"التفاهم" المميت

بقلم: الياس الزغبي

 

يندر، في السياسة، أن يبذل حليف نفسه عن حلفائه. بل، أكثر، ليس هناك شريك سياسي يبلغ مرحلة تذويب ذاته، ويضحّي بمصالحه ومواقعه كرمى لشريكه، الاّ في حالات ثلاث: خطأ جسيم وخطير في التقدير، أو جهل سياسي مطبق، أو ثمن شخصي من طبيعة غير سياسية، كالمال مثلا. أو الثلاث معا!

في الأمس القريب، قبل 11 شهرا، انزلق مكوّن سياسي لبناني الى هذه التجربة. هو حزب "الطاشناق"، الذي ضحّى بنفسه من أجل حليفه (السابق) العماد ميشال عون، واستقدم ناخبيه من أقاصي الارض، وزجّ بطاقته التجييرية القصوى في معارك بيروت والمتن وزحله، ونواح أخرى في جبيل وكسروان، وحصد خيبة مرّة، وتبخّرت الكتلة التي كان يحلم بها، ولعلّ الأسباب لم تكن داخلية. وغداة ظهور النتائج عكفت قيادته على الاستفاقة من الصدمة، وعلى ترميم الحطام السياسي، وأجرت نقدا ذاتيا، وانتهجت سياسة أخرى أعادت لها الكثير من التوازن الواضح في الانتخابات البلدية وتحالفاتها، وفي المواقف السياسية.

واليوم ، فريق آخر كان وازنا جدّا قبل سنوات خمس، يفقد وزناته بوتيرة مضطردة:

انّه "التيّار العوني" الغارق في بذل نفسه فداء لأحبائه، هؤلاء الأحباء الذين يغدقون عليه الحب القاتل مع الأثمان المغرية، ويعانقونه بحرارة حتى الاختناق. غريب أمر زعيم هذا التيّار كيف يتقن فن جمع الناس على عناوين سليمة، ويبدّدهم في تحالفات وخيارات عقيمة. يبدأ في الصحّ وينتهي في الغلط.

هكذا كان دأبه منذ المهرجانات الشعبية في بعبدا سنة 1989 ، وحتى انتخابات 2005 ، وبعد ذلك بدأ الانحدار المقيت على قارعة "التفاهم" المميت.

طرفا "التفاهم" اللذان خجلا في البداية بتسميته تحالفا وهو أعمق من ذلك، طافا به، سنوات أربعا، على حلفائهما قبل الخصوم، فلا تبنّاه ولا وقّعه أحد، وظلّ ثنائيا يتيما يدور على نفسه، ينهش أهله ويأكل موقّعيه، على الأقل أحد طرفيه، الذي يقدّم نفسه ذبيحة أمام صنم "التفاهم".

انفكّ عنهما أقرب الحلفاء، من حركة "أمل" الى "الطاشناق"، ومن "المردة" الى "الكتلة الشعبية" وحيثيات أخرى، ولم يبق في الميدان الاّ ذاك العاشق المولع ب "التفاهم" ، الذي ضاقت به السبل فسقط نهائيا في حضن الحبيب.

في جبل لبنان كان الدرس قاسيا جدّا، تفرّق من حوله الحلفاء، فلجأ الى خصومه في محاولة للعوم ضمن تحالفات مريبة اكتفى فيها بحصص خلفيّة، بحجّة شعار العائلات، وغرق بدلا من أن يعوم.

حتى "حزب الله" تركه على هامش البلديات في القرى المشتركة الشيعية المارونية في بلاد جبيل، وتفرّد بمجالسها، ولم يشفع "التفاهم" لرتق النسيج الأهلي الممزّق. 

ثمّ أوعز اليه بالانسحاب من تآلف بيروت، وخوض معركة المخاتير فقط، هبوطا من الوطن الى الزقاق، وجعله متراسا لحساباته، ولحق به للايحاء بأنّه تابع لمتبوع! وأهل بيروت يسألون: كيف يدّعون تخفيف التوتّر المذهبي بانسحابهم من الائتلاف بدل الانخراط فيه، وكيف يكون الاستفتاء على مختار ولا يكون على مجلس بلدي في العاصمة؟

وفي زحلة، أوهمه بلعبة الاستفتاء، ووعده بكل أصوات الشيعة لنفخ حجمه في عاصمة البقاع وانجاح استفتائه، وبرصّ صفوف الحلفاء تحت الطاولة بضغوط داخلية وخارجية، والناس هناك تضحك على هذه البدعة، وتسأل: كيف يكون استفتاء على اسم وليس على لائحة وبرنامج ونهج، وهل عدد الأصوات التي ينالها هذا الاسم تعبّر فعلا عن الارادة الزحلية، أليس هناك 3 لوائح وعمليات حرق أصوات كما في النقابات، فيتم شطب اسم من هذه اللائحة أو تلك واستبداله بالاسم المنفرد، لا تفضيلا أو تأييدا له، بل من أجل الشطب والحرق، مثل القروي الذي يحرق شرواله نكاية بجاره.

وماذا يقدّم "حزب الله" لحليفه منذ 4 سنوات، الاّ الدعم غير السياسي، وكتلة ناخبة صمّاء؟

قدّم له ورقة توت في الحدث وسحبها في جبيل.

وعده بورقة ثانية في زحلة، وثالثة في الدائرة الثالثة في بيروت،  ورابعة في جزّين، وربما خامسة ... في مدينة البترون .

ولكن.

ورقة، ورقتان، ثلاث...لا تكفي لستر كل هذه العيوب والعورات.

كما أنّ سنونوة ، أو ثلاثا ... لا تصنع ربيعا.

 

بيروت في 09 أيار/2010