ما بعد بكركي

بقلم/الياس الزغبي

 

أمّا وقد انتهت "العامّيّة" المارونيّة في بكركي الى لجنة كيل ومساحة ودائرة تسجيل وظائف، فلنناقشها في همّها واهتمامها أوّلا، قبل أن نطرح عليها همّنا المختلف، أو على الأقلّ، المنتمي الى الأصل والرسالة.

 

بالتأكيد، هناك أولويّة للحاجات البيولوجيّة: المكان، المساحة، الأرض، العمل والوظيفة، على قاعدة المعادلة المعروفة: "عش أوّلا ثمّ تفلسف".

 

ولكنّ هذه الحاجات، والنواقص، والاختلالات، لم تكن تتطلّب "مؤتمرا عاما" اختلط فيه الجدّ بالهزل والغثّ بالسمين والفولكلور بالرصانة.

 

قبل هذا "المؤتمر"، نجح بعض التحالف السياسي في تصحيح بعض الخلل، في 3 ادارات (على الأقلّ) هي قوى الأمن الداخلي وبلديّة بيروت ووزارة المال. وفشل تحالف آخر في تحقيق أيّ تصحيح في 4 ادارات أُخرى (على الأقلّ) هي دوائرمجلس النوّاب والضمان ووزارة الخارجيّة والجامعة اللبنانيّة.

 

اذا، المشكلة  في أساسها، هي حسن أو سوء الخيارات والتحالفات السياسيّة، وليست معضلة عضويّة كيانيّة أو قدريّة، ولا تتطلّب دبّ الصوت والتفجّع الوجودي، بل ثقة وشفافيّة في التعامل بين الحلفاء تكفلان التوازن والمناصفة، ولا يجوز التسليم التلقائي بوجود "مؤامرة اسلاميّة مبرمجة" لاستلاب الأرض والوظيفة من أمام المسيحيّين.

 

واذا كان لبكركي دور حاسم في تصحيح الاختلال، فهو في ترشيد بعض تحالفات الموارنة وتوعية أصحابها على الاستئثار المتمادي الذي يسبّبه حلفاؤهم، في الأرض والادارة والقرار، والكفّ عن تبرير الأخطاء والانحرافات العامّة لقاء المنافع الخاصّة، وعدم افتعال الضجيج حول استعادة حقوق المسيحيّين في الحقائب والحصص الوزاريّة من فوق للتغطية على الخلل الخطير في المراتب التي تحت الحقائب. الحقائب حقوق مكتسبة فوق مراتب مستلبة.

 

والسؤال المحوري الذي يجب أن تسأله بكركي: ماذا فعلتم في الادارات التي تولّيتم مسؤوليّتها منذ 3 سنوات، وأيّ خلل وظيفي صحّحتم، وأيّ عقار حميتم، وأيّ بيوعات مريبة سمسرتم؟

 

أمّا همّ الجماعة المارونيّة المتنوّرة الذي أغفلته "عاميّة بكركي"، أو أجّلته خوفا من التصادم، فهو جوهر رسالة الموارنة ومسيحيّي المشرق، عبر انخراطهم الفعّال في صنع المستقبل العربي، كما فعلوا في النهضة الأولى، وعدم التفرّج على النهضة الجديدة، وانتظار جلاء غبارها ثمّ الالتحاق أو الانغلاق.

 

بعض "أئمّة" الموارنة يضخّون اليوم حالة خوف على المسيحيّين من سقوط نظام الخلافة في سوريّا، الأمر الذي فعل أجدادهم عكسه قبل 100 عام ضدّ الخلافة العثمانيّة. لم يرتعب آنذاك الموارنة من النظام البديل، وكانوا روّادا للتجديد والتحديث، وصنعوا نموذجا حضاريا ظلّ يتفاعل عقودا حتّى تجسّد حالة متقدّمة قبل 6 سنوات، تستلهمه الآن الثورات العربيّة.

 

فما بالهم اليوم يخيّبون تاريخهم ورياديّة أجدادهم، وينكفئون الى حاجاتهم البيولوجيّة، ويلوذ بعضهم الى أنظمة صنميّة بحجّة الحماية؟

 

انّ ربيع العرب يقدّم فرصة ذهبيّة للموارنة، وسائر المسيحيّين، لاستعادة الدور التأسيسي للحريّات والديمقراطيّة، وخوض غمار النهضة الثانية، بالخروج من عقدة الأقليّات الى رحاب الأولويّات. وعليهم الادراك بعمق أن تحالف الأقليّات لم يسبّب لهم سوى الخراب: هجّرهم من الأطراف، قتل وشرّد مئات الآلاف منهم، وسلبهم الدور والصلاحيّات. فالأقليّة الأقوى تستبيح الأقليّة الأضعف بحجّة حمايتها من الأكثريّة. هكذا حدث للمسيحيّين في تاريخهم  المعاصر، مرّتين على الأقلّ، فهل يسقطون في الثالثة "الثابتة"!

هنا يجب أن يكمن المعنى الحقيقي للعاميّة المارونيّة في بكركي.

 

جيّد أن تهتمّ بضرورات العيش، ولكن "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان".

 

لا يشبع الموارنة من خبز لم يشاركوا في صنعه. فليذهبوا الى معاجن العرب وليس الى موائدهم فقط.

 

الاحد 5 حزيران 2011