزنامة الزمن والوطن لا تشكل سنوات ثلاث حقبة ذات شأن في تحديد المصير، ولكنها كافية لكشف نتائج حدث ما، ومعرفة حصاد اي تحالف سياسي. فماذا حققت "ورقة التفاهم" بين "حزب الله" و"التيار العوني" في ذكراها الثالثة؟ خصوصاً ان طرفيها يعتبران انها انجاز تاريخي ويضعانها في مصاف المقدسات ويقدمانها نموذجاً غير قابل للنقض وحتى للنقد.

 

نحاول تكثيف الاجابة عن السؤال في تقييم حصائل هذا التحالف على مستويات ثلاثة: ثنائي ووطني ومسيحي.

 

أ – المستوى الثنائي

لا يلاحظ المتابع للعلاقة بين الطرفين تكافؤاً في تبادل الفعل والتفاعل، بل تأثيراً احادي الاتجاه: "حزب الله" لم يصبح اكثر انفتاحاً وليبرالية و"لبننة" كما وعد العونيون، بل هم اصبحوا اشد انغلاقاً تجاه الاحزاب والطوائف الاخرى، وتحولوا حالة شبه مقفلة متخبطة في اتجاهاتها وخاضعة لضوابط داخلية غير ديموقراطية قابلة للتفجر في اي وقت، بعدما كانوا صحوة انسانية شعبية متدفقة تواكب روح الحداثة ومقتضيات العصر وتحلم بالتغيير الصحيح. في الواقع، هناك شبه انقطاع بين "التيار" وماضيه، كما ان هناك شبه انقطاع على الصعيد الاجتماعي بين الحليفين: لا احتفالات ذات طابع اجتماعي، لا سهرات ولا مرابع ولا منتجعات، لا مخيمات كشفية، لا نشاطات شبابية تشترك فيها الفتيات، لا تفاعل جامعياً سليماً خارج التحالف الانتخابي الكيدي، ولا حركة ثقافية خارج الندوات التلقينية لمبرات "التفاهم". باختصار، لم يحقق التحالف الثنائي حالة انسياب في العلاقات ولم يكسر الحاجز الانساني الاجتماعي القيمي، بل اقتصر على الاستتباع السياسي مهما ادعى طرفاه "وحدة الحال".

 

 وربما هناك من يقول إن الخصوصيات الثقافية والروادع الدينية تحول دون الحالة الاجتماعية والثقافية السوية، ولكن لماذا يتم احترامها في اتجاه واحد؟ ولماذا يتطبع فريق بطبائع الفريق الآخر بدون مقابل؟ وهل هكذا نحافظ على التعددية والاستثناء الثقافي وحضور "مسيحيي الشرق"؟

 

اذا كان الطرف العوني لم يثبت على مدى 3 سنوات اي قدرة على مناقشة "حزب الله" في خياراته السياسية والعسكرية، بل ذهب بعيداً في تبرير هذه الخيارات والتزامها وتغطيتها غطاءً "شفافاً"، كان عليه، في اقل تقدير، تحقيق مكسب واحد على الاقل هو مساعدة "حزب الله" على الاندماج في المجتمع المدني اللبناني والانسياب الحداثي، لا ان ينزلق هو، بدوره، الى ارض ليست ارضه، وعادات وتقاليد ليست عاداته وتقاليده. وكان جديراً به ان يسير على خطى مسيحيي 14 آذار في علاقاتهم المفتوحة والليبرالية مع حلفائهم، بدون الاصطدام بسقوف الضوابط المتعددة.

 

ب – المستوى الوطني

بعد ابرام التحالف في 6 شباط 2006 (اصر العونيون على وصفه بـ "التفاهم فقط" حتى الامس القريب... من باب التزام "التقية" المكتسبة ربما)، حاول الجانبان انكار اعتباره موجهاً ضد الاطراف الاخرى ودعوها الى الدخول فيه، لكن الممارسة اثبتت العكس للاسباب الآتية:

 

- لم يستطع الاتفاق ان يخرج عن ثنائيته، ليس فقط في وجه 14 آذار، بل امام اطراف 8 آذار ايضاً. لم يدخل فيه الاقربون فكيف يفعل الابعدون؟ وليس ادل على ذلك من تناثر الشمل، وكلما اقترب الاستحقاق الانتخابي.

