خلاص المسيحيّين

بقلم/الياس الزغبي

 

مع بدء الانتفاضات الشعبيّة العربيّة ضدّ الأنظمة، ظهرت حالة خوف وتخويف في البيئة المسيحيّة اللبنانيّة والمشرقيّة.

 

واذا كان الخوف أمرا طبيعيّا في مراحل التغيير والانقلاب نحو مجهول ما، ولا يقتصر على المسيحيّين وحدهم، فانّ التخويف هو نتاج خطّة نفسيّة - سياسيّة وضعها النظام المترنّح في دمشق ويروّجها المرتبطون به من مجموعات مسيحيّة وأقلّويّة أُخرى.

 

هذا الترويج يقوم على الادّعاء أنّ النظام "العلماني" الأقلّوي البعثي السوري يشكّل ضمانة للمسيحيّين ويحميهم من خطر "اسلامي" أكثري داهم. وكأنّ حالهم في "ذمّة" النظام أفضل ممّا كانت عليه قبله، فيما هم يدفعون منذ 40 عاما جزية سياسيّة بالتسليم له بكلّ شيء، مقابل العيش البيولوجي الذي ضاق به أحرارهم، فخرجوا الى العالم الواسع يبحثون عن الحرّيّة الحقيقيّة، وتناقص عددهم في 4 عقود الى ما دون النصف.

 

ويغيب عن بال مسيحيّي النظام السوري اللبنانيّن أنّ الحضور المسيحي في لبنان لم يتقلّص الى نصفه، عددا ودورا وفاعليّة، والأطراف المسيحيّة لم تنحسر الى الداخل، والصلاحيّات المسيحيّة في الدولة لم تنكمش الى نصفها، الا تحت وصاية النظام نفسه، قبل الطائف وبعده، وتحت رعايته المباشرة لحروب التهجير والتحرير والالغاء والاقصاء، وكانت حصيلتها عشرات آلاف الشهداء والمفقودين والمعاقين ومئات آلاف المهجّرين والمهاجرين.

 

لقد دفع المسيحيّون أثمانا خطيرة لانزلاقهم الى ما يُعرف بـ"حلف الأقليّات" مرّتين في التاريخ الحديث، سنتي 1976 و 1982 (ولو بحكم الضرورة ورفع الخطر)، ويجب ألاّ يدفعوا الثمن مرّة ثالثة كما يحاول فريق منهم بتحالفه الضرير مع "حزب الله" ونظام بشّار الأسد، بحجّة الخوف من السنّة. والمؤسف أنّ هذا الفريق يحاول ايهام بعض المسيحيّن بأنّ مصيرهم في سوريّا ولبنان سيكون كمصيرهم في العراق بعد صدّام حسين، مروّجين لحكم فردي ديكتاتوري كحام لهم، فتسقط الحماية بسقوط الديكتاتور. وهو خطأ جسيم يربط مصير المسيحيّين بمصير فرد أو نظام (ألم يتّعظوا من الارتباط بالبعثي العراقي فتعلّقوا بتوأمه السوري؟)، بينما المطلوب أن ينسجوا علاقات سليمة مع الشعوب، ولا ينخرطون في تحالفات ضدّ الأكثريّات بحجّة التقاوي بين الأقليّات، وينوحون حين يسقط نظام ربطوا مصيرهم به. فأين تكمن مصلحة المسيحيّين في الالتصاق بحكم الأقلّية السوريّة وادارة الظهر للأكثريّة المنتفضة الآن؟ وما هي الحكمة في هذا الالتصاق الخطير بأقليّة، ولو مسلّحة وقويّة، في مواجهة امتداد أكثري ونكء مشاعره ورموزه وقبوره؟!

 

ويتذرّعون بالارشاد الرسولي الذي دعا الى الانفتاح والتفاعل مع البيئة العربيّة الاسلاميّة، وكأنّ الارشاد نصحهم بالتحالف مع أقليّات المسلمين ضدّ أكثريّتهم، وهذه هي قمّة التحوير والتزوير!

 

وقد جاءت الرسالة الواضحة والحاسمة من قمّة بكركي الروحيّة التي جسّدت حقيقة الارشاد وروحه، بينما شذّ عنها وخرق اجماعاتها طرف أقلّوي واحد، هو نفسه الذي خدع قسما من المسيحيّين ووضعهم متراسا لسلاحه ومشروعه ضدّ الأكثريّة، وأوهمهم بأنّه يحميهم ويحمي نفسه منها.. بسلاحه.

 

مؤشّر مثير للشفقة والريبة معا، سمعتُه من أحد مسيحيّي عكّار منذ بضعة أيّام: نظام الأسد يحمينا من السنّة، واذا سقط (لا سمح الله، قال!)، يحمينا "حزب الله"!

 

هل من مخدّر أخطر من هذا المخدّر، وهل من جريمة أفظع من تدمير عقل هذا المسكين وأمثاله الكثيرين ضحايا الأفكار المسمومة التي تُنتجها المطابخ المعلومة في مربّع الضاحيه دمشق طهران الرابيه!

 

لا خلاص للمسيحيّين بمسيح دجّال يجرّهم الى هاوية نظام متهاو، ومصير محتوم لسلاح غير شرعي.

 

خلاصهم بثلاثة: 

 

- وعي لحقائق الديموغرافيا وموازين القوى، والتمييز بين متغيّرات الأنظمة وثوابت الشعوب.

 

- نسج علاقة سليمة مع أكثريّات المنطقة قائمة على الأولويّات، ونموذجها الناجح والقابل للحياة تأسّس في لبنان في 14 آذار 2005، وأبرز عناوينها الحريّة والعدالة والديمقراطيّة ومرجعيّة الدولة، على أساس المعادلة: تحالف الأولويّات بدلا من تحالف الأقليّات.

 

- السعي الدائم لترسيخ قاعدة الاعتدال ونبذ التطرّف، وقد كانت لهم تجربة خلاّقة وحيّة منذ 6 سنوات مع حالة سنّية رائدة قادها "تيّار المستقبل". وخلاصتها أنّ متطرّفيّ طائفة لا يواجههم الاّ معتدلوها، وليس متطرّفو طائفة أُخرى. فالتطرّف الشيعي ("حزب الله") حليف موضوعي للتطرّف السنّي وليس نقيضه. وعلى بعض المسيحيّين أن يخرجوا من وهم هذه "الحماية" المعكوسة.

 

وما سوى ذلك خبط في المجهول، وبكاء على الفرص الضائعة وأطلال الدور والحضور.

 

الاحد 15 أيار 2011