من  "نازل ع لبنان" الى "لبنان أولا"
بقلم/الياس الزغبي

منذ زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق، بل منذ استقلال وليد جنبلاط ، أطلق كثيرون العنان لأمنياتهم وحسبوها وقائع وحقائق، وأوهموا أنفسهم بأن لحظة انفكاك العقد المسيحي- الاسلامي في "ثورة الأرز" قد حلّت فعلا، وأن التاريخ الذي صنعته "14 اذار" تناثر هباء في الريح السياسية العربية الاقليمية.

بعض الواقعية والتواضع يبيّن أن الامنيات هي نفسها هباء منثور، ليس فقط حين تجلّى تكامل مكوّنات التحالف الاستقلالي في مناقشات الثقة، بل قبل الزيارة، وفيها، وبعدها، وما دام الزمان.

واذا كان مسيحيّو " 14 اذار "يحملون بثبات ارث نضالهم الاستقلالي العريق، فان سنّتها يرسّخون باصرار انخراطهم التاريخي في خيارهم اللبناني، واعتناقهم الحاسم لأهداف انتفاضة الاستقلال. ولا تقل شريحة واسعة من الدروز وطليعة من الشيعة تمسّكا بهذه الأهداف، برغم ما تقتضيه مصالحة هنا أو لقاء هناك، فتتكوّن من هذا النسيج قماشة لبنانية متينة تضع كل الحالمين بانكسار مسيرة الاستقلال أمام الواقع الساطع: "14 اذار" ليست مجرد عنوان أو اسم. هي جذور ضاربة في عمق الحالة الشعبية والكيانية. ليست تشكيلاً سياسياً عابراً تتضافر فيه أو تتنافر أحزاب وشخصيات وأفراد، وتحكمه مصالح آنيّة ذاتيّة، بل جسم وطني يجسّد المستقبل الصحيح للبنان بعد أن تتبدّد الحالات الطارئة وتزول الطفرات الدخيلة، وهذا ما وضعناه تحت معادلة "حلف الأولويات في مواجهة حلف الأقليات".

ولا بد من تركيز الانتباه على الحالة السنّية الصافية التي ترفد المشروع اللبناني بأسباب القوة والمنعة، وتشكّل صمّامات أمان للفعل الاسلامي المسيحي المشترك، ولا بد من معاينة هذا الالتزام السنّي الصارم بأولوية لبنان على امتداد البيئة السنّية رموزا ووجوها ومناطق:

- من عكّار المخضّبة بلبنانيتها، الى المنية والضنية المطبوعتين على الشهادة، الى طرابلس والقلمون والكورة والبترون عائلات متجذّرة في انتمائها ووجوه مضيئة تنبض صدقاً لبنانياً حاراً.

- الى سنّة الجبل والاقليم السبّاقين في انتسابهم واندماجهم التاريخي.   

- الى بيروت، بشهدائها الكبار وعائلاتها العريقة ومقاصدها ومفتييها الشهداء والأحياء وأسمائها ووجوهها الشفّافة وأقلامها وألسنتها الناطقة بالحق اللبناني.

- الى صيدا اللبنانية الناهدة نحو الافق العربي بنائبيها رمزي الصلابة والحكمة والتقوى.   

- الى سنّة الجنوب الاعمق، حتى معاناة شبعا وكفرشوبا في ربط النزاع.                   

- صعوداً الى البقاع الشمالي، أصالة انتماء من بعلبك الى عرسال والفاكهة، ومنائر في الصفاء اللبناني ومرجعية الدستور.       

- الى البقاع الأوسط الذي يؤكّد، شهادة بعد شهادة، التصاقه بأولوية لبنان.

وأخيراً، الى البقاع الغربي حيث شهادة الذاكرة وعبرة التاريخ:

آخر الستينات، في مرحلة الشباب الأول، عملت مدرّساً في قرية الرفيد على خط راشيا الوادي، احدى القرى السنّية في البقاع الشرقي، وكنت أقصد بيروت مرة في الاسبوع لمتابعة دراستي الجامعية.

ذات يوم فاجأني سؤال أحد وجهاء القرية الشيخ صبحي القادري: "شو يا استيذ اسّا نازل ع لبنان؟ "للوهلة الاولى صدمتني غرابة السوءال، لكن سرعان ما تذكّرت ما تعلّمناه ونعلّمه، كيف تم ضم الأقضية الأربعة وبعض الساحل الى دولة لبنان الكبير بسعي البطريرك الماروني.

اليوم، وبعد 40 سنة، ها هم سنّة راشيا- البقاع الغربي وكل الأطراف والأقضية، وسنّة الجبل والساحل والقلب، ضالعون حتى العظم في لبنانيتهم الناصعة، يتابعون بشغف مشروع لبننة لبنان الكبير الذي صنعته بكركي، غير عابئين بتهمة الغلو والاصولية، فهل يقلّدهم أهل التقليد؟

هذا هو المعنى الحقيقي العميق للشراكة الاسلامية المسيحية، تحت الراية الحرة ل "14 اذار"، من أجل صناعة الوطن والدولة، وكل "شراكة" أخرى هي مجرد شرك في التبعية الاقليمية واشراك في الانتماء للبنان.

هذا هو سر الاستقلال الثاني الذي نقل السنّة، على وهج دماء رفيق الحريري، من "نازل ع لبنان" الى "لبنان أولا".

وتبقى كلمتان- رسالتان:

1- الى المضلًّلين من مسيحيي لبنان، من موارنته: هؤلاء هم سنّة لبنان، من مشتى حسن الى شبعا، ومن عرسال الى قريطم. هل تخافون منهم أم عليهم؟

2- الى الرئيس سعد الحريري، ما قال الشاعر، بشيء من التصرّف: "هؤلاء هم أهلي، فجئني بمثلهم اذا جمعتنا، يا رئيسُ، المجالسُ".

بيروت في 12 كانون الثاني/2010