 

- لقد ظهرت تباعاً عدائية الثنائي تجاه المكونات الاخرى للوطن: بدءاً بحرب تموز 2006 ومحاولة استثمارها في تغيير موازين القوى عملاً بدعوة الرئيس السوري الشهيرة بعد يوم واحد من انتهاء الحرب، مروراً بالاعتصام "التاريخي" ومحاولتي الانقلاب في 23 و25 كانون الثاني 2007، وصولاً الى الانقلاب (غير المكتمل) في 7 ايار 2008، والمحاولة الراهنة لنسف اتفاق الدوحة، وربما الحكومة والاستراتيجية الدفاعية والحكم والانتخابات النيابية... ولبنان! طالما ان ساحات النفوذ الايرانية (والسورية) تتقلص على شاطئ المتوسط بعد حرب غزة، ولا بد من التعويض في "الساحة اللبنانية"!

 

- شكّل "تفاهم 6 شباط" محركاً اساسياً لكل هذه الاحداث الخطيرة، لان "حزب الله" استشعر "فائض قوة" من خلال الغطاء الداخلي (المسيحي) الذي وفّره له العماد ميشال عون، وظنّ ان في استطاعته التمادي في ترويض الآخرين وترهيبهم لتنفيذ الأجندة المطلوبة منه. والسؤال هو: هل كان "حزب الله" يقدم على ما اقدم عليه لولا هذا الظهير المتمثل بعون ولولا هذا السند المكتوب في "ورقة" مار مخايل؟

 

- باتت الوحدة اللبنانية الداخلية اكثر تشظياً منذ 3 سنوات الى الآن خصوصاً على مستوى العلاقة بين "حزب الله" والسنّة، وبينه وبين الدروز، ولم ترمم قليلاً الا بفعل تدخل خارجي: فرنسي (الضغط على سوريا لاقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان) او عربي - اوروبي - اميركي (اتفاق الدوحة).

 

وبرغم هذه التسويات الموقتة وما رافقها من "مصالحات"، تبقى حفرة الانهدام قائمة ما لم يخرج الثنائي "حزب الله" – عون من أسريهما: خطة المحور والمكابرة. وما لم يصح الاخير من حلم الرئاسة على حطام الموقع.

 

ج – المستوى المسيحي

اذا كان تحالف نصرالله – عون سلبيا على طرفيه وعلى العلاقات الوطنية بين اللبنانيين طوائف وأحزابا، فهو شديد الخطورة على المسيحيين في مرتكزات حضورهم وفي مفاهيمهم القيمية. (هناك خطورة اخرى على الوضع الشيعي اللبناني بتغيير مساره التاريخي، ليس هنا مجال بحثها).

 

فرض هذا التحالف على الفريق العوني، طوعا، او قسرا، او بالاقتباس والتقليد، خطابا سياسيا و"ثقافيا" مغايرا لكل التراث واللغة والادبيات والافكار السياسية والاجتماعية والحضارية لمسيحيي لبنان والمشرق. لقد تدرج خطابه من الاشادة بالغرب والعرب والديموقراطية الاميركية في العراق، وانتخاب محمود عباس في فلسطين، وادانة سوريا وايران و"حزب الله" ومزارع شبعا و"حماس" و"الجهاد" (في البرنامج السياسي "الطريق الآخر" لانتخابات 2005)، الى عداء مطلق اليوم للعرب والغرب لا يقل عنفا عن موقف "حزب الله" والنظام الايراني، بما في ذلك العداء لعباس نفسه والتأييد الكامل لحركة "حماس"، الى الاعجاب بـ"نظافة" ايران و"ديموقراطية" النظام السوري، الى استخدام قاموس ثورتي البعث والآيات، من "الاستكبار العالمي"، الى "المستضعفين في الارض"، الى الطاغوت و"الشيطان الاكبر".. الى "النصر الالهي" و"المقاومة الاسلامية" و"جرف الكيان الصهيوني الى البحر".

