فرض النسيان بين السلامة والكرامة
بقلم/الياس الزغبي

قبل 12 سنة فرضت تركيا على سوريا نسيان "اللواء السليب" تحت ضغط التهديد بالاجتياح العسكري، فأمر الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بشطب لواء الاسكندرون من الأدبيات السياسية، ومن كتب التاريخ والجغرافية، في سوريا، وقطع مع الماضي، وأقفل الذاكرة السورية على الحق الجغرافي التاريخي الذي زاوج بعد 1948 بين "الوطن السليب" (فلسطين) وبين "اللواء السليب"، وقدّم الاسد الأب هدية اضافية الى الدولة الطورانية: رأس "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان.

اليوم، تفرض سوريا على وليد جنبلاط نسيان استشهاد والده وعدم الاكتفاء بالمسامحة، فأوكل الى نجله تيمور اقفال ذاكرة العائلة والحزب والطائفة، وأورثه مستقبلا مقطوعا عن ماضيه، بذاكرة مبتورة، تحت شعار العودة الى الحضن السوري الدافىء، وصلة الأرحام. (هل في علم النفس قدرة على الغاء الذاكرة الاّ في حالة فقدانها بفعل المرض؟).

كان على دمشق أن تنتظر 12 عاما كي تقبض ثمن النسيان من تركيا، فاطمأنت الى زوال خطر الجارة الشمالية الشرقية، ونالت اتفاقات استراتيجية وحدودا مضبوطة ومفتوحة.
كم سينتظر وليد جنبلاط مع وريثه ثمن الذاكرة المفقودة، وهل هناك فعلا ثمن سياسي يقبضانه في الطائفة، وفي الأوزان اللبنانية الداخلية، وعلى حساب من، وهل في الافق دور أكبر للسلالة المأزومة، أم أن البدل يقتصر فقط على حق البقاء والاستمرار على قيد الحياة السياسية، على قيد الحياة؟

في استعادة بسيطة للتاريخ السياسي الحديث، يتبيّن أن دور العائلة الجنبلاطية والطائفة الدرزية كان يتعاظم مع انخراطها في سياق سياسي متمايز عن النظام السوري، وليس العكس ... (ولكن بأي ثمن؟):
- بلغ كمال جنبلاط أوج قوته السياسية قبل اغتياله بسنوات، بفعل السياسة العربية والدولية الواسعة والمتحرّرة من القيد السوري، فنسج حلفا قويا مع ياسر عرفات، وقبله مع جمال عبد الناصر وكبار العالم، ما جعل له موقعا متقدّما بين أصحاب القرار، برغم ضآلة وضحالة الحضور الدرزي الديمغرافي والسياسي.
- وليد جنبلاط نفسه تربّع على عرش زعامة لبنانية بامتداد عربي طوال سنوات أربع، حين كان في الموقع المواجه للنظام في دمشق.
قبل ذلك، وعلى مدى 27 عاما، كان وليد جنبلاط زعيما محليا بارزا على غرار زعماء الطوائف الأخرى، خاضعا للدوزنة أو البرمجة التي فرضتها سلطة الوصاية على أحجام السياسيين وأدوارهم.

صحيح أنه حصل على مكاسب ومغانم كثيرة في ظل هذه الوصاية، كان أبرزها تخصيصه بدوائر انتخابية تؤمّن له كتلة نيابية مميزة، لكن عدد النواب لا يصنع، وتحديدا تحت الوصاية، أدوارا تاريخية وأحجاما استثنائية.

وصحيح أنه كان صاحب تأثير سياسي و"نفوذ في الدولة"، لكنّه نفوذ معلّق على ارادة الوصي، وأحيانا مزاجيته، وخاضع لبورصة الحسابات والصفقات التي تقررها مرجعية عنجر، في
قريب هذا، أو تجريب ذاك، أو ارضاء ثالث، أو معاقبة رابع.

لا يستطيع أي مراقب أن يستشرف منذ الان ما سيكون عليه حجم وليد جنبلاط وخليفته، لكنّ التجربة بين 1976 و 2010 تكرّس معادلة العلاقة العكسية بين القرب والحجم: التحالف مع النظام يقابله الضمور في الدور والفاعلية. الثابت أنّ في حلف الأقليات تلتهم الكبرى الصغرى. هذه هي، على الأقل، تجارب المسيحيين سنة 1976، ثم سنة 982 ، ثم سنة 2006 ... فهل من يتّعظ؟

المثير للحزن أن المشكلة هي في الخيار بين السلامة والكرامة. قد تكون السلامة أغلى كنوز الأرض عند معظم الناس، والكرامة عند بعضهم.
ألا يحق للبنانيين أن يحقّقوا الاثنتين معا؟ الى متى سنظلّ نشتري سلامتنا بكرامتنا!

17 آذار/2010