 

والاشد خطورة هو ارتداد الخطاب العوني "الحديث" الى الداخل في محاولة تهديم منهجي سياسي واعلامي وثقافي واقتصادي – اجتماعي (وأحيانا أمني) للمرتكزات والمفاهيم التي نهضت عليها الحالة المسيحية، حضورا ودورا، منذ مئات السنين.

 

أبرز المرتكزات التي تستسهدفها السياسة العونية هي:

1 – الركيزة الروحية الدينية المتجسدة بالكنائس، ولا سيما المارونية وعلى رأسها بكركي. فقد سعى العماد عون الى ابعاد الكنيسة عن رسالتها التاريخية في ارساء الكيان اللبناني ورعايته، محاولا تجريدها من دورها الوطني وحصرها في الدور الروحي بحجة تعاطيها السياسة، كي يتفرد سياسيا ومصيريا بالمسيحيين ويزج بهم في صراعات قاتلة.

 

2 – الركيزة السياسية وهي ذات جناحين: الاول هو رئاسة الجمهورية وما يتصل بها اداريا او معنويا من مواقع ووظائف، والثاني هو مجموع القوى والاحزاب السياسية الحية والعريقة وكل حيويات المجتمع المدني من هيئات ونواد ونقابات. وليست خافية حملات التهشيم والتهديم التي يشنها عون ومجموعته، بشكل دوري ومنتظم، وبالتناوب مع حلفائه، على هذه القاعدة السياسية.

 

3 – الركيزة الثقافية الحضارية، وقوامها الجامعات والمعاهد التربوية والتعليمية من جهة، والمؤسسات الاعلامية والصحافية والمواقع الالكترونية من جهة أخرى. لقد عاين اللبنانيون في الاونة الاخيرة نماذج عونية بالغة السوء في بعض الجامعات والمعاهد تمثلت بتقديم التيار العوني نفسه مطية لحالات عقائدية دينو – سياسية لهز استقرار هذه المؤسسات العريقة وضرب مستواها وتشويه أدوارها الرائدة (تحديدا جامعتي القديس يوسف والانطونية).

 

وعاين المسيحيون كذلك هجوما مركزا من عون على صحف ووسائل اعلام طالما اعتزوا بها كمنائر للحرية ومنابر للحق وأطلقوها في لبنان والشرق مدارس ومراجع للثقافة ومهنة الكلمة ("لوريان لو جور"، "النهار"، "ال بي سي"، "صوت لبنان"، "لبنان الحر"، وقريبا "ام تي في" في ولادتها الثانية). وقد بلغ به هجومه درجة المطالبة بادانتها ومحاكمتها واقفالها بتهمة الاشارة الى الحقيقة! متجاهلا ما ترتكبه وسائل اعلامه واعلام حلفائه، ولا يبتعد كثيرا عن هذا التشويه الثقافي الصمت على قضية راهبات مستشفى مرجعيون والدفاع الصاخب في قضية لاسا، والمسبحة، ونشيد السيد نصرالله في الكنيسة.

 

4 – الركيزة الاقتصادية، ليس سرا ان المؤسسات الاقتصادية ذات الطابع المسيحي كانت،  ولا تزال بنسبة ما، احدى سمات فاعلية المسيحيين وأهمية دورهم في المصارف والصناعة والسياحة والتجارة والمقاولات والاعمال وادارة المشاريع والاقتصاد المعرفي... وليست سرا كذلك قسوة العماد عون مع هذه القطاعات واقفال أذنيه وعينيه امام معاناتها اكثر من سنة ونصف شارك خلالها، بدون هم، في الاعتصام الدهري المنتج لليباس واليباب. ولم يرف له جفن حين اندفع في تنفيذ خطة اشعال الطرق وتقطيع أوصال المناطق وشل دورة الحياة وتحريك غرائز أهل البيئة الواحدة.

 

ولم يسأل عن الانعكاس السلبي لتوتير النفوس وتغطية التحريك الامني على عودة الطاقات الاغترابية وثقة الرساميل والمستثمرين، مقابل تشجيع المال السياسي (“الطاهر" و"الحلال") واستسهال المكاسب الريعية بدلا من الانتاج. ولعل أخطر ما في خطة ضرب الركيزة الاقتصادية، في الايام الاخيرة، هو استهداف الحالة الوسطية بذريعة لونها او لا لونها السياسي. فهي تشكل صمام أمان أي مجتمع ليس في لبنان فحسب، بل في كل المجتمعات الحديثة، لانها تنشد الاستقرار والازدهار في عملها وتعتمد روح الاعتدال والمصالحة والنجاح. واذا دققنا في هوية الوسطيين عشية الانتخابات النيابية لتأكدنا من انتماء معظمهم الى طبقة المنتجين (صناعيين، مصرفيين، أصحاب مؤسسات سياحية، رجال انماء وحركة اقتصادية واجتماعية وخدماتية). هؤلاء هم المستهدفون بحملة عون وحلفائه بصرف النظر عن اصطفافهم السياسي.

 

5 – الركيزة الاجتماعية، واساسها العائلة

ان العائلة المسيحية (معظم المنازل) تعاني وضعا غير صحي، على مستوى الخيارات السياسية، اكثر بكثير من عائلات الطوائف الاخرى. وكان يمكن اعتبار هذا الاختلاف السياسي داخل العائلة المسيحية دليل عافية وديموقراطية وتنوع خلاق ونموذجا تحتذيه العائلات المسلمة، لولا اتخاذه منحى الانقسام السلبي العمودي، واصطباغه بلوثة تنافر وارتياب متبادل، وتحاقد احيانا.

 

العلاقة السلبية في البيئة المسيحية ليست جديدة، فعمر الصراعات يبن المسيحيين (الموارنة خصوصا) من عمر اجتماعهم قبل مئات السنين، وفي تاريخهم المعاصر خلافات سياسية في المنازل وصدامات دموية كثيرة بين القوى: من مزيارة، الى اهدن، الى الصفرا ومواجهات الكتائب والاحرار، الى انقلابات "القوات" وحرب "الاتفاق الثلاثي"، الى "حرب الالغاء". وحدها هذه الاخيرة (الالغاء 1990) هددت بحالة انقسام فعلي بين المسيحيين بتشكيلهم السياسي والعسكري وخلاياهم الاجتماعية، وتركت ندوبا اعمق من سابقاتها، لكنها كادت ان تندمل وتشفى بفعل المعاناة المشتركة بين السجن والمنفى واثمان الكفاح لتحقيق السيادة والحرية والاستقلال، ومصالحة اليرزة في ايار 2005، واللقاءات اللاحقة بين الارز والرابية ومعراب.

 

ثم جاء حلف شباط 2006 فنسف النقاهة المسيحية. تبدلت الحسابات والرهانات والمواقع، ولاح بريق كرسي قصر بعبدا، وضربت الوعود، وانقلب عون على كتابه البرتقالي، وعلى المصالحة الداخلية لمصلحة الخارج، وعلى مسار التضحيات المشتركة، وعلى التاريخ، وبدأ الحفر اعلاميا وسياسيا واهليا في جروح الذاكرة تحت شعار تطهيرها، واعاد احياء كل الصراعات السابقة، وضمها الى صراعاته، ووضبها معا في علبة واحدة هدية مفخخة للعائلة المسيحية الصغيرة والكبيرة.

 

هل كانت مصادفة ان يحصل نكء الماضي المسيحي الاسود غداة عقد التحالف بين عون ونصرالله؟ هل مصادفة نحر جهود المصالحة على مذبح الزيارتين "التاريخيتين" لايران وسوريا؟ وهل مصادفة ان يتسمم المناخ المسيحي منذ ثلاث سنوات، ويستمر التسمم ويتفاعل بمفاعيل "التفاهم"؟!

 

الثابت ان صحة بعض المسيحيين ليست جيدة، والداء في الدار. والاكيد انهم في حاجة الى علاج سوسيولوجي – نفسي – سياسي قد يستغرق سنوات، وربما جيلا كاملا، من اجل انقاذهم من حالة "داهشية" تفصمهم عن ذواتهم، لان الخطر لا يتهدد فقط الركائز الخمس التي ذكرنا، بل يتمدد الى المفاهيم المسيحية الاساسية السبعة. وهذا بحث لاحق.